إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

كيف ستعاملنا واشنطن عام 2015؟

ودّعنا عام 2014، كل عام وأنتم بخير، بالإخفاق في تمرير مشروع قرار إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة خلال ثلاث سنوات في مجلس الأمن الدولي.
الولايات المتحدة كانت مهّدت لهذه الحصيلة بإعلانها معارضته «لتجاهله اعتبارات إسرائيل الأمنية»، فأخذ المراقبون يرصدون الطريقة التي سيسقط بها مشروع القرار، وما إذا كانت واشنطن ستضطر لاستخدام «الفيتو». لكنها ارتاحت من الإحراج بـ{إقناعها» نيجيريا ورواندا بالامتناع عن التصويت, وبذا لم يتيسر تأمين الأصوات التسعة المطلوبة. وهكذا مرّ عام آخر من دون تسجيل تغيّر يذكر على الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية.
هذا الوضع لا يصدق على الصورة الكاملة لمنطقة الشرق الأوسط. فحيال المسائل الأخرى, وفّر ظهور – أو تظهير – التطرّف الإسلامي الأصولي بنسخته «الجهادية - التكفيرية»، لواشنطن وعدد من دول المنطقة والعالم الفرصة لإعادة صياغة أولويات سياسية وأمنية غاية في الأهمية. ذلك أن واشنطن ما عادت تعتبر النظام الحالي في إيران نظاماً معادياً، بل حليفاً لها في الحرب المستجدّة ضد «الجهادية التكفيرية»، ولو من دون إعلان ذلك صراحةً.
خلال هذا الأسبوع كتب الصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ مقالة لافتة عن موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما من إيران، واستطراداً من سوريا، في مجلة «ذي أتلانتيك» تحت عنوان مثير هو «إيران تفلت بجريمة قتل» عرض فيها ما ترتكبه إيران في سوريا. وكان غولدبرغ هو مَن عرض خلال مقابلة أجراها مع أوباما في مايو (أيار) الماضي، البوادر المبكّرة للتغيير الجذري في مقاربة البيت الأبيض للتعامل مع حكّام طهران والتوتر المذهبي السنّي – الشيعي في الشرق الأوسط.
غولدبرغ يستذكر مقابلة أجراها في اواخر عام 2006 مع السناتور باراك أوباما – كما كان يومذاك – سأله فيها عن التحدّيات التي يشكلها سلوك الدول المارقة لنظرية الردع العقلاني، فأجاب «بصرف النظر عما أودّ قوله عن السوفيات فهم أساساً محافظون، بينما تدفع الآيديولوجيا والأوهام نظام كوريا الشمالية والإيرانيين». ثم يتطرق غولدبرغ لمقابلته الشهيرة مع أوباما في «بلومبرغ فيو» فيقول «.. في وقت سابق من العام الحالي طرحت على أوباما السؤال التالي: أيّهما يشكل خطراً أكبر، التطرّف السنّي أم التطرّف الشيعي؟ فجاء ردّه كاشفاً تغيّراً مهماً في نظرته للنظام الإيراني. إذ بدأ الكلام بالقول، كما هو متوقّع «لست ذا خبرة كبيرة بالتطرّف عموماً» قبل أن يتابع قائلا إنه يجد المكوّن الأساسي في التطرّف الشيعي، أي النظام في طهران، «قدراً أكبر من العقلانية والمرونة مقارنة مع قوى الدفع الرئيسة للراديكالية السنّية». وأردف أوباما «لا أرى أنك ستجرني للمفاضلة بين الاثنين، ولكن ما سأقوله أنك إذا ما نظرت إلى السلوك الإيراني ترى أنه استراتيجي وليس انفعالياً. لديهم منظور عالمي، وهم يرون مصالحهم، ويتجاوبون مع الأكلاف والأرباح ...».
