سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

دول التراحم

يتوارث الملوك ثقافة التراحم والعفو. والعدل من فرائض الحكم، وسعة الصدر قاعدة. لم يرتبط تاريخ أي نظام ملكي عربي بمحاكمات وإعدامات جماعية. لم تعرف الأنظمة الملكية في ليبيا والأردن والعراق ومصر والسعودية سجنًا سياسيًا جماعيًا.
سألت مرة المفكر والسياسي الفلسطيني عبد المحسن القطان عن سر الملك حسين، الذي سمى المتآمرين عليه رؤساء حكومات ووزراء وسفراء، فأجاب تلقائيًا: «لأنه ملك».
مؤامرة القذافي على حياة الملك عبد الله بن عبد العزيز امتلأت باعترافات المشاركين. وألغيت القمة العربية في تونس، لأنه تأكد للجميع أن الجريمة سوف تُنفَّذ هناك. ومع ذلك، عفا في قمة قطر التالية، وصفح وصافح، واكتفى من القذافي بقوله، إن مخابراته دبرت المؤامرة من دون علمه.
طوال 50 عامًا كانت إمارة الرياض ساحة للعدل والرحمة، نموذجًا ملكيا وكبرًا في معاملة الناس وحل قضاياهم. ما من شبيه لها في أي بلد آخر: تقدم إلى أميرها طلبات العلاج والتعليم والرعي والسقي والنزاعات العائلية، وأي شأن يخطر في بال مواطن. وكان الملك سلمان ينظر فيها جميعًا. وكان فريق عمله يتولى ملاحقة كل طلب. لا ميزات ولا تمييز.
في النظام الملكي الأبواب مفتوحة أمام الناس. قامت الدنيا قبل سنوات لأن 14 ناشطًا أُدخلوا السجن بعد بيان شديد العنف. لم يذكر أحد أن سلمان بن عبد العزيز كان قد أمضى الوقت الطويل في محاورتهم قبل ذلك. أو بعد العفو عنهم. وفي تلك المرحلة كان مئات المثقَّفين العرب يُحشرون في زنزانات السجون الثورية، والطلاب تعلق مشانقهم في حرم الجامعات أمام رفاقهم وأهاليهم.
قبل موجة الإرهاب، كنت تذهب إلى المقار الملكية فلا تجد سوى بضعة حراس يلقون التحية ويفتحون الأبواب، فيما كان الحكام الثوريون يقطنون في الثكنات العسكرية، ويغلقون الأبواب في وجه الناس، ويشنّون الحروب في كل اتجاه، ويرسلون الناس إلى الموت في كل اتجاه.
النظام الملكي هو الذي وحَّد السعودية، وهو الذي وحَّد العراق، وهو الذي وحَّد ليبيا. واليوم ليبيا والعراق في مهب الموت والقتل وخطر التقسيم. عائلات المطلوبين في السعودية تتلقى المساعدة والحماية والرعاية. وأحد حراس الملك عبد الله كان ابن جهيمان. وشاعر الحرس الوطني كان خلف بن هذال، عديل الرجل الذي حاول احتلال الحرم.
سدت الثورات المزيفة طرق التقدم في دول كثيرة. وأشاعت الخوف بدل الطمأنينة، وأثارت الناس والدول على بعضها البعض، وأحالت القانون على المحاكم العرفية، وأهبطت مستوى التعليم. وظلت الدول العاملة بالعدل والتراحم نموذجًا للاستقرار والتقدم.