خبر سارّ للبنانيين، إطلاق حملة دولية لإعادة إحياء «التياترو الكبير» الذي لعب دوراً مركزياً من ثلاثينات حتى سبعينات القرن الماضي في تعزيز دور بيروت الثقافي والفنّي خلال تلك المرحلة الذهبية. وإذ نالت الحرب الأهلية منه، وتركته مشوَّهاً مدمراً، فإنّ عملية إعادة الإعمار الكبرى لوسط بيروت عنيت بالأسواق والفنادق والمقاهي، ولم تلحظ ترميمه أو بثّ الحياة فيه من جديد، وتُرك على ما هو عليه. ومحاولة المسرحية نضال الأشقر والمخرج نبيل الأظن وفنانين آخرين، بإشراف وزارة الثقافة يوم كان غسان سلامة وزيراً للثقافة للمرة الأولى، لم تصل إلى نهايتها السعيدة، ورُمّمت الواجهات الخارجية فقط، وبقي الداخل على حاله.
وعام 2011، كان هناك مشروع لتحويله إلى فندق، تماشياً مع رغبة المالكين، لكن لحُسن الحظّ لم يتم، وبقي المكان مغلقاً. وغالباً ما بقي «التياترو» مُسيّجاً، وممنوع على الناس الدخول إليه. ومع اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، دخل المنتفضون إلى المبنى ورفعوا العلم اللبناني على سطحه، مُحتجّين على حرمانهم من ممتلكاتهم العامة، كونه ضمن ملكيات شركة «سوليدير» التي لم تبادر إلى ترميمه. ويرجى أن تكون المحاولة الحالية أكثر نجاعة من سابقتها، وأن تحصل وزارة الثقافة على التمويلات التي تحتاج إليها كي تتمكن من مباشرة العمل بسرعة، بالتعاون مع منظمة «اليونيسكو»، قبل أن تفتر الهمم من جديد.
هذا الصرح المسرحي أقيم فيه حفل تأبين جبران خليل جبران عام 1931 بعد وصول جثمانه إلى لبنان، بحضور الأدباء أمين الريحاني، وخليل مطران، والأخطل الصغير، وإلياس أبو شبكة، وآخرين. وهنا استُقبلت أم كلثوم في أثناء زيارتين لها إلى لبنان، حيث أقامت حفلَيْن، استمر أحدهما حتى الثانية والنصف بعد منتصف الليل. وفي «التياترو» غنَّى محمد عبد الوهاب للمرة الأولى أمام الجمهور «يا جارة الوادي» بحضور أحمد شوقي وخليل مطران والأخطل الصغير، وعُرض فيلم «الوردة البيضاء» إلى جانب أفلام أخرى باتت تاريخية في مسار السينما العربية.
قبل أيام، أطلق وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة حملة تبرّعات دولية لإعادة إحياء «التياترو الكبير»، وإلى جانبه المديرة العامة لـ«اليونيسكو» أودري أزولاي، ووفد من إمارة الشارقة ضم رئيس هيئة الشارقة للثقافة والفنون عبد الله محمد العويس، والسكرتير الأول في سفارة دولة الإمارات في لبنان محمد الغفلي، ومدير مكتب رئيس هيئة الشارقة للثقافة والفنون عمران السويدي. فقد افتتح حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، المانح الرئيسي، الحملة الدولية بمبلغ مليون دولار، وهو ما يمكن أن يُشجّع المانحين الآخرين. وحضر إطلاق المبادرة مدير مكتب «اليونيسكو» في بيروت بابلو فونتاني، والمندوبة الدائمة للبنان لدى «اليونيسكو» السفيرة هند درويش، ومدير عام الآثار المهندس سركيس الخوري، والمستشار المعماري جاد تابت.

صرّح سلامة بعد الزيارة قائلاً: «إن وزارة الثقافة، قبل كل شيء، بصفتها حارسة الذاكرة الوطنية، لا يمكنها قبول بقاء هذا المكان، الذي كان مركزاً ثقافياً خلال استقلال هذا البلد وقبله، على هذه الحال». وأضاف: «لقد تحقّق حلم كثيرين: إحياء المسرح الكبير وترميمه وتطويره. ووزارة الثقافة، وهي طرف فاعل في عملية الانتعاش الاقتصادي، تضطلع بهذا العمل لإدراكها أنه عنصر مهم في عملية الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان».
