أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

تحريض منتهي الصلاحية

فاجأ السعوديون بعضهم بعضًا برد فعل غاضب غير مسبوق تجاه بيان صدر من مجموعة من الدعاة المتحمسين أدانوا فيه التدخل الروسي في سوريا، وطالبوا في بيانهم، ضمنيًا، الشباب بالنفير لنصرة الفصائل الإسلامية هناك ودعمهم بشتى الوسائل. المفاجأة أن السعوديين هبوا فور انتشار البيان في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» إلى رفضه، متهمين من كتبوه ووقعوا عليه بأنهم محرضون يستهدفون إرسال الشباب الغض إلى سوريا كما فعلوا في السابق حينما حرضوهم على القتال في العراق، فماتوا شر ميتة أو سجنوا وعذبوا وأهينوا، أو عادوا ليبثوا سموم الإرهاب في مجتمعهم.
في بيانات سابقة، كالذي صدر في عام 2006 أو في بداية احتلال العراق في 2003، كانت لغة الخطاب مشابهة من حيث دعوة الشباب السعودي إلى نصرة السنة في العراق، ضد الأميركيين والإيرانيين والساسة العراقيين الشيعة، وكأنها مسؤوليتهم، بل وطالبوا الحكومة السعودية بأن تتعامل مع هؤلاء «المجاهدين» بلطف وألا يلاحقوا أو يسجنوا لأنهم جادوا بأنفسهم للذود عن الأمة!
لو كنا في ذلك الزمان الذي ولّى، لوجد مثل هذا البيان آذانًا صاغية عند كثير من الشباب، الذين لقنوا أن ذمتهم لا تبرأ وأهل السنة في العراق مضطهدون، وأن واجبهم الشرعي يحتم عليهم نصرتهم في كل حال، فيشد واحدهم رحاله تاركًا والديه وأهله ومدرسته وعمله متوجهًا صوب دولة لا تشتكي قلة المقاتلين، بل قلة الحكمة والإخلاص، ناسيًا أن يسأل من بعثوا به عن حال أبنائهم وإخوانهم ومن يعز عليهم ومن لا يبرأ القلب بفقدهم، إن كانوا ضمن قوافل النافرين للعراق أم أنهم قاعدون. اتضح للسعوديين أن في الأمر خدعة، وخدعة كبيرة انطلت عليهم، وأن منظري «الجهاد» يبيعون عليهم بضاعة فاسدة لا يطعمون منها أهل بيتهم، بل يضمون أولادهم تحت جناحهم كما تفعل الدجاجة، أو يبعثون بهم إلى أوروبا وأميركا للتعليم، بعيدا عن مناطق النزاع وكل هذا الهراء.
البيان الجديد مضلل، لم يقل صراحة أيها الشاب ضع من يدك واقفز إلى سوريا للقتال مع «جبهة النصرة»، الابنة الشرعية لتنظيم القاعدة، ولكنه رغّبهم في ذلك، وصور الحرب في سوريا أنها حرب دينية بين الأمة الإسلامية وروسيا الصليبية الأرثوذكسية، علمًا أن روسيا ليست بلدًا دينيًا، فنصف سكانها المائة والخمسين مليونًا هم من الملاحدة، وكثير من المسيحية الأرثوذكسية ليسوا متدينين. كما أن الثورة السورية كانت ثورة شعبية ضد نظام حكم قمعي، قبل أن يستقطب بشار الأسد تنظيم القاعدة إليها، لم تكن بدافع آيديولوجي لنصرة الطائفة السنية، وقد ظلت قرابة عامين لم ترفع فيها راية واحدة تحمل شعارًا أو رمزًا دينيًا.
