هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

المنتجع الفرنسي وقراءات شتى

غرقت كالعادة في بحر الكتب ما إن وصلت إلى فرنسا قبل نحو الشهر. أهم شيء تؤمنه لك البلدان المتقدمة هو سهولة الحصول على الكتب والمطالعة المجانية. بإمكانك أن تثقف نفسك من دون أن تشتري كتابا واحدا. بإمكانك أن تستعير ما لا يقل عن 15 كتابا دفعة واحدة من كل المكتبات لا على التعيين. وكلما فرغت من كتاب وأعدته إليهم يمكنك أن تستعير بدلا عنه كتابا آخر... وهكذا دواليك. إذا كان هناك شيء أحسدهم عليه فهو هذا الشيء: نظام مكتبات عامة من أرقى ما يكون. وهو يشكل شبكة هائلة تشمل البلاد كلها من أكبر مدينة إلى أصغر قرية. إنهم يقدمون لك كل التسهيلات الممكنة والمتخيلة.
ما هي الكتب التي غرقت فيها وتملأ وحدتي الأنانية الممتعة؟ وأنا شخص أناني متقوقع على ذاته ومع ذلك فلا ينفك يتحدث عن ضرورة الانفتاح على الآخرين وتفكيك السياجات الدوغمائية المغلقة! ولله في خلقه شؤون.. أولا كتاب ماكس غالو الضخم عن فولتير. وماكس غالو لمن لا يعرفه هو عضو الأكاديمية الفرنسية وربما أكبر «حكواتي» في فرنسا حاليا. إنك لا تمل من قراءته لأنه لا يكتب بطريقة أكاديمية باردة غليظة وثقيلة على القلب. وهو مختص بسير العظماء حصرا أو تقريبا. كنت قد قرأت سابقا مؤلفاته عن نابليون أو ديغول أو فيكتور هيغو وغيرهم.. إنه يمزج الشخصي بالعام ويتحدث لك عن العظماء بطريقة حية حتى تشعر وكأنك تعيش معهم يوما بيوم. بالطبع لا يمكنك أن تمل في حضرة فولتير؛ فأساليبه وألاعيبه ومناوشاته المتواصلة مع خصومه تجعلك في حالة من المرح والضحك على طول الخط. وبالتالي فالقراءة هنا ليست لمجرد التثقيف والفهم فقط وإنما هي علاج بالمعنى الحرفي للكلمة. فالكاتب الذي يضحكك فيما يثقفك ويوسع آفاقك ينقذك جسديا وروحيا في آن. إنه يتفضل عليك لأنه يقدم لك جرعات معينة من الضحك الضروري للصحة كما يقول الأطباء. وفولتير قادر على أن يسخر حتى من نفسه. إنه لا يتردد في أن يحول ذاته إلى أضحوكة إذا ما استوجب الأمر ذلك. إنه يعرف أن كل شيء عابر في زمن قياسي عابر. وبالتالي فلا يأخذ نفسه على محمل الجد أكثر مما ينبغي. ومع ذلك فقد كان أمة وحده، وعلى كتفيه نهضت حضارة بأسرها. فهو الذي خاض معركة التنوير الفلسفي ضد «داعشيي» عصره حتى العظم. وضحى من أجلها بالغالي والرخيص. ودافع عن ضحايا التعصب الديني الأعمى بكل ما أوتي من قوة. ولم يكن مجبرا على ذلك. فهو ينتمي إلى الأكثرية المهيمنة لا إلى الأقلية المذعورة. ومع ذلك فقد عرض نفسه للخطر الأعظم أكثر من مرة. وحارب الأغلبية الكاثوليكية، أي طائفته الخاصة بالذات، أكثر مما حارب سواها بمرات لأنها كانت الأقدر على العدوان والاضطهاد. ومن يزر قريته «شاتني مالبري» في ضواحي باريس الجنوبية - حيث عشت بعضا من أجمل سنوات عمري - يستقبله على المدخل تمثال كبير له. وعلى التمثال يقرأ العبارة التالية (أنقل من الذاكرة وباختصار): «لقد فعلت قليلا من الخير. وهذا أفضل ما فعلت».
أنتقل إلى مؤلفات أشهر مثقف إيراني في هذا العصر: داريوش شايغان. وهو مهووس مثلنا بقضايا الأصولية والتنوير وكيفية مصالحة الإسلام مع الحداثة. وربما كان لا يقل أهمية عن أركون في هذا المجال. وهو على أي حال يذكره متحسرا في كتابه الأخير حيث يقول ما معناه: «للأسف الشديد لم يعد محمد أركون بيننا لكي يضيء لنا الطريق». كنت أود الاطلاع على 3 كتب له هي التالية: «الشيزوفرينيا الثقافية.. المجتمعات الإسلامية في مواجهة الحداثة»، وفيه يقول بأن الثقافات الإسلامية من عربية وإيرانية وتركية... الخ ترفض الغرب بعنف ولكنها في ذات الوقت تأخذ منه الكثير بشكل واع أو لا واع.. فهي من جهة مسحورة بالمخترعات الجديدة والحداثة التكنولوجية عموما، ولكنها ترفض بعنف العقلية الفلسفية التي أدت إليها. من هنا الطابع الانفصامي أو الشيزوفريني للثقافات الإسلامية المعاصرة. بالطبع أنقل بسرعة شديدة وليس هدفي هنا عرض الكتاب الذي يحتاج إلى صفحات وصفحات. وأما الكتاب الثاني الذي كنت أبحث عنه فهو: «النور يأتي من الغرب». صحيح أن شايغان يعترف بأن الغرب فقد روحه مؤخرا. ولكن هذا لا ينبغي أن ينسينا ميزاته وإنجازاته في بدايات صعوده الحضاري النهضوي، فهو الذي اخترع المنهجية النقدية، والعقلانية العلمية، والمؤسسات الديمقراطية التي لا تقدر قيمتها بثمن. فهي التي تحل المشاكل عن طريق الحوار لا عن طريق الحرب والضرب كما يحصل في المجتمعات الإسلامية اليوم حيث لا أحد يحاور أحدا وإنما يغلبه ويقهره وربما يقتله بكل بساطة. ثقافة الحوار العقلاني الديمقراطي غير معروفة عندنا حتى الآن. ولكن الكتاب يتناول بعمق قضايا أخرى أكبر وأوسع من كل ذلك. أما الكتاب الثالث والأخير فهو بعنوان شاعري جميل: «تحت سماوات العالم»، وهو عبارة عن سلسلة حوارات مطولة، لانهائية..
أخيرا تخرج من البيت لكي تتسكع في الشوارع المحيطة على غير هدى. ما أجمل هذا الطقس الخريفي الناعم: لا حر ولا برد. إنه الفصل الوديع الغالي على قلب ريلكه وبعض الشعراء الآخرين. الأشجار تتعرى شيئا فشيئا والحزن الهادئ يغلف الأشياء والكائنات وحتى الذكريات. ثم تمشي وتمشي. وفجأة تنسى نفسك، تنصهر في عناصر الطبيعة، وتكاد تعانق حتى الشجر.. ما أجمل هذه الأوراق المزركشة المتساقطة التي تفترش الأرض أمامك وتشكل سجادة حقيقية. ويحك.. إنه الذهب! ثم تتردد لحظة أو لحظات. وعندما تقرر أن تدعس عليها تشعر وكأنك تدعس على قلبك. ولكن هل بقي لك قلب بعد كل ما حصل؟ أو حتى عقل! هذا هو السؤال. لقد كان شعبا واحدا فتشعب..