ولفت إلى أنّ «التعاون مع أشقائنا العرب والمنظمات الدولية ممكن ومثمر». شاكراً الأشقاء في إمارة الشارقة وفي مقدمتهم الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، ومنظّمة «اليونيسكو» على اهتمامهم بالمشروع.
هذا الصرح الذي دارت فيه أهم الأحداث الثقافية منذ الثلاثينات حتى اندلاع الحرب الأهلية، شاهد على أكثر سنوات بيروت ازدهاراً، يوم كانت تجتذب الفرق المسرحية والفنانين والمتفرّجين من العالم.
وتذكُر خالدة السعيد في كتابها «الحركة المسرحية في لبنان» شهادة حيّة من الفنان فيليب عقيقي يقول فيها: «كان التياترو الكبير أحلى المسارح، ومجهزاً تجهيزاً جيداً. وكانت فرقة الكوميدي فرنسيز تلعب عليه في أثناء جولاتها».
ويُذكر أن «التياترو» شُيّد خلال موجة فوران الحركة المسرحية مطلع القرن الماضي في بيروت، وسبقه «مسرح الكريستال» الذي كان يستقبل مسرحيات، بينها التي كانت تأتي من مصر، وعلى خشبته قدّم جورج أبيض أعماله، كما أقام محمد عبد الوهاب أول حفلاته. والمسرح الآخر الذي وُجد في تلك المرحلة هو «شيدوفر» الذي يرجع لعائلة كريدية في وسط بيروت، وهُدم بسبب شق طريق.
افتُتح «التياترو الكبير» ليصبح الأكبر والأهم والأفخم. يجمع في معماره بين الهندسة الإسلامية والغربية. فهو مزدان من الخارج بقناطر وزخارف، وفي الداخل له روح دور الأوبرا الغربية بكلّ مكوناتها، سواء بمدخله أو بترتيب صالاته وشرفاته. وهناك صالة انتظار مستديرة عند المدخل، ودرجان يقودان إلى بلكونَيْن يتّسع كلّ منهما لعشرات المتفرّجين. أما الصالة الرئيسية والخشبة ومكان جلوس الأوركسترا، فكلّها صُمّمت وشُيّدت لتتناسب والمقاييس العالمية.
كان المكان في البدء مستودعاً للزوارق، ثم بمبادرة من جاك ثابت، بدأ العمل في بنائه عام 1927، بعدما صمّمه المهندس المعماري يوسف أفتيموس، الذي سبق وصمّم مبنى بلدية بيروت و«بيت بيروت»، وفيه من روح «التياترو»، وبرج الساعة في السرايا الكبيرة.
في الخمسينات، بدا أنّ وهج المسرح قد خبا تحت وطأة تدفُّق الأفلام السينمائية، فتحوّل «التياترو» إلى مكان لعروض الأفلام. ويبدو أنّ الناس في تلك الفترة هجرت المسرح ولم تعُد ترغب فيه، إلى أن عادت الفورة إلى بيروت مع عمل الرواد الذين أسّسوا لنهضة مسرحية حديثة، مثل نضال الأشقر، وروجيه عساف، وأنطوان ملتقى، ومنير أبو دبس وآخرين.
لكن الحرب كانت أقوى من الفنون. و«التياترو الكبير» القابع في وسط بيروت على خطوط التماس بين المنطقتين الشرقية والغربية، أصبح العمل فيه مستحيلاً مطلع الثمانينات. وبدل المسرح، أصبح المكان خراباً. وعندما هدأت الحرب، وأخذ وسط بيروت الاهتمام الأكبر في الإعمار والبناء، كان هناك وعد بإعادة النبض إلى هذا الصرح الثقافي التاريخي، لكنَّ الوعد لم يُنفذ. واليوم يؤمَّل في الوزير سلامة أن ينجز ما لم يتمكن منه وزراء سبقوه. فهو لا يزال يشدّد على أنّ «إحياء المعالم الثقافية هو استثمار في مستقبل لبنان وهويته»، داعياً إلى عقد شراكات عربية ودولية لتعزيز هذا النهج في مواقع أخرى من لبنان.



