سمير الفيل: أقابل أبطال قصصي في المقهى والشوارع الخلفية

قال إنه لا يكتب من أجل الجوائز ويحصل عليها عرضاً

سمير الفيل
سمير الفيل
TT

سمير الفيل: أقابل أبطال قصصي في المقهى والشوارع الخلفية

سمير الفيل
سمير الفيل

يعرف القاص المصري سمير الفيل خصوصية مدينته «دمياط»، وكيف تنفتح على شعرية المكان واللغة كميناء يطل على البحر المتوسط؛ فعلاوة على صناعة الحلوى تتمتع بشهرة عالمية قديمة في صناعة الأثاث، وبورشها المتنوعة وصنّاعها المهرة الذين يتشربون المهنة وأسرارها منذ الصغر، فيعرفون كيف يحولون قطعة من الخشب إلى تحفة فنية، تتقاطع فيها أوتار الحفر الغائر والبارز بأشكال ونسب شديدة الدقة والجمال. لم تفارق هذه الأجواء كتابات سمير الفيل في الشعر والرواية والمسرح، والقصة القصيرة التي تستحوذ على 21 مجموعة صدرت له.
هنا حوار معه حول أجواء هذا العالم وأثره في أعماله:

> لنعد إلى البدايات الأولى؛ إذ يبدو أنك عشت طفولة أدبية سعيدة؛ مما أثر على طبيعة كتابتك، وخاصة في بداياتك.
- ولدت عام 1951، في شتاء قارس، وبعد عام ونصف العام مات أبي، في السادسة تقريباً نزلت للعمل في ورش صناعة الأثاث التي تشتهر بها مدينة دمياط، وكان شيئاً سعيداً أن أنخرط في دولاب عمل أتفهم فيه الحياة، وأخطف بعض الدقائق للعب والمرح، أما يوم الجمعة فهو لي كاملاً، في الصيف نذهب بالمراكب الشراعية إلى مدينة رأس البر الساحلية المجاورة والتي كانت المصيف المفضل لأم كلثوم والطبقة الأرستقراطية في منتصف القرن الماضي.
وفي الشتاء نذهب لبحيرة المنزلة لصيد السمك، وأحياناً نذهب إلى غيطان «الميناء» لنصعد أشجار التوت والنبق والمخيط. على هذا النسق سارت حياتي ثم استقبلنا معلم الصف الأول فعلمنا الأبجدية وزراعة حقل خلف الفصل مباشرة. كان مدرسنا «رفعت قطارية» يغني: ذهب الليل، جاء الفجر.. والعصفور صوصو».
وكان مدرس آخر ينحت التماثيل في الحصص الخالية ونحن نساعده، ويشرح درس اللغة العربية في مزرعته قرب المدرسة حيث يربي أرانب «الشانشيلا». في الصف الرابع كتبت أشعاراً بسيطة مع زميلي، الشاعر والناقد فيما بعد، محمد علوش حاولنا نشرها في «مطبعة نصار»، لكن الرجل لم يزجرنا، بل منحنا قطعتين من نقود فضية، ونصحنا بالعودة إليه عندما نكبر!

