سربيكو الحقيقي يسرد حكايته

التحري ملهم فيلم باتشينو الشهير يظهر فجأة

آل باتشينو كما ظهر في «سربيكو» الأول
آل باتشينو كما ظهر في «سربيكو» الأول
TT

سربيكو الحقيقي يسرد حكايته

آل باتشينو كما ظهر في «سربيكو» الأول
آل باتشينو كما ظهر في «سربيكو» الأول

معظم، أو حتى كل، ما نعرفه عن فرانك سربيكو جاءنا من مصدر واحد: فيلم سيدني لومِـت المعروف «سربيكو» سنة 1973 الذي ورد في فترة كان نجمه فيها قد صعد درجات صوب القمة بعد بدايته القوية سنة 1957 عندما أخرج «اثنا عشر رجلاً غاضباً» وما تبعه من أفلام تقف عند حافة سينما المؤلف من دون أن تقدم كاملاً. «سربيكو» شهد أول تعاون من اثنين بين المخرج لومِـت وبين الممثل آل باتشينو. الثاني ورد بعد عام بعنوان «بعد ظهر يوم بائس» (Dog day Afternoon).
سربيكو كان شخصية حقيقية كاد المخرج الراحل قبل أيام جون ج. أڤيلدسن أن يحققه لولا خلاف رؤى فني بينه وبين المنتج الذي سحب المشروع منه وأسنده إلى لومِـت. هذا المخرج صنع عملاً نال أكثر مما يستحق من إطراء وغطى حياة التحري النيويوركي الذي وجد أن الفساد استشرى في نظام البوليس فأخذ يرصده ويحاربه، وعرّض نفسه للخطر من قِـبل أترابه ومسؤوليه الذين خشوا على مصالحهم إذا ما استمر سربيكو في موقفه.
ذلك الفيلم لم يعد الفيلم الوحيد الذي يتناول حكاية التحري العنيد. هناك فيلم آخر عنه أكثر كشفاً عن الوقائع يتحدث فيه التحري المتقاعد عن حياته ومبرراته لخوض تلك الحرب وعما جرى له خلالها.

واشٍ ومكروه

إنه فيلم تسجيلي يحمل اسم بطله «فرانك سربيكو» لمخرج يواصل عمله في هذا النوع من الأفلام اسمه أنطونيو دامروسيو. يتعامل هنا مع فترات مختلفة من حياة التحري سربيكو ويجري مقابلات كثيرة تشمل رجال شرطة آخرين وجيران ومعارف وسينمائيين. كذلك يستعين بأرشيف ممتلئ من المعلومات والصور من صحف ومشاهد محاكم ومقاطع من الفيلم الروائي السابق. الغاية هي تقديم صورة متكاملة وثرية عن حياة التحري الذي تمسّـك بالمبادئ في الوقت الذي تخلّـى عنها آخرون كثيرون فعمدوا إلى تقاضي الرشى وفرض الخوات وسرقة غلل الأشرار.
مع أن جل هذا الفيلم يتعامل مع الفترة التي قضاها سربيكو في سلك البوليس (ما بين 1960 و1972) والتي شهدت إنزال رتبته من تحرٍ إلى رجل بوليس بالزي المعتاد لبعض حين، إلا أن الكثير مما يوفره للمشاهد يعود أيضاً إلى فترة ما قبل أن أصبح سربيكو تحرياً وإلى الفترة التي أعقبت ذلك بعدما كشف عن عمليات الفساد الإداري التي طالت الكثير من أترابه ومن هم فوق. يكرر فرانك أنه لم يرد أن يؤذي رفاقه في السلك؛ لذلك لم يستجب لطلب المحققين استخدام تسجيل صوتي حين الحديث إليهم. كان يقول إن رفاقه هؤلاء هم في أسفل سلم من المصالح، وإذا ما تم التعرض إليهم بقي الذين في أعلى السلم سالمين. ويؤكد عدد من رفاق سربيكو هذا، ويضيف أحدهم إن هناك من كان يعارض الفساد الحاصل في سلك بوليس نيويورك، لكن أحداً لم يجرؤ على التصدي له ومحاولة كشفه كما فعل فرانك سربيكو.
هذا ما عرّض سربيكو للكراهية من قِـبل رفاقه على أساس أنه واش (أو «جرذ» كما هي الكلمة المستخدمة في هذا المجال). وما لبث الكره أن تبلور إلى خطّـة تقتضي التخلص منه فتم تصميم فخ يتعرض فيه سربيكو لإطلاق نار عليه بحضور زميلين له.
المكالمة لإنقاذ حياته تمّـت من قِـبل رجل مدني، لكنها لم تتم من قِـبل رجلي الشرطة إذ تركاه لمصيره. وأحد أفضل حوارات الفيلم هي في تلك المشاهد التي جمع فيها المخرج بين سربيكو اليوم وبين أحد هؤلاء الشرطيين الذي وإن لم يعترف بدوره إلا أنه دافع عن فعلته بالقول: إن ما حدث لسربيكو لم يكن سوى رد فعل على موقفه عندما رفض أن يغض الطرف.
ترعرع سربيكو في بروكلين في الخمسينات. كان لدى والد الإيطالي محل لتصليح الأحذية. فرانك عمل هناك صغيراً وفي أحد الأيام دخل رجل شرطة بزيّـه الرسمي وطلب منه تلميع حذائه. يقول فرانك إنه كان مأخوذاً بالشرطي ذي البذلة الرسمية «سألمّـع حذاء الحكومة»، كما قال لنفسه. حين انتهى الصبي من تلميع الحذاء نهض الشرطي ومشى صوب الباب: «لم يدفع ولم يقل حتى شكراً». لكن الحادثة، على بساطة فحواها، تركت شيئا من الأثر الدفين ربما، كما يقول فرانك منقباً في ذكرياته الأولى خلال نصف الساعة الأولى من هذا الفيلم؛ ما دفعه إلى الرغبة في أن يصبح شرطياً. في الستينات أصبح سربيكو شرطياً ثم تحرياً بملابس مدنية، لكنه كان مختلفاً عن باقي أترابه من حيث إنه عاش هيبياً ومال إلى الوحدة وعدم الاختلاط مع رجال البوليس الآخرين. كان دائماً على خط النار؛ إذ طُـلب منه (كما طلب هو من نفسه أيضاً) معاشرة المجرمين والمطلوبين من شخوص الشارع الخطر والأماكن الموبقة.

