مصطفى أحمد النعمان
سفير وكاتب يمنّيّ عمل وكيلا لوزارة الخارجيّة
TT

اليمنيون ينتظرون ما سيفعله الرئيس

خرج الرئيس أم فر، هذه تفاصيل لا تغير من حقيقة ثابتة: الشرعية الدستورية والوطنية انتقلت مرة جديدة خارج المركز المقدس (صنعاء) الذي كانت بقية اليمن تنظر إليه عاصمة لا ترعاهم بالعدل والمساواة.. وأقصد صنعاء السياسية لا صنعاء الإنسان والأرض والمدينة الجميلة التي تحمل في زواياها عبق تاريخ إنساني عظيم وإرثا فنيا ومعماريا يعتز به كل يمني وعربي، كما يفخر بعبق وتاريخ شبام حضرموت.
في 1948 نقل الإمام أحمد مقر الحكم كاملا إلى تعز بعد اغتيال والده الإمام يحيى لينجو من ضغط صنعاء المختنق بمحيطها النافر من سلطة الدولة حتى وإن كان حاكمها إماما ينتمي إلى نسل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)... وتكرر الأمر في عهد الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني؛ إذ انتقلت البعثات الدبلوماسية إلى تعز أثناء حصار السبعين يوما على صنعاء عام 1968 ولم تعد إلى العاصمة إلا في عام 1970 عندما أعلنت المصالحة الوطنية وانتهت الحرب الأهلية.
يتكرر المشهد اليوم بصورة مغايرة لمجرى الأحداث، فقبل أيام معدودات كاد أمر انتقال السلطة يكون محسوما ولا أتصور أن أحدا غير الذين ساهموا في إطلاق سراحه من محبسه يعلم كيف تمت العملية التي ذكرتني حين سمعتها بالفيلم الشهير «الهروب الكبير» والخروج كان كبيرا فعلا بترتيباته ولكنه وهذا الأهم أحدث عاصفة سياسية غير مسبوقة على مدى التاريخ، فلا أتذكر أن رئيسا انتزعت شرعيته وقدم استقالته مرغما وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله وبدأ الفرقاء والمتطلعون يبحثون في أمر توزيع تركته السياسية، وحين ظن الكل أن الحوثيين صاروا متحكمين بسير الأمور على الأرض وأن القوة حسمت مآلات الحاضر والمستقبل، عاد الرئيس إلى الواجهة ليتصدر المشهد ويضع خصومه في أزمة لا يقوون على التعامل معها ولا يكترثون، عن جهل، لتبعات تهورهم العسكري وما سيجلبه من كوارث ومآسٍ لن تتوقف عند مواصلة عزلهم، وعزل اليمن، معهم، عن محيطه الإقليمي وهو الذي يمثل شريان الحياة لليمنيين داخل وخارج البلاد، لكن الأزمة ستدفع إلى حالة استقطاب حادة داخليا وخارجيا، فتوقفت عجلة الإنتاج كاملة ووضع الحوثيون البلاد على حافة انهيار اقتصادي وعرضت البلاد للتمزق، وهذا كله سيجعل من الصومال نموذجا يتمناه اليمنيون وفي أحسن الأحوال انفصالا بطعم العلقم أتمنى حزينا أن يكون هادئا.
تساءلت على هذه الصفحة في مقالة بعنوان «وهم السلم والشراكة الوطنية» في أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2014 عن الحدود التي سيقف عندها الحوثيون بعد استيلائهم على صنعاء، وانتقدت فيها الوثيقة التي صرخ كل الموقعين قسرا عليها ومعهم مجلس الأمن بأنها تؤسس لغد يمني أفضل، واليوم يعلن الرئيس هادي أنه أجبر على قبول بنودها ووقع معه عليها قادة الأحزاب الرئيسية (عدا أمين عام التنظيم الناصري الذي رفض التوقيع قبل التزام الحوثيين بالملحق الأمني)، وقلت «يتصور (أنصار الله) أن القوة منحتهم فرصة نادرة لن تتكرر لفرض ما يريدون واستنزاف الوقت لتوسيع رقعة سلطانهم، إلا أن التاريخ - ولعلهم قد قرأوه بعيدا عن نفسية الثارات ومتخلين عن النزعة لاستعادته بوصفه إرثا إلهيا - يعلمنا أن المشاهد قد تتكرر إذا كانت الظروف ملائمة، ولكنها قد تدور مرة أخرى فيدخل الوطن في دائرة شريرة من الأحقاد والنزاعات والحروب تحرمه الاستقرار والأمان اللذين صارا حلما يراه اليمني بعيد المنال».