> إلى أي حد لعب الشاعر عبد الرحمن الأبنودي دوراً في تقديمك إلى جمهور الشعر؟
- بدأت الكتابة عام 1968 وكانت كتاباتي تقع بين الشعر والسرد، غير أن صديقاً ناقداً هو أنيس البياع استدعى صديقه عبد الرحمن الأبنودي الذي أحيا لدينا في مدينة دمياط ثلاث ليال شعرية، كانت إحداها في «جرن قمح» ببلدة «كفر البطيخ»، حيث كانت تعسكر فيه كتيبة مقاتلة تابعة للجيش. هناك قدمني الأبنودي فحسمت أمري واتجهت لشعر العامية، في العام التالي فازت قصيدة «المطبعة» بشهادة تقدير في المؤتمر الأول للأدباء الشبان بالزقازيق.
> ما تأثير نكسة 1967 عليك وعلى أبناء جيلك على مستوى الوعي، فضلاً عن نظرتكم للأدب ذاته وجدواه ووظيفته؟
- كانت هزيمة مروعة زلزلتنا تماماً، كنت أنتقل من الصف الثالث الإعدادي إلى الصف الأول بمعهد المعلمين، فكرت في ضرورة العودة للشعر، وبالفعل كتبت قصائد عدة وانضممت إلى التجمع الأدبي في سن مبكر للغاية، كان عمري 17 سنة بالضبط، وجدت إشادة بما أكتب وتبناني العم الشاعر محمد النبوي سلامة وكان له ديوان «غنوة شقيانة» وله أغنيتان شهيرتان بالإذاعة «خد الجميل يا قصب» لعبد اللطيف التلباني، و«صباح الخير» لفريق الثلاثي المرح.
قدمني العم النبوي في مقهى شعبي، وكنت أمسك بالورقة ويدي ترتجف، لكن الحشد صفق للقصيدة واستدعاني أحد المسؤولين لمكتبه وأمر بشراء مكتبة قيمتها عشرون جنيها، وصلتني في كرتونتين، أغلب الكتب من سلسلتي «كتاب الهلال» و«اقرأ».
> تقول إن تحولك من الشعر إلى السرد القصصي تم بطريقة غير مقصودة ودون قرار منك، كيف كان ذلك؟
- كنت شاعراً معروفاً، أحضر الندوة الدائمة لشعراء العامية بمعرض القاهرة للكتاب مع قامات شهيرة مثل الأبنودي وسيد حجاب. بلا مقدمات كتبت القصة وفازت بجوائز متقدمة، لكن ما يفسر الموقف أن هناك من رأى في ديواني الأول «الخيول» خيطاً سردياً فحوّله لعرض مسرحي، هو «غنوة للكاكي»، وقد أحاط بالعرض بعض الهمهمات الغاضبة، لكن فطنة الدكتور أحمد جويلي - محافظ دمياط آنذاك – وجرأة محمد عبد المنعم ـ مدير فرع الثقافةـ سمحا باستمرار العرض لأسابيع عدة؛ ما يعني أن المادة الحكائية كانت مؤثرة وضاربة في عمق الوجدان العام.
> غزارة الإنتاج في القصة القصيرة (21 مجموعة منشورة و2 تحت الطبع) تشكل أحد ملامح تجربتك عموماً، ما هي مبررات هذه الغزارة ثم ألا تخشى أن تأتي الغزارة على حسب الجودة؟
- هذا طبع يغلبني، فحين أقبض على ناصية السرد انطلق في عملي خوفاً من العقم الذي صادفته في آخر عملين. أنا بالفعل أخشى التكرار وعدم الإجادة لذلك أخضع أعمالي للمراجعة الذاتية قبل النشر ما عدا مجموعة واحدة أفلتت مني قسراً، والعجيب أنها نالت جائزة مرموقة؟!
ـ ماذا عن «ثلاثين دقيقة» فارقة في حياتك عشتها مع الأديب الرائد يحيى حقي صاحب «قنديل أم هاشم»؟
- آه... هذا حدث في نهاية الثمانينات حين كنت أهبط سلم قصر الثقافة بدمياط ووجدت يحيى حقي جالساً في مكتب مدير القصر، أخذته من يده وسألته أن يحدثني عن الفارق بين القصة القصيرة والرواية فكان كلامه بسيطاً ومعبراً. أشبه بوصية حكيم مع نبرة أبوة تلمستها ونحن في طريقنا لموقف سيارات رأس البر حيث كانت وجهته. قال هامساً: انظر من ثقب الباب، ستقع عينك على حدث بعينه سارع بتدوينه ولا تخرج عن دائرة الرؤية، هذه هي القصة القصيرة. في الرواية افتح الباب على اتساعه وانزل نهر الشارع، واذهب كيفما شئت فهناك قماشة سردية تستوعب كل ما سوف تكتبه.
> ولدتَ وتعيش بمدينة ساحلية صغيرة هي مدينة دمياط بشمال مصر، ما هي الخصوصية التي تنطوي عليها تلك المدينة في عالمك الإبداعي؟
- دمياط كمدينة صناعية تشتهر بالأثاث والحلويات تهتم بالوقت، ولا تهدر وقتها بغير العمل، تعلمت منها أهمية فهمي لواقعي، وضرورة امتلاك الوعي؛ فهو ما يرشدني لمسارات فكرية وجمالية، وفي الوقت نفسه، علي طرد الأوهام والخرافة. عليك ككاتب ألا تسير مع الجموع بل تتخذ طريقاً لا يعرفها غيرك، الكتابة تحتمل هذه اللعبة الخطرة، أن تملك أفقاً لا يشاركك فيه غيرك.
> منذ تقاعدك من عملك مدرساً قبل عشر سنوات، يلعب المقهى دوراً مركزياً في حياتك، ما هي مبررات ذلك، وكيف انعكست على كتاباتك؟
- لم يكن الأمر مقصوداً، في عام 2011 وجدت نفسي خرجت للتقاعد، بعد أربعين عاماً من التدريس، قلت في نفسي: جرّب جلسة المقهى. بالفعل أصبحت لي طاولة في شارع جانبي بالمقهى، تحولت مع مرور الوقت إلى جلسة يومية مع زملائي ؛ لقراءة النصوص القصصية والقصائد الشعرية، وأحياناً نستضيف كاتب مسرح أو موسيقاراً، ورويداً رويداً عرف الكتاب بالجلسة، وفي الوقت نفسه جذبت أجيالا من الشباب.
هي جلسة ترتاح إليها النفس حيث لا جدران ولا تنافس مثير للحنق. لقد تعلمت من تلك الجلسة مراقبة الناس بشكل أكثر تركيزاً بدلاً من جولاتي السابقة في الأسواق والحدائق بحثاً عن حدث. يأتيني الآن أبطال قصصي حيث أجلس، وأحياناً في الشوارع الخلفية وربما في حكايات الناس الشفاهية.
> في السنوات الأخيرة، حصدت عدداً من الجوائز والتكريم مصرياً وعربياً، فهل يسعدك الأمر أم تراه جاء بعد فوات الأوان؟
- في كلمتي التي ألقيتها في «ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي» قلت: لا يزال لدي بعض الوقت لأكتب أكثر؛ فبعد محطة عامين بعد السبعين أجدني مستعداً للتجريب من جديد وشحذ أدواتي فهناك وقت، وأنا أعني العبارة بكل أبعادها.
لا أكتب من أجل الجوائز، وإن كنت قد حصلت عليها عرضاً، الكتابة عندي موقف، وهي مدعاة للفرح حيث أحاول كل مرة فهم تدابير القدر، والاحتكام لمعنى صيرورة الحياة، والبقاء حياً، مؤثراً، تحت الشمس؛ فهذا في حد ذاته أمر يدعو للبهجة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«ما وراء اللوحة» لراوية زنتوت... حكايات ملونة بطبقات التجارب