مادة ثرية

بعض ما سبق ورد في فيلم سيدني لومِـت «سربيكو» كما جسّده ببراعته المشهودة آل باتشينو. والفيلم التسجيلي يكشف بعض الجوانب التي لم نكن نعرفها عن كيف تم تحقيق الفيلم السابق «ذات مرّة»، يقول سربيكو: «تابعت تصوير المشهد الذي يقوم فيه رجل بوليس أبيض بوضع وجه رجل أسود في بالوعة المرحاض. صرخت Cut. بهت الجميع. من هو ذلك الذي جرأ على إيقاف التصوير غير المخرج؟».
احتج سربيكو على مشهد رآه بعيد الصلة عن حياته. تلا ذلك مشادة بينه وبين المخرج الذي أخبره بأنه هو من يملك الكلمتين السحريتين خلال التصوير: Action وCut. من يومها تم منع سربيكو من حضور التصوير. لكن هذه الحكاية تؤكد أن لومِـت إنما استخدم الموضوع الخاص بالتحري سربيكو لكي يصيب أهدافاً أخرى؛ فهو مخرج غاضب لا يحتاج إلى طبل قبل أن يرقص على أنغام غضبه وميوله النقدية موظفاً الفيلم لهذه الغاية. لكن العمل منقسم بين تمهيد طويل (كيف عاش سربيكو حياة الهيبيز واختلط بثقافتهم) وساعة من التركيز على لب الحياة الخطرة التي قادها أول ما بدأ الكشف عن الفساد الإداري.
إلى هذا التشتت في الاهتمامات فإن شغل لومِـت عانى أيضاً نفسا طويلا واحدا، ويدا تحمل مطرقة للنيل من كل شيء ماثل. حياة سربيكو تتحوّل إلى أداة والشخصية (رغم براعة باتشينو القصوى في أدائها) مكتوبة بكسل ملحوظ.
إحدى أفضل المقابلات في الفيلم الجديد تأتي لاحقاً ومع الممثل جون تورتورو (ليس بعيد الشبه بسربيكو) الذي يثني على أداء باتشينو ثناء مستحقاً.
إنها مادة ثرية تلك التي جمعها المخرج دامبروزيو مضيفاً إليها ثراء إضافياً. هذا يتأتى من خلال التصوير (كريم لوبيز وتريڤور توِيتن) بمنوال واقعي كما لو أن العمل جزء من حكاية روائية مستمرة، والموسيقى (برندان كانتي) المهيمنة و- بالدرجة الأولى - عبر التوليف مروراً بكم كبير من المشاهد الحية لسربيكو والمقابلات المتنوعة والوثائقيات، كما من مشاهد الفيلم الروائي السابق. لكنه دامبروزيو هو من يعود إليه الفضل الأول في صنع فيلم مهم في فنّ منواله التسجيلي، كما مهم لما يعرضه ضمنه.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.