نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

امتحان قدرة لم يكن له لزوم

على مدى الأسبوعين الماضيين جثم على صدر الفلسطينيين والمعنيين بأمرهم، كابوس ثقيل اسمه المجلس الوطني، الذي سيبت في أمر استقالة محمود عباس من منصبه كرئيس للمنظمة، ولا بد منطقيًا بعد ذلك أن تتلوه استقالة من رئاسة السلطة، ولقد خاف الفلسطينيون مما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وخاف جيرانهم من أن يجدوا أنفسهم فجأة أمام انهيار فلسطيني شامل، كما خاف عرّابو المنطقة وعلى رأسهم الأميركيون من أن ما يمكن أن يحدث على الساحة الفلسطينية لن يجد الوقت الكافي لاحتوائه والحد من تداعياته.
وقد زال الكابوس اليوم حين زفت رئاسة المجلس الوطني النبأ السعيد بتأجيل المجلس إلى إشعار آخر، وهذا يعني عدم القدرة على تحديد موعد جديد، وقد يستغرق التأجيل سنوات إذا ما ارتبط بالحصول على إجماع وطني بعقده، وتبنٍ إقليمي ودولي له ولنتائجه وعلى هذا الشرط فلن يكون هنالك مجلس على المدى المنظور.
وما حدث مع المجلس الوطني، كان بمثابة امتحان لقدرة القيادة الفلسطينية على التأثير في مجريات الوضع الداخلي، بل وحتى قدرتها على توظيف المؤسسات الفلسطينية وأهمها المجلس الوطني، في بلورة اتجاه قوي وفعال يستطيع الاستمرار في خط الاعتدال الذي مُني بانتكاسات فادحة خلال الأعوام الماضية، وجاء العجز عن عقد مجلس وطني بمثابة إخفاق إضافي يقرأه العالم على أنه عامل فلسطيني يجسد عجزًا ظاهرًا يعوق مسبقًا أي جهد يمكن أن يبذل لإنقاذ الاعتدال من كبواته وإخفاقاته.
ولو كنت مكان أصحاب القرار الرسمي في منظمة التحرير لتجنبت تمامًا الدخول في هذه المجازفة خوفًا من الرسائل القاتلة التي يوجهها الإخفاق فيها للفلسطينيين أولاً ولأصدقائهم وحلفائهم ثانيًا وللعالم الذي يفكر في حل قضيتهم، وبعد أن صار الإخفاق حقيقة، وضُربت أهم مؤسسة وطنية فلسطينية في الصميم وظهر أن قوى الاعتدال في الساحة الفلسطينية تراجعت بصورة ملحوظة أمام قوى التشدد، فقد ازدادت الصعوبات التي تحول دون فتح الملف الفلسطيني إلى جانب ملفات أخرى وبديهي أن يقول العالم لقوى الاعتدال الفلسطينية، راجعوا حساباتكم ورمموا بيتكم ذلك أن الشراكة في أي مشروع سياسي تتطلب أولاً قوة ذاتية للشريك وقدرة ذاتية على اتخاذ القرار وتنفيذ التزاماته.
كان الوضع الفلسطيني قبل موقعة المجلس الخاسرة من كل الوجوه أفضل نسبيًا مما آل إليه الآن، ولم تكن قوى الاعتدال المعترف بها إقليميًا ودوليًا بحاجة إلى امتحان قدرة كالذي حدث، كان عنوان الفلسطينيين الرسمي والعملي محسومًا ومختومًا بختم محمود عباس، وكانت قوى التشدد محسومة بمعارضة حماس وكان ميل العالم لدعم عباس والتعامل معه هو عامل الترجيح الأقوى في معادلة القوى الفلسطينية، وقد تغذت السلطة المعتدلة بقيادة عباس على هذا الترجيح الإقليمي والدولي على نحو مكنها من حجب أي اعتراف دولي فعال بحماس ما وفر مقومات فعلية لمواصلة القول إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد وإن حركة حماس مهما تعاظم نفوذها فلن تحصل في التقييم الدولي على أكثر من قوة معارضة وفعالة وغير مسموح لها أن تتعدى هذا الحد، وقد يبقى الأمر كذلك إلى وقت طويل، إلا أن العالم الذي يراقب ما يجري على الساحة الفلسطينية سيضع في ميزان تقويمه حقيقة أن الاعتدال في تراجع، والتشدد في تقدم، وهذا ما سيؤثر حتمًا على الرهانات والسياسات.
لم تكن حكاية المجلس الوطني انعقادًا وتأجيلاً مجرد زوبعة تركت غبارها وانجلت، بل هي أعمق وأشد تأثيرًا على الحاضر والمستقبل الفلسطيني، والذي يضاعف من مردود الخسارة المحققة في هذه المجازفة، أنها جاءت في وقت يعد فيه كل طرف شرق أوسطي أوراقه أو أرصدته للوجود في حفلة توزيع الحصص التي قد يتوافق العالم عليها بشأن مصير هذه المنطقة المنكوبة، ولو انتبه صاحب القرار الفلسطيني إلى هذا الأمر لتجنب الدخول في امتحانات لا أمل بالفوز فيها بل ولا لزوم للدخول فيها بالأساس.