سعد المهدي
TT

تعرف عليهم من جديد ثم أطلق الحكم

قراءة الناس يحسن جميع جوانب حياتك، هذا ما يقوله مؤلف اعترافات هوليوود (دون كرتشفيلد)، تعزيزا لما ذهبت إليه الدكتورة ليليان غلاس، مؤلفة كتاب «أعرف ما تفكر فيه»، من خلال فهم شفرات التواصل، الصوت، والوجه، ولغة الجسد، هذا الكلام أيضا بحسب توصيف المؤلف الأكثر مبيعا لـ«نيويورك تايمز» (جافلت دي بكر)، الذي قال إن «أعرف ما تفكر فيه» مرشد عملي وفعال، يساعدك عند قراءته على رؤية، ما يفكر فيه الناس.
ولأن الناس باتوا حاليا، أسرى لما يقدم، على شاشات التلفزيون، من متابعات إخبارية، وتغطيات لأحداث مختلفة، وبرامج حوارية وغيرها، فقد فرضت عليهم علاقات جديدة، مع أشخاص مختلفين، بعضهم أغراب عنهم، في الفكر والتوجه، يقدمون البرامج، أو يقومون بالتحليلات، وتقديم الآراء والأفكار، ويمارسون النقد، أنشأت بهذا التواصل عند المتلقي، قناعات جديدة، ونقضت أخرى كانت سائدة، وحركت ثابتة من مكانها العتيد.
هذه الحالة ليست مستجدة، لكن حجم زخمها هو ما يدعو للقلق والتحسب، ومن ذلك فإن الاستعانة بمطالعات جادة للمتخصصين، قد تبدو مفيدة، مثل ما جاء في الكتاب المشار إليه، عن من أطلق عليهم اسم «مجموعة دائمي الشكوك»، إذ قال إنهم ضحايا دائمون، يشعرون أن العالم كله، يدين لهم، ولهذا فهم يتذمرون، ويشتكون بصفة دائمة، من أي شيء، وكل شيء، وتتمركز مناقشاتهم حول كيف أساء إليهم، كل شخص حولهم، وشعورهم السيئ تجاه شيء ما.
لابد أن نتذكر أنه بقليل من ساعات المشاهدة التلفزيونية، أو السماع الإذاعي، يمكن لنا أن نجد هذا النموذج، الشخص الذي يجذبنا بلعبه دور الضحية، ويجعلنا في صفه، نبحث عمن أساء إليه، وكيف؟ خصوصا أن هؤلاء لا يذكرون حقائق محددة، أو أسماء معينة، أو حوادث وقعت، يمكن أن تعين على إنهاء الأمر على أي نحو كان، بل تجدهم حريصين على جعل المسألة معلقة، رمادية، حتى يمكنهم أن يتغذوا عليها، ويعيشوا هذا الدور متى أرادوا.
ومن لك، فإن د. ليليان غلاس، تذكر فيما يخصهم: أنهم سواء كانت شكواهم، نتيجة اعتلال صحتهم، أو من علاقاتهم بالآخرين، فهم يجذبون الانتباه إليهم بطلب المساعدة من غيرهم، ولكن في نفس الوقت، إذا قدم أحد لهم المساعدة، نادرا ما يقبلونها، إذ يجدون عيوبا وأخطاء في كل من حولهم، وهؤلاء أيضا لا يقدرون مساعدات الآخرين، والنقطة التي أشعر أكثر بها شخصيا تجاه مثل هؤلاء، وذكرتها المؤلفة، هو أن التحدث معهم ولو لمدة قصيرة جدا، يستهلك طاقتك، وعلى أحسن حال يبدو عليهم أنهم يستمتعون بكونهم ضحايا.
توفر البرامج الرياضية الإذاعية والتلفزيونية، فرصة المتابعة للشغوفين بهذا المجال، المتابعة بقصد معرفة المستجدات على الساحة، والاطلاع على خفاياها، وتتحول عند البعض منهم، إلى وجبة رئيسية، تغذي عقولهم وتشحن عواطفهم، بما يطرح فيها، مما يحتاجونه ولا يحتاجونه، ومما يجب أن يكون مهما بالنسبة إليهم، وما هو غير ذلك، ويرتبطون بأسماء، يحرصون على متابعتها، ولو لتسقط أخطائها، أو لنقدها، أو حتى شتمها، أكثر من أن يأخذ عنها شيئا ذا قيمة، إذا افترضنا أن هناك في من يتابع من يمكن أن يكون مهتما بهذا الأمر، أو أنه سيجده، وهو في ذلك بات ضحية، حق البحث عن المعرفة والترفيه، التي تحولت دون أن يشعر، إلى حالة ارتهان للطرف الثاني، الذي وجد في ذلك فرصة العمر، ليحقق من ورائه الظهور والتحسب.
كلا الطرفين، معهما حق، فالمشاهد له أن يبحث عما يريد أن يصل إليه، من معرفة ومتعة ترفيه، ولهذه البرامج حرية اختيار الموضوعات، والعاملين على الإنتاج، والضيوف، لكن لا بد لطرف المشاهد أن يعلم يقينا، أن ما يقدم له ليس إلا بضاعة يراد ترويجها، لقبض ثمنها أو ثمن ما وراءها، من حقه القبول والرفض، وعليه فلا يجوز له أن يسلم بكل ما يطرح، أو يعتبره قيدا على قناعته به، أما الطرف الثاني، فلهم أن يفعلوا ما شاءوا، لكن دون تصور أنه باستطاعتهم خداع الناس الوقت كله.
نسبة المشاهدة، لا يمكن أن يحددها فعليا وعمليا، إلا العمل بنظام الكيبل، الذي لا يستخدم في المحطات التلفزيونية العربية إلا في لبنان تقريبا، يطمئننا حول عدم صحة نسب المشاهدة الطاغية، التي تتبعها قوة التأثير، التي يروج لها المستفيدون منه ادعاء، ويرددها آخرون لتأكيدها، بفعل تبادل المصالح، وهذا أيضا، لا يعني أنه لا وجود مهما لهم، لأن ذلك كان يعني أن الفضاء نقي خال من التلوث وهذا غير صحيح.
إن غالبية هؤلاء، يقعون فيما تم تسميتهم (مجموعة يحكي كل شيء)، التي تقول عنهم المؤلفة غلاس، إنهم من يحكون لك كل شيء، سواء كنت تريد أن تعرف أم لا، إذ يعانون من عدم الإحساس بالأمان، وليس لديهم حدود، فيسبب رغبتهم الذاتية في خلق نوع من الألفة مع من حولهم في حياتهم، لا يدركون أنهم بذلك، يصرفونهم، بعيدا عنهم، وقد يكونون مصدرا لضحك وسخرية الآخرين، لذا بدأ العالم يشهد خفوت وهج برامج الـ«توك شو» المباشرة، وما شابهها، وتراجع صرف محطات التلفزيون عليها، ومحاولة إعادة الصناعة التلفزيونية كاملة الدسم، بعد أن كاد أن ينساها الناس.