كان مشهد الرئيس هادي محاطا بأمين مجلس التعاون وسفراء دول المجلس مؤشرا قويا للتغير الحاصل في السياسة الإقليمية تجاه اليمن، وأهم دلالاتها هي أخذ زمام المبادرة وعدم انتظار ما سيصدر عن مجلس الأمن الذي لم تعد لقراراته أي قيمة فعلية إلا عند الذين تستهويهم المفردات، لكن الدور الخليجي هو الأكثر حسما وجدارة وقوة، ومن المهم تواصل الدور لإقناع الفرقاء الرئيسيين بأن الحوار تحت المظلة الخليجية هو الأنجع والأكثر جدوى وديمومة لأنني ما زلت مرهقا في البحث عن نجاح واحد لمجلس الأمن فلا أجد إلا أن تدخلاته كانت كلها مقدمات ووقودا لاحتراب داخلي أو تشريعا لاحتلال، كما أن الانخراط الخليجي الإيجابي لا يجوز أن ينتهي بالتقاط الصور وقراءة البيانات ولكن يجب أن يتزامن مع دعم اقتصادي ومالي عاجل لوقف دورة الانهيار وألا يظهر بأنه عقاب لغالبية اليمنيين الذين وقعوا تحت قبضة القوة المسلحة للحوثيين.
إذا كنت ألح دوما على الدور الخليجي المأمول فإن الرئيس هادي عليه هو أيضا مسؤولية تاريخية لم يسبق أن واجهت أي حاكم يمني.
هادي اليوم في عدن ما يتيح له فرصة نادرة ليسترجع تجربة ثلاث سنوات مضت بهدوء وبعيدا عن الضغوط النفسية والمادية التي تعرض لها، وهو اليوم متحرر من كل تأثيرات الذين كانوا يحيطون به من أصحاب المصالح اليومية والمستدامة ويستوجب منه هذا ألا يكرر تجربته الماضية فعليه أن يحسن اختيار من يستمع إليهم وإن خالفوه الرأي وأن يبتعد عن الوجوه المنافقة المتقلبة، ولعله يدرك أن الغالبية الساحقة من اليمنيين لا تعنيهم اسم الحاكم ولا توجهاته ولا حتى صفاته، وإنما يثير همهم ويقلق منامهم كيف يدبرون قوت يومهم وأمن أبنائهم اليومي فلا أحد في اليمن يهتم بالتفكير في المستقبل فرغم امتلاء الفضاءات الافتراضية (مستخدمو الإنترنت في اليمن لا يزيدون عن 5 في المائة من عدد السكان) بالتعليقات وتبادل الاتهامات والتشكيك بالولاءات والانتماءات فإن اليمني البسيط يقضي يومه وليله باحثا عن أقل القليل ليسد رمقه وأسرته.
وهو يدرك أيضا أن التأييد الداخلي له هو في جزء كبير منه ناتج عن العنف الذي مارسه الحوثيون في كل منطقة وصلوا إليها، كما أن الأحزاب التي كانت تكيل له التهم التي وصلت حد التخوين ثم تحولت بين ليلة وضحاها إلى مدافعة عن شرعيته إنما تفعل ذلك انتقاما من الحوثيين وما ارتكبوه بحق عناصرهم لا دفاعا عن شرعيته الدستورية، ولقد أعاد هادي تأكيد شرعية مجلس النواب حين وجه إليه خطاب سحب استقالته فصار من اللازم البحث في إعادة التواصل مع رئاسة الجمهورية باعتبار أنهما المؤسستان الباقيتان بعيدا عن عبث الحوثيين المباشر الذين استهلكوا سريعا كل رصيد الوهم الذي زرعوه عند العامة بأنهم يحملون مشروعا حقيقيا لبناء الدولة فتحولت صورتهم إلى نقيض خطابهم.
الرئيس مطالب الآن بتشكيل فريق عمل وطني قوي وقادر ومبتعد عن الولاءات المذهبية والمناطقية والحزبية، واختيار هؤلاء المعاونين سيكون المؤشر على توجهاته وسيمنح هدوءا نفسيا – إذا أحسن – بمستقبل العلاقة الوطنية بين الشمال والجنوب، فإذا كان قد تحرر من ضغوط محيط المركز المقدس فهو اليوم جوار رغبة جامحة لدى كثير من الجنوبيين للإفلات من سلطة صنعاء ويرون في وصول هادي إلى عدن فرصتهم لإعلان الانفصال.