الطبيعة تشكل العنوان العريض للوحات زنتوت (راوية زنتوت)
الطبيعة تشكل العنوان العريض للوحات زنتوت (راوية زنتوت)
TT

«ما وراء اللوحة» لراوية زنتوت... حكايات ملونة بطبقات التجارب

الطبيعة تشكل العنوان العريض للوحات زنتوت (راوية زنتوت)
الطبيعة تشكل العنوان العريض للوحات زنتوت (راوية زنتوت)

تبعث أعمال الفنانة التشكيلية راوية غندور زنتوت شعوراً بالسكينة والهدوء. تتحول اللوحة إلى تجربة مريحة لمشاهدها من الضغوطات اليومية، وتأخذه في رحلة خيالية، حيث يمتد خياله في فضاء حر وزاهر، مع جرعات من الأمل التي يتركز الضوء فيها على محورها الأساسي.

في معرضها «ما وراء اللوحة» في مبنى بارك بالاس، تجمع زنتوت نحو 27 لوحة من أعمالها الأخيرة. وقد أنجزتها بين بيروت ومكان إقامتها في الجبل، مستندة على الطاقة الإيجابية لتعكس إحساساً بالفرح والراحة، مبلسمة الجراح والندوب.

تسكن لوحات زنتوت قصص من الحياة، مشبعة بتجارب متراكمة، وقد عبّرت عنها بعدد من طبقات الألوان الأكريليكية، المشرقة أحياناً والقاتمة أحياناً أخرى. ومن خلالها حاكت حوارات صامتة مع زائر المعرض، فبنت جسر تواصلٍ متين وغير منظور في الوقت نفسه، وحوّلته إلى مسار طويل يقود المشاهد نحو الرجاء.

