محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

حتى في الحروب العلم ينتصر!

حضرت فيلما بعنوان «لعبة التقليد»، وعلى عكس ما يرمي إليه الموضوع والعنوان، فإن موضوع الفيلم له علاقة بما يحدث في الشرق الأوسط اليوم. الفيلم مبني على قصة حقيقية تبين الجهود التي قامت بها بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية، من أجل تحقيق النصر، عن طريق العمل على فك شيفرة الجيش الألماني الذي يقوده جنرالات هتلر المنتصرون على ساحة أوروبا في السنين الأولى من الحرب. الفيلم حصل على جائزة الأوسكار، التي وزعت الأسبوع الماضي في لوس أنجليس، لأفضل نص سينمائي، كما كان بطلاه قد دخلا القائمة القصيرة للترشيح كأفضل ممثلين.
منذ بداية الحرب العالمية الثانية كانت جيوش هتلر تجتاح أوروبا، والقتلى بالآلاف، وقامت البحرية الألمانية بإغراق منظم لمعظم السفن القادمة إلى الجزيرة البريطانية من الولايات المتحدة، والمحملة بالعتاد والمؤونة، حتى وصل الشعب البريطاني، بجانب خسارته في الجبهات، إلى حد المجاعة. المشكلة التي تواجه العسكرية البريطانية وقتها هي تلك الآلة التي اخترعها الألمان والمسماة «الإنيجما»، وهي آلة تقوم بتحويل الأوامر العسكرية الألمانية إلى «شيفرة» غير قابلة للاختراق، ترسل إلى جبهات القتال بأوامر يومية، وكان الجيش والإدارة البريطانيان في مكان مظلم لعدم معرفتهما بخطط العدو.
تدور قصة الفيلم، التي لم تخل من دراما شخصية، حول محاولات البريطانيين فك تلك الشيفرة. بطل الفيلم أستاذ رياضيات في جامعة كمبريدج، غريب الأطوار، تجنده المخابرات البريطانية، مع مجموعة قليلة من أفضل العقول البريطانية، لمحاولة فك الشيفرة تلك.. دون ذلك كانت بريطانيا تتوجه إلى خسارة الحرب. البطل وهو واحد من الفريق الصغير قرر أن يبني جهازا لمحاولة فك الشيفرة، وكانت نظريته أن «الإنيجما» جهاز لا يمكن هزيمته إلا باختراع جهاز مضاد. كان «الإنيجما»، الجهاز الألماني، يغير تركيبته الشيفرية عند منتصف الليل يوميا، بحيث إنه لا عقل بشريا يمكنه أن يتابع تلك التركيبة الغامضة والمتجددة. إنه جهاز غير قابل للاختراق.
بطل الرواية كان يحتاج إلى مائة ألف جنيه لبناء ذلك الجهاز المتخيل الذي تصوره. الكل كان يستهزئ به: «مائة ألف جنيه في وقت الحرب.. لا بد أنه قد جن!.. عليه أن يعمل مع الفريق بالعقل البشري المتاح، حتى يصل إلى نتيجة»! وهنا تكمن الفكرة الأهم التي لفتت نظري بشدة، فقد كتب البطل إلى رئيس الوزراء وقتها ونستون تشرشل، يشرح المعضلة التي تواجهه، وطلب مائة ألف جنيه من أجل العمل على هزيمة «الإنيجما». بعد أيام جاء جواب رئيس الوزراء، ليس فقط بالموافقة على الطلب المالي الكبير، ولكن أيضا بوضع الرجل على رأس كل الفريق، الذي يعمل على فك «الشيفرة»!! وكما يتوقع القارئ فإن البطل في نهاية المطاف يبني ذلك الجهاز الذي استطاع أن يهزم «الإنيجما»، ويوفر على العالم على الأقل سنتين من الحرب الضروس، وينقذ من القتل المحتم أربعة عشر مليونا من البشر، ويجنب بلاده الاحتلال.
