سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

شهد وعقيق ونثر

أحبت العرب الشعر أكثر من النثر، فالأول غناء له رنّة كالسيوف.. يقرضه القلّة، ويحفظه القلّة، ويحسن روايته القلّة. فروسية الرجال وسمر المضارب والحداء في الترحل الطويل الشاق. نشيد الاعتزاز وصليل المفاخرة. مقفى ومرصوفا مثل الشهد. مزوقا مثل العقد، ملونا مثل العقيق.
ومهما حيك النثر وصيغ ورصع، يبقى كما اسمه، نثرا يُكتب ويُلقى ولا يُحفظ ولا يُغنى ولا يحدى به على ظهور النوق في الليالي المقمرة، أو الليالي الطوال المسهدة. ولطالما غنّى العرب لليل بسبب برودته ونجومه. والقمر مرافقا دليل يوزع الضوء على المتعبين وأهل المشقة. الشعر كان مساويا للمأوى، للبيت.. للخيمة. ولذلك، دلل مثلها وشبه بها وبحياكتها وسميت أقراطه بيوتا.
النثر لم يكن كذلك. لم تكن له معلقات، وسوق وعكاظ، ومعارضات، وسيف وترس، ولم يكن له عنترة أو متنبي. أحبت العرب الشعر لأنه كان لسانها في الحب، وسوطها في الهجاء، ورايتها في القبيلة.
والنثر كان لغة العامة وخطاب العاديين من الناس، والعاديات من الأيام. والبادية تحب التميز وتسميه المقام. ومقام الشاعر من قومه، كان كمثل مقامهم عند ملوكهم. فقد طمرت الرمال رماح ابن شداد وبقي فوقها بأحرف جميلة قصيده في الرماح. واغتيل أبو الطيب وظل ديوانه عند العرب معجز الشعر كما وصفه أبو العلاء. وأبو العلاء لا تعني العلو والرفعة، بل الغلبة. ونقيض الرفعة عند العرب كان الهجّاء المنكر الحطيئة. وسمي كذلك لأن الحطيء في اللغة هو الجدير بالاحتقار. ولم يترك الحطيئة أحدا أو شيئا إلا هجاه.. وما صدق مرة إلا في هجاء نفسه.
هل كانت العرب على حق في تحزبها للشعر؟ وماذا عن الجاحظ، وابن المقفع، وأبو حيان التوحيدي، والفارابي؟ وماذا عن الرسائل التي تبادلها الملوك؟ ولماذا غاب الشعر ولم يصمد في عزه ولم يعد راية المجموعة؟ هل إيقاع الحياة السريع دفع جانبا إيقاعه القمري الحالم؟ هل يمكن أن يحل جمال النثر المرسل محل القوافي المتراقصة؟ هل أغرق طوفان النثر القصيد والقريض؟ طبعا لا يُكتب عن هذه المسألة إلا بصيغة السؤال، لأن الأجوبة متفاوتة ومتراوحة، وبعضنا لا يحب حتى أن يفكر في الأمر. لا تحيِّر الناس بين حالتين جماليتين. اتركها في جنة الأذواق.