وتحت عناوين مختلفة، ارتكزت أعمالها غالباً على عناصر الطبيعة، لتوضح وجهة نظرها تجاه حياة تتقلب أيامها بين الحلاوة والمرارة. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في لوحات مثل «دائرة الحياة»، و«همسات فجر ذهبي»، وكذلك في أعمال أخرى تحمل عناوين «مشهد مزهر»، و«أفق ذهبي».

تستلهم زنتوت من ألوان طبيعة لبنان موضوعات لوحاتها (راوية زنتوت)

توضح راوية غندور زنتوت، التي اشتهرت باقتباسها من بيروت ومناطق لبنان موضوعات لأعمالها، لـ«الشرق الأوسط» عن معرضها الحالي: «هذه المرة تحتل الطاقة الإيجابية الحيز الأكبر من رسوماتي». وأضافت: «كل لون فيها استخرجته من قصة حياة ومن رموز الطبيعة. فكما قلب الإنسان الأحمر، تناولت الأحلام الزرقاء. وبين الأصفر والأخضر والذهبي، حِكتُ الشمس والفجر والغروب والبحر وغيرها من عناصر الطبيعة».

تقول زنتوت: «أنا عاشقة لبلدي، ولأشجاره وسمائه، وطبيعته هي ملهمتي الأولى، لا سيما أنها تحتوي على مجموعة ألوان لا نهاية لها. وأعدّ نفسي من الفنانين الذين يحبون التعامل مع الألوان واستخدامها كلغة تعبيرية عندما تنتهي الكلمات. أستمد من خلال الألوان إيقاع يومياتي وحياتي ككلّ، وفي عملي (ما وراء اللوحة) رغبت في نقل مشاعري هذه إلى الآخرين».

تتأكد من أفكار زنتوت وأنت تتجول في المعرض، حيث تجد مجموعة من لوحات متراصة تحكي قصصها بالبرتقالي والبنفسجي والأحمر والأزرق والترابي.

وفي أخرى تمزج بريشتها المبدعة بين مجموعة ألوان متناسقة. فتبرز من خلالها انسيابية في تفكيرها وفي طريقة تعاملها مع الأمور. وتعلّق: «الألوان تستحضر شخصية اللوحة وتقودنا إلى أعماقها الدفينة. لم أشأ أن تكون لوحاتي مجرَّد أشكال جميلة وجذّابة. بل حاولت أن تتضمن النحت والمشاعر والأحاسيس والتجارب القابعة وراء اللوحة».

«دوائر الحياة» حكايات وتجارب متراكمة في معرض «ما وراء اللوحة» (راوية زنتوت)

وتشير زنتوت إلى أنها غالباً ما تواكب في أعمالها الأحداث العالمية اليومية، فتتضمن الحروب والمعارك وعوامل الطقس والمناخ، مستخدمة هذه الصور للتعبير عن آرائها ومشاعرها. وتوضح: «في بعض اللوحات اعتمدت الحركة النافرة لتعكس اضطرابات داخلية تسكننا، فتنبثق ألوان ورسوم تمنح شعوراً بالراحة. أما في لوحات أخرى، يطالعك الهدوء بشكل واضح، فيبعث الأمل والحب والرومانسية».

تتمسك زنتوت دائماً بالأمل بوصفه مخرجاً لأي موقف أو حالة حرجة، وتفسّر هذا التأرجح بين الحاضر والغد المجهول من خلال حوارات ملونة بالطموح، مطبقة بذلك القول المأثور: «ما أضيق الحياة لولا فسحة الأمل».

وتشرح زنتوت في حديثها: «هذا الأمل أستحضره دائماً في أعمالي من خلال الضياء، فيلاحظ ناظر اللوحة، مهما بلغت قتامة ألوانها، أن هناك بقعة نور تحيط بها».

تكمل جولتك في المعرض لتستوقفك طبقات من مادة الأكريليك ذات أبعاد ثلاثية، تمثل نبض حياة عصرية وذاكرة بصرية مشبعة بالوجدانيات والحس الصادق.

وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «إنه نوع من الحوار بين جميع هذه الحالات، فتكون اللوحات بمثابة مرآة للخبرات والتجارب. وعندما ينظر إليها المشاهد، يُجبر على الغوص في أعماقها بعيداً عن السطحية، ليكتشف ما تختزنه كل طبقة من ذكريات وتجارب».


«بدايات»... معرض يعيد رواد الفن السعودي للواجهة

لوحة لمحمد السليم (سوذبيز)
لوحة لمحمد السليم (سوذبيز)
TT

«بدايات»... معرض يعيد رواد الفن السعودي للواجهة

لوحة لمحمد السليم (سوذبيز)
لوحة لمحمد السليم (سوذبيز)

مع النهضة الفنية التي تمر بها السعودية حالياً من خلال إنشاء هيئات ومؤسسات تعني بالأصوات المعاصرة، ودعم الأجيال الجديدة كان واضحاً أن العودة للبدايات وتقوية الأواصر ما بين رواد الحركة الفنية ومعاصريها هي الأمثل لاستكمال الصورة الثقافية. سرعان ما عادت الأضواء تسلط على أسماء فنانين وفنانات بدأت على أيديهم حركة الفن الحديث في السعودية من الستينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي، ومن هنا توالت المعارض والكتب التي منحت الرواد مكانهم المستحق في رحلة تطور الفنون البصرية بالمملكة.

«بدايات» يأتي من تنظيم هيئة الفنون البصرية في المملكة وهو مشروع ضخم اعتمد على التوثيق والتحليل والبحث يختتم بإقامة معرض تقيمه الهيئة في 27 من يناير المقبل في الرياض تحت عنوان «بدايات الحركة الفنية السعودية» يقام في المتحف الوطني السعودي في العاصمة الرياض. يجمع المعرض أعمال نخبة من الفنانين الذين أسهموا في تشكيل المشهد الفني بالمملكة على مدى 3 عقود، مسلطاً الضوء على مرحلة مفصلية شهدت بروز الممارسات الفنية الحديثة والتجريدية في المملكة.

عمل للفنان عبد الحليم رضوي (سوذبيز)

ولعمل معرض بهذا الشمول، اعتمدت هيئة الفنون البصرية مشروعاً بحثياً اعتمد على المقابلات مع الفنانين والمختصين منهم 50 شخصية محورية وإجراء 120 تقريراً و80 زيارة ميدانية، بالتعاون مع فريق استشاري يضم كلاً من الفنان عبد الرحمن السليمان والدكتور محمد الرصيص والدكتور شربل داغر، مستفيدين من خبرتهم الأكاديمية، ومن شهادات الفنانين المباشرة لتوثيق المعارض المبكرة والحراك التعليمي واللغة التعبيرية المحلية التي تبلورت خلال تلك العقود.

ولم يأت اختيار المنسق الفني قسورة حافظ مفاجأة فهو مهتم بالحركة الفنية السعودية الحديثة والمعاصرة عبر غاليري «حافظ»، وقام مؤخراً بتنسيق معرض «خمسين... نظرة على الفن السعودي» في العاصمة البريطانية عن رواد الفن الحديث والمعاصر في المملكة في دار سوذبيز بلندن عام 2024.

من أعمال الراحلة منيرة موصلي (الشرق الأوسط)

وفي معرض «بدايات» عمل حافظ مع مجموعة واسعة من الأعمال الفنية التي تشمل اللوحات والمنحوتات وأعمال على الورق إلى جانب المواد الأرشيفية التي ستمنح المعرض جانباً تسجيلياً وتاريخياً هاماً، وسيركز أيضاً على تفاعل فناني القرن العشرين مع الإرث الثقافي للمملكة، وأيضاً مشاركاتهم العربية والدولية.

