رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

رؤية سعود الفيصل للقضايا العربية والإسلامية

أذكر أنّ المرة الأُولى التي سمعتُ فيها جديدًا بشأن «القاعدة» والأصولية، كانت من الأمير الراحل سعود الفيصل عام 2006. ففي حديثٍ إلى صحيفة «نيويورك تايمز» آنذاك، قال الفيصل: إنّ «القاعدة» وما يظهر الآن بالعراق، ليست تنظيمات إرهابية عادية. بل إنّ هؤلاء يعتقدون الخلافة العالمية. ولذا فإنّ إرهابهم سيقوى ويتضاعف وفي الحالتين: حالة تعرضهم لضرباتٍ شديدة تُضعفُهُم فيزدادون حقدًا، وحالة استقوائهم نتيجة عدم الاجتماع على مكافحتهم؛ إذ عندها سيزدادون شراسة لدُنُوِّ تحقُّق هدفهم فيما يعتقدون: إقامة دولة الخلافة!
وقد جادلتُهُ عندما لقيتُهُ عام 2007 خلال اشتباك الجيش اللبناني مع تنظيم «فتح الإسلام» بمخيم نهر البارد بشمال لبنان. قلت: هذه سلفياتٌ جديدة منقلبة على التقليد السلفي. وقد تطمح لإقامة دولة إسلامية مثل الإخوان، لكنهم يعتبرونها دولة الكتاب والسنة وليس الخلافة. ثم إنّ السلفيين سواء أكانوا قُدامى أو جُدُدًا لا يعتبرون «الإمامة» ركنًا من أركان الدين! وقال: أنت تقرأ وتتابع الموضوع أكثر مني، لكنْ رغم ذلك فإنّ رؤيتك ما تزال تقليدية، اعتمادًا على أنّ الملك عبد العزيز رحمه الله ما أراد أن يأخذ الخلافة بعد سقوط بني عثمان، وأنه آثر إقامة دولة الكتاب والسنة. لكنّ هذا الزمن مضى وانقضى؛ وليس منذ حرب العراق أو الحرب على العراق، بل منذ التشارُك بين عبد الله عزام وأسامة بن لادن، ثم مُبايعة الملا عمر أمير طالبان بالخلافة وإمارة المؤمنين في أحد عامي 98 و99! فقد جرى تزاوجٌ بين السلفيات الجديدة والإخوان في هذا المجال. أما الإخوان فقد صنعوا مشروع الدولة، وأما السلفيون الجدد، فإنهم حولوا ذلك إلى نضالٍ جهادي من أجل إحقاق الدولة، وإقامتها لاستعادة الشرعية بتطبيق الشريعة! وما انقضت أشهرٌ قليلة حتى بدأت معالم «الدولة» تظهر بإعلان الزرقاوي عنها. وقد اقترن ظهورها «المبارك» ببدء ممارسات قطع الرؤوس، وتهجير الناس، وذلك لسببين: أنهم القائمون على الدين وولاة أمر الشرعية، والسبب الثاني: الوظائف التي أُعطيت لهم من أجل تسعير الحروب الطائفية من جهة، وأن يظلَّ العالم معتقدًا أنّ أهل السنة هم التطرف والإرهاب! وقد يبدو لك ذلك مستغربا باعتبار أنّ «القاعدة» والزرقاوي أكثر، يملكان عِرْقًا عدائيًا ضد الشيعة والإيرانيين، وضد الأسد والمالكي، فكيف يتمكن هؤلاء من استخدامهما؟ وإذا أردْتَ مثالاً أوضح فانظر إلى ما يُسمَّى «فتح الإسلام» عندكم. فقد أرسلها النظام السوري بشكلٍ مباشر. وصدقوا أنه يمكنهم إقامة إمارة إسلامية في شمال لبنان. وأراد من وراء ذلك مساعدة حزب الله على إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. فالأنظمة وأجهزة الاستخبارات تستطيع توظيف وإعادة توظيف الأصوليات هذه التي تسميها أنت إحيائيات. إنما يكون علينا أن نعترف أنّ هذه التنظيمات ما أنتجها الأميركيون أو الإيرانيون أو نظام الأسد. بل قد تكون بالفعل انشقاقًا بداخل الإسلام. وإذا كان ذلك صحيحًا، فهذا أمرٌ خطيرٌ، ونحن مقبلون على صراعٍ طويل الأمد مع أنفسنا ومع العالم.
