عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الصورة بألف مقال!

الصورة بألف مقال، خصوصا لكسالى الصحافيين فتغنيهم عن تقصي الحقائق ووجع الدماغ والقلب في البحث عن المعلومات.
أذكر وكنت مراسلا في أفريقيا قبل 43 عاما صورة محفوظة في ذكرى كل جرنالجي كان حاملا قلما أو كاميرا. أ.فان ثي كيمفوك ابنة الثامنة الفيتنامية العارية الباكية تلقفتها عدسة مصور الـ«أسوشييتد برس» نيقولاس أوت في 8 يونيو (حزيران) 1972 ووراءها قرية مخربة فازت أوت بجازة بولتز للتصوير الصحافي لتصبح رمز عبثية حرب فيتنام.
صورة بألف خطبة نارية في ميدان الطرف الأغر ومائة مظاهرة في عواصم أوروبا. صورة جثة ابن الثالثة إيلان كردي التي ألقتها الأمواج على شاطئ مصيف تركي غيرت الرأي العام وطريقة تعامل الساسة مع طوفان المهاجرين (لتوخي الدقة من المستحيل الفصل بين المهاجر واللاجئ في لقطات التلفزيون. طبعا ليس كل المهاجرين لاجئين بينما لغويا وواقعيا كل اللاجئين مهاجرون).
أوت عرض حياته للخطر زاحفا تحت قصف القنابل ليغطي الحرب الفيتنامية بكاميرا محايدة، فكيف حصل صحافيو اليوم على صورة الغريق إيلان؟
تذكرة لوتاريا فاز بها علي بابا شارع الصحافة وزملاؤه الأربعون. أحد المصطافين على بلاج تركي وجد جثة الطفل التقطها على الموبايل واستمر في تسجيل فيديو لجندي حرس الشواطئ يحمل الغريق برفق.
الفيديو وصل (يعلم الله مجانا أم مقابل ثمن) إلى وكالة أنباء تركية، ثم لطشها أو لهفها أو خنصرها أو بلعها بلوشي (تعابير ابتكرها الوعي الشعبي المصري لوصف ثروة يحصل عليها المرء بلا مجهود) الصحافيون.
الصورة تحولت في يد صحافة اليسار أو اليمين، من جنوب المتوسط أو شماله، شرقه أو غربه إلى عصي يلهبون بها ظهر الخصوم أو شوكة يوخزون بها ضمير ساسة ثقلاء الدم على قرائهم أو مستمعيهم أو أصحاب محطة التلفزيون التي توظفهم.
صورة الغريق إيلان ووجهه البريء في الرمال المبتلة أصبحت إلهاما لعشرات من شعراء «فيسبوك». بثقل نصف قرن في العمل الصحافي أحني رأسي خجلا وزملائي في هرولتهم لزيادة التوزيع وجذب المشاهدين وتسديد ضربات (معظمها تحت الحزام) ضد ساسة «دمهم ثقيل» ضربوا عرض الحائط بأهم القواعد الصحافية والإنسانية التي وضعناها نحن أهل المهنة، لأنفسنا.
لائحة اتحاد الصحافيين البريطانية، إرشادات التحرير في «بي بي سي» وهيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية: لا تجيز بث صور موتى أو جثث قبل التاسعة مساء (موعد نوم الأطفال)، وتشدد على حرمة الموت فلا يجوز نشر صور جثث بوجوه مميزة على الصفحات خاصة الأولى التي تعرض في أكشاك الصحف حيث يمر الأطفال، ولا يجوز نشر صور أطفال (أحياء أو موتى) أو إجراء مقابلات مع أطفال بلا إذن أولياء الأمور ولا يجوز استخدام الأطفال صورا أو قولا لأغراض دعاية سياسية.
للأسف انتهكنا (بعدساتنا وأقلامنا وآلات طباعتنا وشبكات بثنا) اللوائح والقواعد الأخلاقية التي وضعناها لأنفسنا عبر أجيال طويلة مصرين على عدم تدخل الحكومات وصناع القوانين في مهمتنا التي وجهنا إليها صفعات الإهانة.
