تلاحظ الأوساط الطبية، من خلال كثير من نتائج الدراسات العلمية، أن المصادر الطبيعية للمنتجات الغذائية والسلوكيات الطبيعية تعطي نتائج أفضل في تحقيق المحافظة على الصحة، وهو ما يظهر عند المقارنة بين تناول الفيتامينات من مصادرها الطبيعية في المنتجات الغذائية الطبيعية وتناول حبوب الفيتامينات. وهو كذلك ما يظهر عند الحرص على النوم في فترة الليل، عبر تقليل التعرض للضوء المتوهج من بعد مغيب الشمس، ومقارنة ذلك بالنوم لعدد الساعات نفسها بعد فترة طويلة من مغيب الشمس، أو مقارنة ذلك بالنوم عدد الساعات نفسها في أوقات النهار، وليس في الليل.
والأمر نفسه ينطبق على حميات إنقاص الوزن التي تتبنى تقليل تناول كميات الطعام اليومي، مع الحفاظ على التشكيلة المعتادة من الأطعمة الطبيعية اليومية التي يتناولها المرء، ونجاحه بذلك في تحقيق الخفض المرجو في وزن الجسم، مقارنة بالتعثر في تحقيق خفض وزن الجسم عند البدء بأنواع من موضات الحميات الغذائية التي تشتمل على أطعمة لم يتعود عليها المرء طوال حياته.
ومع هذا الحديث عن الصحة وما يعمل على حفظها من السلوكيات في نمط عيش الحياة اليومية، هل ثمة فرق بين ممارسة الرياضة البدنية اليومية كنشاط رياضي ترفيهي يقوم به المرء في أوقات الفراغ، وممارسة المرء لأنشطة بدنية متواصلة خلال عمله اليومي أو ضمن أنشطة الحياة الأسرية؟ أو بمعنى آخر: هل المفيد صحياً أن يقوم المرء بتخصيص وقت يومي محدد لممارسة الرياضة البدنية في صالة الألعاب الرياضية، أو بالهرولة على جهاز الدواسة الكهربائية، أو باستخدام أجهزة تمارين تقوية العضلات، أم أن حرص المرء المتواصل طوال اليوم على بذل الجهد في المشي إلى مكان العمل أو تنظيف الحديقة وحرث الأرض الزراعية وغسل السيارة وتغيير الإطار وحمل الأمتعة، هو سلوك رياضي مفيد يُقلل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب، وكذا الحال مع غسيل الأطباق وطهو الطعام وتنظيف المنزل وغيرها من الأنشطة البدنية التي يعتمد البعض في إنجازها على الغير؟
والإجابة على هذا السؤال كانت موضوع دراسة الباحثين من جامعة ماكماستر، في هاملتون بكندا، التي تم نشرها ضمن عدد 21 سبتمبر (أيلول) من مجلة «لانست» Lancet الطبية البريطانية. والواقع أن هذا السؤال مهم، ويتعلق بأحد أهم وسائل الوقاية من قائمة طويلة من الأمراض، وفي طليعتها أمراض القلب والأوعية الدموية التي هي السبب الأول في الوفيات العالمية حتى اليوم. وهو سؤال مهم أيضاً لأن نمط الحياة اليومية يختلف فيما بين المجتمعات في العالم.
وقد قال الباحثون في مقدمة الدراسة: «النشاط البدني له تأثير وقائي ضد الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث تتم ممارسة النشاط البدني كنشاط ترفيهي يومي، ولكن ليس من المعروف إذا كان هذا ينطبق أيضاً في البلدان ذات الدخل المنخفض، حيث تتم ممارسة النشاط البدني بطريقة غير ترفيهية».
وأضاف الباحثون: «وقد فحصنا ما إذا كانت جهود مختلفة وأنواع مختلفة من النشاط البدني تؤدي إلى تحقيق انخفاض في الوفيات والإصابة بالأمراض القلبية الوعائية في مجموعة من البلدان ذات المستويات الاقتصادية المختلفة».