المفارقة، أن القاسم المشترك بين هذه البيانات التحريضية كونها تجيء متوافقة مع الموقف الرسمي السعودي، فالسعودية لها موقف معروف رافض للغزو الأميركي للعراق حتى قبل دخول القوات الغازية، وعلاقتها بالحكومة العراقية إبان حكم سيئ الذكر نوري المالكي على درجة ملحوظة من التوتر، وفيها محطات كاد الخلاف فيها أن يصل إلى حد القطيعة. واليوم يخرج هذا البيان بعد أن صدرت من السعودية تصريحات مستنكرة للتدخل العسكري الروسي ومتوعدة، على غير عادتها، بشار الأسد بالرحيل سلمًا أو حربًا. أي أن مهندسي مثل هذه الخطابات لا يقفون ضد الدولة في المبدأ، وهذا ما يمنحهم الجرأة، ولكنهم يحاولون سرقة دورها في إدارة سياستها الخارجية، فيظهرون كحكومة ظل، أفرادها أسماء معروفة في العمل التنظيمي والميل الحزبي.
من ضحالة الموقعين على البيان في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، أنهم طالبوا قطر وتركيا بقطع علاقتهم مع إيران، لم يجر لعلمهم أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ألقى قبل أيام كلمة دولته في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوضح أن علاقة بلده الثنائية مع إيران تنمو وتتطور وأنه لا يواجه مشكلة معها، وهذا حقه، بل واقترح أن يكون وسيطًا للصلح بينها وبين دول الخليج، أما تركيا فعلاقتها التجارية مع طهران وأمنها القومي يجعلان من فكرة استعدائها لها حلم يقظة.
هذه المرة لا نستطيع أن نقول إن موقف السعوديين ظهر جليًا بالرفض والنفور من لغة التحريض بسبب أن وسائل التواصل الجديدة كشفت ما كان خافيًا، غير صحيح، فحتى لو لم تكن هناك هذه الوسائل السهلة حتمًا سنلحظ هذا التغير الكبير في نظرة الناس تجاه محاولات التأليب والتحريض، وقدرة كبيرة على طرح أسئلة موضوعية حول الهدف من مثل هذا البيان في هذا التوقيت المأزوم من عمر القضية السورية، وخلال حرب ضروس تخوضها السعودية مع دول التحالف في اليمن، والأهم من ذلك لماذا لم نشهد مثل هذه البيانات تندد بالعمليات الإرهابية التي ارتكبها تنظيم داعش في السعودية ودول الخليج؟ أين البيانات التي تدعو للالتفاف حول الدولة ودعمها بالكلمة والدعوة والدعاء، في جهودها المضنية لإرساء السلم في المنطقة؟
هذا البيان كان «ضارة نافعة»؛ ضرره أنه دلل على أن المحرضين، منظري الجماعات الحزبية، لا يزال لهم حضور، لم ينقرضوا. أما نفعه فقد أظهر ملل ونفور السعوديين واكتفاءهم من مثل تلكم اللغة التي فقدت صلاحيتها وتأثيرها وانكشف زيف أصحابها. وفي اعتقادي أن حتى من كتبوا البيان لم يتحسبوا لهذا الرد السلبي من الناس تجاهه، وإلا لاجتهدوا في تطويره.
رغم ذلك تظل هذه الدرجة من الوعي لدى الناس بحاجة إلى مساندة حكومية توقف مثل هذه المحاولات المستميتة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حينما كانت السذاجة والنية الطيبة تودي بحياة شباب صغار إلى التهلكة. قوة المجتمع قوة هائلة، هذا المجتمع تعلم الدرس، صحيح أن الوعي ليس عامًا ضافيًا شافيًا كافيًا، وصحيح أن محاولات التغرير لا تزال تحقق نجاحات في بعض المواطن، إنما الأكيد أن المجتمع يعيش حالة من الإفاقة غير مسبوقة، تحتاج رد فعل حكوميًا حازمًا تستند إليه، خصوصًا أن في البيان مخالفة صريحة للأمر الملكي الذي جرّم قبل عامين الدعوة إلى مناطق الصراعات، وهدد فاعلها بالسجن لمدة تصل إلى 20 عامًا.

[email protected]