توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

بين هويتين

ليس من طبائع المجتمعات أن تتوحد «قلبا وقالبا» كما يقال في الأدب. هذا خلاف سنن الحياة الطبيعية. في كل مجتمع، صغيرا كان أو كبيرا، مصالح متفاوتة وتطلعات مختلفة وآراء متباينة وتجارب متنوعة، يمثل كل منها أرضية اختلاف. يتحدث الباحثون في علم الاجتماع عن «دوائر مصالح» متنوعة، كل منها يمثل إطارا يجمع طائفة من الناس حول فكرة أو عاطفة أو مصلحة مادية.
تعبير «مصالح» المستعمل هنا تعريب مقرب للأصل الإنجليزي «interests». وقد حرصت على هذه الإشارة لأن لفظة «مصالح» في العربية المتداولة تشير غالبا إلى أمور مادية، بينما يشير التعبير الأجنبي إلى نطاق أوسع، يشمل مثلا كل موضوع يجتذب اهتمام الإنسان أو يحركه. وهو في هذا التعريف الواسع يشمل مختلف العناصر التي تحرك مشاعر الناس أو تدفعهم للاجتماع مع بعضهم أو توحيد نشاطاتهم.
هذه إذن طبيعة المجتمعات وهكذا تعيش. ثمة من يجتمعون حول نسب واحد فيشكلون عائلة أو قبيلة. وثمة من يجتمعون حول قضية واحدة فيشكلون شركة تجارية أو نقابة أو جمعية مهنية أو حزبا سياسيا أو جماعة دينية أو ثقافية وهكذا. كل واحد من هذه التجمعات هو دائرة مصالح، اجتمعت فيها شريحة من الناس، طمعا في أن تحقق بعض ما يريدون.
بنظرة عامة نستطيع القول إن دوائر المصالح هذه نوعان: أولها عمودي موروث ينضم إليه الإنسان بالولادة لا بالاختيار. فالإنسان لا يختار انتماءه الديني والمذهبي والعرقي والقبلي، فهذا ينتقل بين الأجيال بالوراثة. أما النوع الثاني فهو الأفقي الذي ينضم إليه الإنسان اختيارا، ويتركه إذا شاء، وقد يطلق عليه التعاقدي. ينضم الإنسان إلى جمعية تجارية أو حرفية أو سياسية أو خيرية إذا شاء ويتركها إذا شاء.
لاحظ دارسو علم الاجتماع أن النمط الأول هو السائد في المجتمعات التقليدية، بينما تتسم المجتمعات الحديثة بانتشار النمط الثاني. أحد الأسباب هو سيادة مفهوم الاختيار والتعاقد القائم على تقدير الفرد لنفسه، و(بشكل عام) ارتفاع قيمة الفرد والمبادرة الفردية في المجتمعات المتقدمة، بخلاف نظيرتها التقليدية التي لا تمنح الفرد سوى قيمة ثانوية.
لاحظ الباحثون أيضا أن النمط الأول هو الإطار الأكثر شيوعا للتعصب والصراعات الطويلة الأمد. إذا جرى شحن الانتماء القبلي أو الديني أو المذهبي أو العرقي بمضامين سياسية، فإنه سيشكل قاعدة لتنازع مزمن، بخلاف النمط الثاني الذي لا يخلو - هو الآخر - من تعصب ولا يحول دون انفجار صراعات، لكنها قصيرة الأمد وقابلة للتفكيك والمعالجة بإجراءات غير مكلفة. هذا هو السبب الذي يجعلنا نقول إن منظمات المجتمع المدني توفر أداة فعالة لتفكيك البنية الثقافية – الاجتماعية للتعصب، وتسويد لغة الحوار والتفاهم بين الشرائح الاجتماعية من جهة، وبينها وبين الدولة من جهة أخرى.
يفسر التقسيم السابق أيضا أسباب تصاعد المشاعر القبلية والطائفية مع انتشار وسائل الإعلام واتساع التعليم، مع أن المفترض هو العكس تماما. وهذه إحدى المسائل الرئيسية التي عالجها بنديكت أندرسون في كتابه المرجعي «مجتمعات متخيلة».
تشجيع الناس على صبّ تطلعاتهم في إطارات حديثة تعاقدية، أي تحويل مفهوم المصلحة من الانتماءات الموروثة إلى الانتماءات الحديثة، سيؤدي تدريجيا إلى تفريغ الانتماءات التقليدية من مضمونها السياسي وإضعاف قابليتها للشحن السياسي. لهذا تهتم الأنظمة السياسية الحديثة بتشجيع ودعم المجتمع المدني في مختلف تعبيراته وتمثلاته، حتى لو اتخذ - في بعض الأحيان - مسارات غير متوافقة مع سياسات الدولة الرسمية. الأمر ببساطة اختيار بين من يعارض الدولة في مجال محدد، وبين من يعتبرها كينونة غريبة بناء على تبرير ديني أو إثني أو قبلي.