حسب غولدبرغ، جادل أوباما منذ تولّى الرئاسة بأنه يمكن كسب إيران عبر الإقناع والمسايرة والضغط عليها للتوصل إلى توافق، وهو رأي ثبت حتى الآن، مؤقتاً وجزئياً، أنه صحيح: العقوبات مضاف إليها تلويح أوباما المتكرّر باستخدام القوة لإقناع إيران بالتعليق المؤقت لجوانب عدّة من برنامجها النووي لقاء تخفيف محدود للعقوبات. غير أن أوباما وشركاءه الدوليين كانوا أقل نجاحاً في دفع إيران للتخلي عن برنامجها، ومن دون دعم إيران كان الرئيس السوري بشار الأسد قد سقط منذ زمن طويل.
وبعد أن يشير غولدبرغ إلى أن أوباما مقتنعٌ تماماً بأن الصفقة النووية مع إيران ستحل كل المشاكل، ستكون «جيدة للجميع، للمنطقة ولا سيما للشعب الإيراني»، يبدي الصحافي الأميركي شكه بأن الصفقة ومعها رفع العزلة عن إيران ستعزّزان الاعتدال، من واقع أنه «ليس في الأفق ما يشير إلى أن قادة طهران جاهزون لأن يكونوا جزءاً من منظومة دولية تحدّد مفاهيمها الولايات المتحدة، بل هم أكثر توقاً اليوم لأن تغدو إيران قوة هيمنة إقليمية وفق شروطها. بل كانت صريحة تماماً في القول إنها لا تعبأ مطلقاً بالتقارب مع الولايات المتحدة». ومن ثم يسرد كيف أنه «على امتداد الشرق الأوسط الكبير، اتسمت جهود إيران لتعزيز نفوذها بالفظاظة والقسوة» فهي تدعم المتمردين في اليمن والبحرين، وتتلاعب بالسياسة اللبنانية عبر حزب الله، وتتدخل في غزة ضد الآمال المتلاشية بحل الدولتين وتواصل التهديد بإزالة إسرائيل من الوجود، قبل أن يتابع «ولكن لا شيء يؤكد طبيعة الهيمنة والإمبريالية عند النظام الإيراني مثل دعمه لنظام الأسد في سوريا..».
وهنا، بعد تفصيله فظائع سوريا يخلص غولدبرغ إلى القول إن الولايات المتحدة وحلفاءها يحاربون فعلياً خصوم الأسد وإيران من سنّة «داعش» المتطرّفين مع أن «داعش» ليست سوى مشكلة تسبّبت بها مشكلة أكبر، «فلولا الأسد – أي لولا إيران – لما كانت هناك أصلاً «داعش» و{خلافتها» في الشام. إن القابلة التي ولّدت «داعش» هم الأسد ورئيس حزب الله حسن نصر الله وآيه الله خامنئي».
هذا الكلام لا يقوله اليوم خصوم الأسد من السوريين والعرب، ولا الجماعات المتشدّدة في المنطقة، بل صحافي ومحلل أميركي متعاطف مع إسرائيل... يقلقه التطرّف في الشرق الأوسط من أي خلفية.
ثم أن هذا الصحافي لا يريد من الرئيس أوباما التعاطف مع أي من الجانبين المتطرفين السنّي والشيعي ضد الآخر لأسباب تتصل بالحساسيات والولاءات التقليدية بالشرق الأوسط، بل يطرح الخلاصة المنطقية التي تقوم على أن «التطرف لا بد أن يولّد تطرفاً مضاداً»، وبالتالي، فإن تشجيع الاعتدال يحتاج إلى جهد مشترك وذي صدقية في الاتجاهين من دون تحامل أو أوهام أو فرضيات خاطئة.
ولئن كانت واشنطن اليوم في عهد أوباما ترى ان درء الفوضى في العراق بالذات غدت أولوية إقليمية، فهل لها تصوّر تداعيات فوضى إقليمية أوسع نطاقاً من العراق في حال اختارت الهروب إلى الأمام؟
إن تشجيع الاعتدال يبدأ بإجهاض مشاريع الهيمنة الاقليمية، وليس بتجاهلها.. ثم التقليل من شأنها، وصولاً إلى تبريرها.