نشرت صور غريق لم يتجاوز الثالثة على أربعة وخمسة أعمدة، وبثت شبكات التلفزيون الصور دون أن تستخدم النقاط الرقمية pixels إخفاء الوجه واحتراما للموت، في أوقات وساعات يشاهد فيها الصغار التلفزيون ليبكي الأطفال وهم لا يفهمون لماذا يعامل طفل مثلهم كدمية لعبة محطمة وليست لحما بشريا.
في اندفاعهم لإحراج رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لأنه يقف صامدا أمام ابتزاز الاتحاد الأوروبي بفرض «كوتة» من المهاجرين على بريطانيا رغم أنها أسهمت للاجئين السورين بأكثر من مليار ونصف المليار دولار ضعفي ما قدمته دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وفي اندفاعهم لإدانة بلدان الخليج (رغم ملايين الدولارات من بلدان مجلس التعاون وقبول الآلاف كأقارب لسوريين مقيمين، لكنهم لا يظهرون على السجلات كلاجئين).. لم يسأل زملاؤنا الأسئلة المعتادة التي تصاحب البحث الموضوعي لاكتشاف أبعاد أي قصة قبل النشر أو البث: من المسؤول عن مصرع إيلان؟ جشع مهربي البشر المجردين من الإنسانية، تقاضوا الآلاف من الأسرة، ورأينا جثة إيلان بلا سترة الوقاية من الغرق (lif- jacke).
لم أسمع صحافيا واحدا من أي جنسية يذكر هذه الملاحظة: مهرب يتقاضي 1500 دولار للشخص الواحد ولا يوفر سترة وقاية من الغرق بخمسة دولارات. لم نسمع صحافيا واحدا يسأل عن دور تركيا. أين يعمل مهربو البشر؟ كيف يتحركون بحرية؟ من أين أتى القارب الذي غرق فيه الطفل؟ أين خفر السواحل التركي؟
غابت الأسئلة المعتادة المتوقعة من أي صحافي (غير كسول) في تغطيته لأي قصة صحافية، بينما سمعنا أسئلة افتراضية عن «رفض بلدان الخليج الغنية الاعتراف باللاجئين أو مساعدة أبناء عمومتهم العرب». لم نسمع في «بي بي سي» أو القناة الرابعة أو نقرأ في «الغارديان» عن طلب صحافي مقابلة مع دبلوماسي أو مسؤول خليجي أو حتى معلومات أو أرقام من سفارة خليجية، فقط تكهنات وتخمينات بصورة نمطية مختزنة في العقل الكسلان للمهاجمة.
الرأي العام غيرته صورة الطفل الغريق. ورغم أفضلية ديمقراطية الانتخاب المباشر فإن لها وجها آخر: حساسية غير منطقية لدى رجل السياسة المنتخب من أي تغير في الرأي العام.
صورة الطفل الغريق، تبعها فيضان لا يزال مستمرا من صور آلاف اللاجئين سوريين ومهاجرين من جنسيات أخرى حائرين بين المجر والنمسا.
رئيس الوزراء كاميرون أدلى بتصريحات عاطفية، وحكومته اتخذت سياسة عملية، زيادة الدعم لمنظمات غوث اللاجئين في المنطقة، وفتح الباب لاستقبال بضعة آلاف من اللاجئين السوريين من مخيمات في لبنان والأردن، ورفض ضغوط أوروبا بقبول كوتة تفرضها ألمانيا عبر بروكسل. القرار يرسي سابقة فتح قنوات شرعية وآمنة لإحضار لاجئين من على الحدود السورية في حاجة للرعاية الصحية، لقطع الطريق على عصابات تهريب البشر. فأسوأ القرارات ما يتخذ بتسرع استجابة لموجة عاطفية تعصف بالرأي العام.
إعطاء إشارات بأن من يصل إلى أوروبا سيجني ثمارا من المن والعسل يعني استغلال عصابات تهريب البشر لآلام أو أحلام البسطاء، ومزيدا من جثث الأطفال والكبار على رمال الشاطئ.
أوروبا قد تستوعب بضع مئات من الآلاف تحت ضغط رأي عام تأثر عاطفيا بصحافة الكسلاء، الصحافة نفسها التي ستركز على عواطف من نوع آخر عندما تتحول مشاعر الرحمة إلى الرفض والكراهية، فور اصطدام العواطف بواقع ضغوط المهاجرين على الخدمات والمرافق وانخفاض الأجور. الساسة المنتخبون سيتحولون مائة وثمانين درجة استجابة لضغوط الرأي العام.