حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

بوتين: المأساة الروسية!

في عوالم الأدب هناك نوع من الأدب المأساوي، ولعل أول من عرف به كانوا الإغريق، فهم الذين ابتدعوا عبارة المأساة الإغريقية، وفي الحقبة المعاصرة احتكر الأدب الروسي هذه العبارة وباتت إصدارات الرواية الروسية الناجحة مرتبطة تماما بمدى عمق وجذور ترابطها بالمأساة التي تطرحها في سياق أحداث الرواية وأبطالها.
فإذا كان شكسبير جسد المأساة الإنسانية ذات يوم في ملحمته الرائعة «الملك لير»، وكذلك قصيدة دانتي الذائعة الصيت، فإن الروس مثل تولستوي في «الحرب والسلام»، ودوستوفسكي في «الإخوة كرامازوف» و«الجريمة والعقاب» أيضا، وتشيخوف في رواية «المبارزة»، أبرزوا العمق المأساوي للشخصية الإنسانية والكامن والمدفون فيها يتحرك في السراء وفي الضراء متفاعلا.
هذا الإسقاط من الممكن أن يفسر لنا شخصية الرئيس الروسي المثير للجدل فلاديمير بوتين. الروس شعب معتز بنفسه إلى درجة الغرور الطاغي، فهو بين الأمم يعتبر نفسه استثناء لما يراه من تميز بين الشرق والغرب وبلده الأكبر الذي يجمع حضارات وأمما وشعوبا هائلة، وهو أيضا بلد الخلط المتناقض، فهو شهد الحكم القيصري؛ عز وبذخ ورأسمالية طاغية، وهو أبو الثورة البولشفية باعثة الشيوعية وحاضنة الاتحاد السوفياتي «العتيد».
كل هذا «المجد» بمختلف أشكاله جعل فلاديمير بوتين وعن قناعة مطلقة يعتقد أن بلاده لها مكانة مميزة على رأس الأمم، ولكنه أدار هذا الهدف بأسلوب «القبضايات» فلم ينتج معظم الاقتصاد الروسي إلا أموالا تشوبها الشبهات وباتت بعض شخصياته الأشهر يحيطها الشك والقلق عن مصادر أموالها، وأصبح ينظر إلى الثراء الروسي الفاحش مرادفا لغسل الأموال، وتخطت شهرة المافيا الروسية سابقتها المافيا الإيطالية.
لم تقدم الثروة الروسية الجديدة ما يمكن إضافته للعالم سواء في مجال التقنية الحديثة أو المعلوماتية أو صناعة الدواء أو التعليم أو الطيران أو النقل والمواصلات والسيارات.. مجرد مشارك في الاستفادة من بيع النفط والغاز والذهب والماس والسلاح، طبعا مع عدم إغفال دورها الحاد والصريح في شؤون جورجيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء ودول البلطيق وتأييد نظام مجرم مثل نظام بشار الأسد وهو يقتل شعبه ودعم نظام طائفي داعم للإرهاب الإقليمي مثل نظام إيران، كل ذلك كان نتاج آراء فردية من رئيس خرج من رحم أعتى جهاز للمخابرات وهو الـ«كيه جي بي» ووضع نصب عينيه أن يعيد مجد روسيا القديم، فضحك على العالم بتدوير الكراسي الرئاسية مع رئيس وزرائه ميدفيديف وعاد للرئاسة، ثم ظن أنه يستطيع خداع العالم مجددا بغزوه أوكرانيا وضمها في استفتاء إلا أنه لم يحسن مغامرته جيدا، فها هو اقتصاد بلاده ينهار تماما أمام العقوبات الاقتصادية الحادة التي وضعها المجتمع الأوروبي على بلاده بسبب غزوه أوكرانيا، والانهيار الكامل لأسعار البترول سلعته الأساسية التي يعتمد دخله عليها، وانهيار عملة بلاده الروبل بأكثر من 60 في المائة، وهروب المداخيل والاستثمارات بلا عودة في المدى القريب.
إنها حقا المأساة الروسية الجديدة لبطل خانته نفسه، ومجده الذي كان يود بناءه كان مجدا شخصيا وليس مجد مؤسسات ودولة، وهنا الفارق الأول بين العالم الأول وأشباهه.
الفصل النهائي لقصة مغامرة بوتين بدأت كتابته وستكون النهاية مأساوية على عكس البداية.