سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«روحان» في جسد واحد

عندما جئت إلى الولايات المتحدة أوائل السبعينات كان المرء لا يزال يعي دائمًا، بصورة لا واعية، أو لا إرادية، أن هذا العالم، خصوصًا الجزء الأميركي منه، مؤلف من بشرتين: بيضاء وسوداء. كان العنف أسود والفقر أسود والاضطهاد أبيض، كما كان دائمًا، حتى في قلب القارة السوداء.
وكان العالم لا يزال يقرأ، في حزن وإعجاب ونقمة داخلية، أعمال الأدباء السود الذين تقدموا على البيض. كما كان لا يزال يذهب لحضور مغنّي الجاز و«الروحانيات» وكأنه يعبر نحو عالم آخر، مختلف ومضاد ومعاد. مذكرات الشاعرة السوداء تريسي سميث «ضوء عادي»، تتحدث عن خروج طبقة كبيرة من السود على الحياة العادية مع البيض. أولئك الذين يشكلون الطبقة المتوسطة، التي لم تعد أنتَ تلاحظ فروقاتها. ولكن ماذا عن أفراد الطبقة أنفسهم؟ كيف يشعرون؟
في كتابه «نفوس الشعب الأسود» (1905) يقول دبليو دوبوا إن «الأفرو أميركي يتطلع دوما إلى نفسه بعيون الآخرين: نفسان وفكران ومثالان متحاربان في جسد أسود واحد». في المدرسة قرأت تريسي سميث جميع الأدباء والشعراء البيض، واحتلت المرتبة الأولى على الدوام، وشعرت أنها تساوت مع اللون الآخر، لكن في زيارة إلى جدتها، قال لها أحدهم بكل عفوية: «آه، إن شعرك يبدو مضحكًا حقًا».
تذكرت الطالبة التي سوف تتخرج في هارفارد، مرة أخرى، أنها مخلوق ثنائي، أميركية وسوداء، جميلة وشعر أجعد، متقدمة في العلم ولكن على نحو ما، معزولة خارج أهل بشرتها. وإذ تتأمل قصائدها، تلاحظ أن معظم الذين تأثرت بهم بيض، إلا من شاعر أسود هنا أو هناك.
طبعًا ما زالت الشرطة البيضاء تقتل مطاردًا أسود. وما زال فقراء السود يحرقون قلوب المدن مثل بالتيمور أو فيرغسون، على أساس أنها ليست مدينتهم، بل مدينة الرجل الأبيض والأغنياء. ولكن للغرباء أمثالي، لا حصر للتغير الذي يحدث في أربعين عامًا. ثمة أماكن في نيويورك وواشنطن لم أكن أجرؤ على المرور فيها، والآن أتمتع بالتنزه على أرصفتها. وسوف تظل هناك «مناطق خطرة» كما في كل مكان في العالم، لكن لم يعد من الضروري أبدًا أن يكون لون بشرتها داكنًا.
تعيدنا تريسي سميث إلى الغنائيات السوداء التي قلَّت كثيرًا بعد التغيير الاجتماعي الذي حدث بدءًا من مجيء جون كيندي، وما أعقب ذلك من تطور قد يكون باراك أوباما أبرز رموزه. لكن في اعتقادي أن هناك رموزًا أعمق بكثير هي في أوساط الناس العاديين أو الحقيقيين. أو من يسميهم الأميركيون «الناس الصغار»، أي بسطاء هذا الكوكب، في جميع قاراته.