وينقسم معرض بدايات: بدايات الحركة الفنية السعودية إلى 3 أقسام رئيسية، يستعرض كل منها تطور المشهد الفني من منظور موضوعي وسياقي، بالاستناد إلى مواد أرشيفية وأعمال فنية. يتناول القسم الأول، أسس حركة الفن الحديث في المملكة العربية السعودية، ونشأة المشهد الفني من خلال التفاعل بين المبادرات الفردية للفنانين والدعم المؤسسي. أما القسم الثاني فيستعرض القضايا الفنية والفكرية التي شكّلت الإنتاج الفني السعودي، متتبعاً تأثيرات الحياة الحديثة، وإعادة صياغة التيارات الفنية ضمن السياقات المحلية. وأخيراً القسم الثالث، الذي يبرز إسهامات 4 فنانين ودورهم المحوري في هذه الحقبة، وهم: عبد الحليم رضوي، محمد السليم، منيرة موصلي، صفية بن زقر.

لوحة للفنانة (دارة صفية بن زقر)

وتشير دينا أمين، الرئيس التنفيذي لهيئة الفنون البصرية إلى أن المعرض سيحتفي بتاريخ الفن مضيفة: «نفخر بإبراز هذا الإرث الفني الغني من خلال تكريم الفنانين الرواد والمبادرات العامة والخاصة التي شكّلت المشهد الفني في تلك الفترة. نأمل أن يشكل هذا المعرض امتداداً حيّاً ومستداماً، يتيح للجمهور الوصول إلى عمق وتنوع تاريخنا البصري».

وقال القيّم الفني للمعرض قسورة حافظ: «يقدّم معرض (بدايات) سرداً شاملاً قائماً على البحث والتوثيق لتاريخ الفن الحديث السعودي؛ فمن خلال الدراسات الأرشيفية، والأعمال الرائدة، والروايات المباشرة للفنانين، نعمل على حفظ أسس الحركة الفنية للأجيال المقبلة. ويشكّل هذا المشروع تكريماً للفنانين الأوائل وإرثاً ثقافياً مستداماً يواصل إلهام الجمهور داخل المملكة وخارجها».

سيصاحب المعرض إصدار مطبوع شامل وفيلم وثائقي، ليشكّلا مرجعاً معرفياً طويل الأمد للباحثين والجمهور، إلى جانب برنامج شامل يضم جلسات حوارية وورش عمل متخصصة تتناول محاور أساسية تشمل التعليم الفني المبكر، دور المعلمين والمؤسسات الرائدة، وممارسات حفظ الأرشيف الفني.


«لا تُرد ولا تُستبدل»... دراما مصرية ترصد قضية التبرع بالأعضاء

من كواليس تصوير المسلسل (حساب صدقي صخر على «فيسبوك»)
من كواليس تصوير المسلسل (حساب صدقي صخر على «فيسبوك»)
TT

«لا تُرد ولا تُستبدل»... دراما مصرية ترصد قضية التبرع بالأعضاء

من كواليس تصوير المسلسل (حساب صدقي صخر على «فيسبوك»)
من كواليس تصوير المسلسل (حساب صدقي صخر على «فيسبوك»)

يناقش المسلسل المصري «لا تُرد ولا تُستبدل» مشاكل اجتماعية عدة مرتبطة بمرض الفشل الكلوي وصعوبة العثور على متبرعين لإجراء عملية زراعة الكلى، فضلاً عن التكلفة المالية الباهظة والعقبات القانونية والآثار النفسية والاجتماعية للإصابة بالمرض في عمر الشباب.

المسلسل الذي تقوم ببطولته دينا الشربيني مع أحمد السعدني، وصدقي صخر، وحسن مالك، وفدوى عابد، ومن كتابة الثنائي دينا نجم وسمر عبد الناصر، وإخراج مريم أبو عوف، صُوّر في مصر، ويحكي قصة «ريم» التي تقوم بدورها دينا الشربيني، وهي مرشدة سياحية شابة تتعرض لأزمة صحية خلال جولة إرشادية.

ومع نقلها للمستشفى بواسطة قائد «الأوتوبيس» السياحي الشاب «طه» الذي يقوم بدوره أحمد السعدني، تكتشف إصابتها بالفشل الكلوي وحاجتها إلى تلقي جلسات الغسل الكلوي، لتبدأ بعدها رحلة معاناة على مستويات عدة بداية من زوجها «نادر» الذي يؤدي دوره صدقي صخر، والذي توترت علاقتها معه قبل اكتشاف الإصابة، مروراً بوالدته التي تتحدث باستمرار عن رغبتها في رؤية حفيد لها، في حين يمنع المرض الزوجة من تحقيق هذه الرغبة.