كتبت كل ذلك لأشير إلى أمر ما قد لا يلتفت إليه كثيرون، لأنه في الفيلم مر مرورا سريعا: «المجازفة في اتخاذ القرار المبني على إيمان مطلق بالعلم»! رأيي أن البطل الحقيقي الذي هزم جيوش هتلر الجرارة هو إيمان كامل غير متردد بالعلم من قبل القيادة البريطانية وقتها، وعلى رأسها تشرشل، وبأن ما يبذل في العمل العلمي لحل المعضلات من مال (في الحرب والسلم) يستحق كل ما يصرف عليه من أشكال الدعم. لنتصور لحظة أن ونستون تشرشل ذهب مع توصيات البيروقراطية العسكرية، وأن مبلغ مائة ألف جنيه في زمن الحرب (1942) مبلغ باهظ ينتزع من أفواه المواطنين الجوعى، فلا داعي لصرفه على بناء جهاز لا تعرف نتائجه. لو تم ذلك لمات الملايين، وتغير تاريخ العالم الذي نعرفه، وهزمت بريطانيا بكل تأكيد.
ما علاقة كل ما سردت بما نحن فيه؟ واضح أن العلاقة وثيقة، فنحن حتى الآن نسمع ونقرأ عشرات التفسيرات بشأن من هو «داعش»، وكيف قام، ومن الذي يدفعه إلى ما يقوم به من أعمال منكرة.. هذه الحيرة التي يذهب بعضها إلى تفسيرات إما «غيبية» أو «أسطورية» أو متخيلة تعني غياب الاعتماد على العلم في تفسير الظواهر الكثيرة حولنا، رغم وجود عشرات من مراكز البحث وربما مئات من المتخصصين الذين يظهرون لنا ليل نهار على شاشات التلفزيون.
الإيمان بالعلم ومواجهة مشكلات المجتمع بأدوات علمية ومنهج صارم، مهما كلفت تلك الأدوات، في سبيل تحقيق الانتصار على العدو، قضية لم تطرح كثيرا في مناقشاتنا، ويعتمد متخذ القرار العربي في الغالب إما على الحدس أو الصدفة، أو اعتقاده أنه يعرف أكثر مما يعرف الناس حوله، فتقع الشعوب في وحل الخراب والفاقة والانقسام. ويصادف كل ذلك في الغالب عقل عربي قابل للاقتناع بالخرافة والتفسير غير المنطقي، أو على الأقل غير المبني على شواهد علمية واضحة. تصور للحظة لو تم التئام مجموعة بحثية متخصصة حول متخذ القرار العربي، قبل أن يتخذ قرارا مصيريا، قناعتي أن ذلك القرار سوف يكون أكثر عقلانية، أما إذا تم الاعتماد على العاطفة، وتخيل غير الموجود، فإن الكارثة لا بد أن تحل. لقد عانى الشعب العربي في أكثر من مكان من تلكم القرارات الارتجالية والعاطفية غير المبنية على حقائق العصر، فأوصلت الشعوب من سيئ إلى أسوأ، والأمثلة حولنا كثيرة ولا حاجة بي هنا إلى سردها.
الإيمان بأهمية العلم الحديث قضية حضارية.. فذلك الجهاز الذي صممه المواطن البريطاني لمواجهة جهاز «الإنيجما» وقد سماه كريستوفر، على اسم صديق طفولته الذي مات في سن صغيرة، تطور حتى أصبح ما يعرف اليوم بالكومبيوتر الذي يقوم بمحاكاة العقل الإنساني، ويقدم الحلول تلو الحلول لقضايا الإنسان العملية والصحية والتعليمية والفضائية والبيئية!
نواجه في مجتمعاتنا ازدراء للعلم، أو تحويل العلم بمعناه الحديث إلى مفهوم تراثي، بل تنتشر في فضائنا ثقافة مضادة للعلم، فإن حدثت عاصفة رملية فهناك قول يقوم بتهدئتها، وإن مرض مريض فهناك قول يقوم بمعالجته، وهكذا حل القول في ثقافتنا المعاصرة بدلا من الفعل، الذي يتطلب قبل ذلك جمع المعلومات وربطها ببعضها بعضا واستخلاص النتائج المترتبة على التسلسل المنطقي لها.
قبل سنوات كثيرة، وبعد هزيمة العرب النكراء في عام 1967، كتب رجل من بيننا هو المرحوم أحمد بهاء الدين كتابا ملخصه أن الهزيمة حدثت بسبب بعدنا عن العلم الحديث، وهو قول لم نهتم بتعميقه لأربعين عاما. ولمناحم بيغن قول مشهور «أنا أؤمن بالتوراة، وأضع ثقتي في الفانتوم»، كما كررنا كثيرا كالببغاوات قول موشي ديان إن «العرب قوم لا يقرأون»!

آخر الكلام:
صدام حسين عندما قيل له إن طائرة «الشبح» من الصعب أن يرصدها الرادار، رد بالقول إن الراعي عندنا يمكن أن يراها.. وقهقه وجسمه يهتز!! ما يعانيه العراق اليوم نتيجة مباشرة لذلك الجهل في اتخاذ القرار!!