وفي محاضرة ألقيتُها بمركز الملك فيصل بالرياض عام 2014 بعنوان: «سياسات الدين في أزمنة التغيير» قلتُ مرة أُخرى بالانشقاق، ورأيتُ أنه لا بد من تغيير العلائق بين الدولة والمؤسسة الدينية باتجاه التشارُك وليس الاستتباع. ولا بُدَّ من التطوير المستمر في البرامج الدينية والتعليم الديني والإفتاء، بمعنى أنه لا بد من نخبة جديدة للتفكير والتدبير. وهذا بالإضافة إلى تغيير موقف المثقفين العرب من المسألة الدينية، فهم منذ خمسين عامًا لا يفعلون شيئا غير كتابة الأُطروحات الضخمة في كيفية الخلاص من الموروث من أجل التحرر والتحرير! وقال لي الأمير تركي الفيصل شقيق الأمير سعود إنّ الوزير رأيه أنّ الانفجار الديني بعد أن دخل عليه الإيرانيون والأتراك والأميركيون فضلاً عن الطغاة والأدوات، صار صعبًا جدًا. ولا بد من مبادرة سياسية واستراتيجية إلى جانب الثقافيات والدينيات التي يقترحها رضوان السيد!
قرأْتُ في ربيع عام 2010 أن الأمير سعود استخدم في مؤتمر القمة بمدينة سرت الليبية تعبير «الخواء الاستراتيجي» لوصف الحالة العربية. كان أمين عام الجامعة العربية آنذاك عمرو موسى يقترح حوارًا استراتيجيًا مع الجوار العربي، أي إيران وتركيا. وقال الفيصل: هذا الحوار لن يحصل لغياب شروطه. فنحن نعاني من حالة خواءٍ استراتيجي، ومنذ الغزو الأميركي للعراق، لا تنفكُ جهاتٌ في المنطقة والعالم تُشهِّر بضعفنا وأننا لا نستحق ثرواتنا. ثم إنهم يذهبون الآن أبعد مثل المساس بالأمن المائي لمصر، وسوريا والعراق، ومثل فصل غزة عن الضفة لتكونَ شوكة في خاصرة مصر، ومثل سيطرة إيران على قرار الأسد والمالكي وقد قالوا عام 2008 بقيام «محور المقاومة» بعد احتلال بيروت. لا بد من مبادرة استراتيجية على شتى المستويات، إمّا من خلال الجامعة العربية، أو من خلال مجموعة استراتيجية عربية، إذا حالت البيروقراطية والخلافات دون تفعيل الجامعة. إنّ الأضرار التي نزلت بنا وبقضيتنا الكبرى فلسطين تتجاوز الظاهر والمتاح. فأن تكون إسرائيل في صراع مع الفلسطينيين والعرب، فهو أمرٌ مفهومٌ وله تاريخ وجغرافيا. أما أن تزعم إيران أنها القائدة في تحرير فلسطين، فهو قلبٌ للتاريخ والجغرافيا، وإدخالٌ للدين في بطن الصراع بحيث يستحيل حله. وهو يعني واقعيًا احتلال إيران للأراضي المحيطة بفلسطين أو استتباع حكوماتها، لكي تستطيع الزعم والمساومة مع الولايات المتحدة على أمن إسرائيل، وهذه كارثة قد تؤدي إلى ضياع قضية فلسطين، خاصة أن تركيا (2010) بدأت الاهتمام بالقضية أيضًا!
ما عرف سعود الفيصل السياسة أو السياسات المحلية، ليس لأنه وزير للخارجية فقط؛ بل وللدور القيادي الذي تسنمته المملكة في العالم العربي، والعالم الإسلامي والعالم الأوسع، عبر ثلاثة عهود: فيصل وفهد وعبد الله. ولذلك كان الأمير سعود مهتمًا بالفعل بالتضامُن العربي للتمكن من القيام بالمهام، وسط الصراع بين سوريا والعراق من جهة، وانكفاء مصر من جهة أخرى. وعندما شهدتُ مجلسه في خريف عام 2012 قال أمامي: العراق ضاع، وسوريا تبتعد وتضيع. وإذا كان لنا حظٌّ نحن العرب في البقاء، فينبغي استعادة مصر، ينبغي استعادة مصر، ينبغي استعادة مصر!
كان سعود الفيصل يقول: لقد مارسنا دائمًا الدبلوماسية القوية أو قوة الدبلوماسية. لكنني والحق يقال، أشتاق أحيانًا إلى دبلوماسية القوة، ألم تقرأوا قوله تعالى: «ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم»؟ رحم الله سعود الفيصل، وحقق استمرارية الدبلوماسية السعودية والعربية القوية والقادرة.