وفي خضم التحديات التي تواجهها بعدم قدرتها على العمل، والمعاناة مع تداعيات الغسيل الكلوي المستمر، تبدأ في رحلة البحث عن متبرع، وهو أمر يجد صعوبات قانونية عدة مرتبطة بوجود شبكات للتبرع بالأعضاء بمقابل مادي بالمخالفة للقانون، في حين تتأرجح علاقتها مع زوجها في كل مرحلة.

الملصق الترويجي للمسلسل (الشركة المنتجة)

رحلة البحث هذه ترتكب فيها البطلة كثيراً من المخالفات القانونية، وتتعرض فيها لمخاطر عدة، ما بين مطاردات من شبكة للاتجار في البشر تستغل حاجة اللاجئين للهجرة غير المشروعة، مروراً بسيدات يوافقن على التبرع مقابل الحصول على أموال لإنقاذ أنفسهن، وصولاً إلى التعرض للنصب من شخص يطلب مضاعفة المبلغ المالي ويحصل عليه، لكنه يهرب قبل الدخول للمستشفى.

ويركز العمل الذي تم تصويره بين محافظات القاهرة الكبرى، والمنيا في صعيد مصر، ودمياط في دلتا مصر، على إبراز أبعاد متعددة لصعوبة الحصول على متبرع بالأعضاء بشكل قانوني، مع إظهار المخاطر التي يضطر من يرغب في التعافي عبر نقل الأعضاء إلى خوضها حتى مع سعيه لعدم مخالفة القانون.

بطلة العمل دينا الشربيني أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن حماسها للتجربة ارتبط بتأثرها الشديد بالواقع الذي تعيشه الشخصية في الأحداث، مشيرة إلى أنها التقت مجموعة من الأشخاص الذين يمرون بالتجربة نفسها، وجلست وتناقشت معهم بالفعل، مما ساعدها على التحضير للدور.

وعبّرت دينا عن سعادتها بردود الفعل التي وصلت إليها من الجمهور عندما شاهدوا العمل وتابعوا أحداثه، وهو أمر جعلها تشعر بوصول رسالة المسلسل بالفعل، مع تسليط الضوء على الأسباب التي تؤدي للفشل الكلوي بشكل مفاجئ، وغيرها من التفاصيل، مبدية حماسها لحالة الترقب للحلقات من الجمهور، وسؤالها في أي مكان توجد فيه عما سيحدث في الحلقات المقبلة.

صنّاع المسلسل في كواليس التصوير (حساب المخرجة على «فيسبوك»)

وقال الناقد محمد عبد الخالق إن مسلسل «لا تُرد ولا تُستبدل» نجح، رغم مأساوية التجربة التي يطرحها، في لفت انتباه المشاهدين وربطهم بحلقاته، وهو ما انعكس على نسب المشاهدة المرتفعة التي تفسر حالة من التفاعل الحقيقي مع الأحداث، مرجعاً الأمر إلى «الفكرة المختلفة التي خرجت عن الإطار التقليدي لقصص الحب والخيانة والمشكلات اليومية التي سئمها الجمهور لتكرارها خلال السنوات الأخيرة».

وأضاف عبد الخالق لـ«الشرق الأوسط» أن «قسوة الفكرة والغوص في تفاصيل مرض الفشل الكلوي، وتصوير ما يرتبط به من معاناة إنسانية وصعوبة جلسات الغسيل الكلوي... قُدمت بصدق»، لافتاً إلى أن الكاتبتين دينا نجم وسمر عبد الناصر نجحتا في رصد هذه التفاصيل بشكل حقيقي، يعكس معايشة كاملة لتجربة مريض يخضع لغسيل الكلى منذ بدايتها حتى نهايتها.

وأوضح أن «طرح فكرة البحث عن متبرع، بما تحمله من أبعاد قانونية وإنسانية معقدة، أضفى على العمل عمقاً إضافياً»، مشيراً إلى أن «المخرجة مريم أبو عوف استطاعت نقل هذه التجربة القاسية بلغة بصرية هادئة، بعيدة تماماً عن المبالغة أو الاستعراض»، على حد تعبيره.