سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

من عِلجان

لعلنا نذكر جميعًا المؤتمرات الصحافية التي كان يعقدها الدكتور محمد سعيد الصحاف قبيل الاحتلال الأميركي لبغداد. في زيه العسكري الزيتي اللون والبيريه (القبعة) الفرنسية، شاغل أبو زياد صحافيي العالم، ليس بالأخبار، وإنما بالمصطلحات الخاصة به. أما الأخبار نفسها، فلم تكن ذات أهمية، لا عنده ولا عند سواه، خصوصًا أنه كان الأقل اقتناعًا بها، كما روى الصحافيون فيما بعد. فقد رأى الكارثة قادمة، وصار همّه أن يبحث عن مكان لعائلته، ولم يتردد في مفاتحة بعض الصحافيين بذلك.
سمّى الصحاف الأميركيين «الأوغاد» و«العُلوج». وانشغل الصحافيون والكتّاب العرب بالبحث عن أصل الكلمة الأخيرة. وكلما وردت في بيت شعر أو قول أو هجاء، جرى نقلها والبحث في جذورها. وكادت «العلوج» تتحول إلى أغنية أو «كليب» شعبولي لولا الحرص على مشاعر العراقيين، الذين ما لبثوا أن رأوا «العُلوج» ينزلون في بغداد.
عثرت، بمحض الصدفة، على أصل «العُلوج» وأنا أقرأ في محاضرة للأستاذ مروان أبي فاضل (الجامعة اللبنانية) عن «نظرة ابن خلدون إلى تاريخ اليونان القديم».
عن ولي الدين علي عبد الرحمن ابن محمد، المعروف بابن خلدون، عن ابن سعيد المغربي علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العماري الغرناطي نور الدين أبو الحسن، أن يونان هو ابن يافث، وأن «الملك استقر بعد يونان لابنه إغريقش (إغريق) في الجانب الشرقي من خليج القسطنطينية».
ونُقل عن ابن سعيد، فيما نقله هذا عن «البيهقي»، أن يونان هو ابن عِلجان بن يافث. قال: «ولذلك يقال لهم العُلوج، ويشاركهم في ذلك سائر أهل الشمال من غير الترك».
عين العِلج بالمفرد مكسورة، وعين العُلوج بالجمع بالضم، أو التنوين، وفقًا لطريقة الاستخدام. لكن عند الصحّاف، وردت بمعنى واحد وتهديد واحد. وفي سهولة تمت ترجمة كلمة الأوغاد إلى المعنيين بالأمر، لكن لم يخطر لأحد العودة إلى ابن خلدون، إلى ابن سعيد، إلى البيهقي لمعرفة الأصل الأول للكلمة، وأنه اسم علم، لا صفة ولا موصوفا.
بسبب تعابيره، تحوَّلت مؤتمرات الصحافة إلى سلوى رغم تهجمها وخطورة توقيتها. وأضاف إلى روح المفاكهة الزي العسكري الذي ارتداه أستاذ اللغة الإنجليزية السابق مع بقية الوزراء. وهو زي بقي رصينًا غير مرصَّع بالنجوم والرتب العليا، ولا مطرزًا بالأوسمة الفاقعة. والقبّعة نفسها، لم تكن مكتظّة بمذهبات العقيد وتيجانه وصولجانه وبقية العدة.
يبعد عنا التاريخ وهو قريب. لعل الدكتور الصحّاف ينصرف في أبوظبي الآن إلى كتابة مذكّراته. أو لعلّه يُريد أن ينسى. لكن مفرداته دخلت «الظرف الحربي».