وخلص الباحثون إلى أن أي ممارسة للنشاط البدني بأي نوع كان يُفيد في تقليل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، ما دام يُحقق ما تتضمنه الإرشادات الطبية في شأن ممارسة المجهود البدني، بما يُعادل نصف ساعة في اليوم، أو 150 دقيقة في الأسبوع، ويعمل أثناء ممارسة ذلك النشاط البدني على رفع معدل نبض القلب لتنشيط عمل القلب والرئتين.
هذه النتيجة توصل إليها الباحثون المشاركون ضمن دراسة «بيور» PURE Study العالمية، وهي اختصار لوصف «الدراسة المستقبلية الريفية الحضرية»، التي يقوم بإجرائها معهد بحوث الصحة السكانية في جامعة ماكماستر وهاميلتون للعلوم الصحية، والتي تشمل شريحة واسعة من الناس في 17 دولة من دول العالم الغنية والفقيرة، ويبلغ عدد المشمولين فيها بالمتابعة أكثر من 130 ألف شخص من البالغين.
ومن ضمن أهم غايات هذه الدراسة: المقارنة بين ما يُمارس كسلوكيات صحية في الدول والمجتمعات ذات الدخل المادي المرتفع وما يُمكن ممارسته ضمن حدود الإمكانيات المتوفرة لسكان المناطق الأقل ثراءً في مناطق واسعة من العالم؛ ذلك أن غالبية الدراسات الطبية في جانب تقييم مدى الجدوى الصحية لسلوكيات الوقاية من الأمراض قد تم إجراؤها في الدول المتقدمة، ومن ثم تم اعتمادها ضمن إرشادات الوقاية من الإصابة بالأمراض، ولكن لم يحصل تقييم للسلوكيات اليومية التي يُمكن ممارستها في مجتمعات أخرى. وكما قال الباحثون: «الدراسات السابقة في الدول الغنية بينت أن ممارسة النشاط البدني الترفيهي في أوقات الفراغ يُساعد على الوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية، ودراسة (بيور) شملت الناس من دول متوسطة ومتدنية الدخل المادي، حيث السكان فيها لا يُمكنهم ممارسة الأنشطة البدنية الترفيهية نفسها في أوقات الفراغ».
وعلق البروفسور سكوت لير، الباحث الرئيسي في الدراسة رئيس كرسي القلب والسكتة الدماغية في معهد بحوث الوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية بمستشفى سانت بول في فانكوفر الأستاذ في كلية العلوم الصحية في جامعة سيمون فريزر، قائلاً: «بضمّنا الأشخاص من الدول المتوسطة والمتدنية الدخل المادي، نتمكن من تحديد مدى الفائدة من ممارسة أنشطة بدنية مختلفة، كممارسة النشاط البدني في أداء مهام وظيفية أو العمل المنزلي أو التنقل النشط بالمشي».
وبالمقارنة، لاحظ الباحثون أن ممارسة ذلك المجهود البدني اليومي بمقدار نصف ساعة، أو الأسبوعي بمقدار 150 دقيقة من المشي السريع، يُقلل بنسبة 28 في المائة من الوفيات، وبنسبة 20 في المائة من الإصابة بأمراض القلب، وهو ما يُحققه 38 في المائة من الناس عبر ممارستهم المشي في التنقل من مكان لآخر، وعبر ممارستهم للأنشطة المنزلية وأداء الأعمال الوظيفية ذات الطبيعة النشيطة بالحركة وغيرها.
وأضاف البروفسور لير: «الذهاب إلى النادي الرياضي أمر جيد، ولكن ليس لدى غالبيتنا وقت لذلك، ولو مشينا إلى مكان العمل، أو خلال فترة تناول طعام الغداء، فإننا نساعد أنفسنا كثيراً».
* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]