آيديولوجيا اسكندنافيّة لإنقاذ العالم!

دور محوري للتعليم والإعلام الجماهيري ليبدأ «عهد المواطن الشّريك»

هانزي فرايناخت - غلاف «الآيديولوجيا النوردية»
هانزي فرايناخت - غلاف «الآيديولوجيا النوردية»
TT

آيديولوجيا اسكندنافيّة لإنقاذ العالم!

هانزي فرايناخت - غلاف «الآيديولوجيا النوردية»
هانزي فرايناخت - غلاف «الآيديولوجيا النوردية»

في الوقت الذي كانت فيه التجارب الشموليّة في حكم المجتمعات (النازية والفاشيّة والشيوعيّة والماويّة) قد انتهت جميعها إلى الفشل بدرجات متفاوتة حتى قبل أن يلملم القرن العشرين أوراقه ويرحل، تفاقمت في المقابل أزمات النظام الرأسمالي الغربي بنسخته النيوليبراليّة حتى اقترب من لحظة الانفجار العظيم مع الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 التي لم تنته انعكاساتها السلبيّة على العالم بعد. وهكذا انتهت البشريّة وهي في أعلى مستويات تقدمها المادي والتكنولوجي على الإطلاق إلى مقبرة آيديولوجيّات راحلة، بعضها مات وشبع موتاً، والبعض الآخر في حكم المتوفى سريرياً ولم يعد ثمة من فائدة لإبقائه على قيد الحياة موصولاً بأجهزة تنفس صناعيّ.
ومع ذلك، وفي قلب هذا الظلام فإن المجتمعات الاسكندنافيّة (الدنمارك، والسويد والنرويج وفنلندا تحديداً) نجحت في تبني حلول وسيطة بين الآيديولوجيات السائدة في العالم، ونحت إلى بناء فضاءات أقرب من غيرها للعدالة والعقلانيّة وتداول السلطة والنزاهة والشفافيّة، وتمكنّت تالياً من تحسين أوضاع شعوبها الماديّة بشكل استثنائي والاستفادة من ثرواتها في بناء مؤسسات راسخة وسياسات تنمية وثقافة تقدميّة أقلّه بالمقارنة مع أوضاعها قبل مائة عام مضت.
وهكذا، عندما لم يجد بقيّة العالم المفلس آيديولوجيّاً سوى محاولة إحياء فاشيات مرحلة الحداثة القديمة أو التّظاهر بقدرة النيوليبراليّة على الاستمرار في متاهة ما بعد الحداثة، سمحت الخبرة التاريخيّة المتميّزة لتلك البلاد في إطلاق نظريّة سياسيّة جديدة تطمح لأن تكون ما فوق حداثيّة «Metamodern - بمعنى تجاوز ثنائيّة الحداثة وما بعد الحداثة إلى مستوى تال من تقدّم البشريّة الثقافي -» وتسعى من خلال توجه فلسفي وجمالي وفكري إلى تقديم تصوّر عملاني لمجتمع بشري سيتمكن أفراده من إظهار درجة أعلى من فهم أنفسهم وموقعهم من تعقيدات كوكبنا المعولم والمترابط والمتشابّك تكنولوجيّاً، دون السقوط في فخ اليوتوبيا المثاليّة.
وبحسب مجموعة من كتب صدرت في السنوات القليلة الماضية لعدة مفكرين اسكندنافيين (مثل هانزي فرايناخت) فإن الطّرح السياسي لهذا التصور - والذي يطلق عليه اصطلاحاً بالآيديولوجيّة النورديّة (أي الاسكندنافيّة أو الآتية من شمال أوروبا) نسبة إلى عنوان كتاب بذات الاسم لفرايناخت - يمكن تلخيصه في فرضية أن البشر بعد الأزمة المستعصية الحاليّة يحتاجون لأجل بقاء الكوكب وازدهاره إلى مستويات متقدّمة من التنوير الفردي من خلال التّعليم المستمر والتداولات المجتمعيّة، وفي إطار نموذج متكامل من التّنمية السياسية والتقنية التي تضع في اعتبارها وحدة مكان العيش الذي يجمعنا عبر الحدود والهويّات.
ويجادل منظرو ما فوق الحداثة هؤلاء بضرورة إيصال البشر إلى نقطة القناعة بأنهم يواجهون مشاكل أكبر بكثير من ذواتهم واهتماماتهم المباشرة، وأنّه لن تكفي أي محاولات منعزلة للتعامل مع الأزمة داخل مناطق نفوذ محليّة وإقليميّة، وبالتالي لا مفرّ من تبني نظرية متعددة الأبعاد قادرة على التنقل بين الفردي والمحلّي والوطني والعالمي دون أي تعارض جذري بينها.
وفي الواقع، فإن جائحة (كوفيد - 19 ) الحالية لم تدع مجالاً للمكابرة وإنكار حقيقة أننا نعيش شكلاً ما من قرية عالميّة: فما حدث في أسواق ووهان الصينيّة كانت له مترتبات عبر العالم من أقصاه إلى أقصاه، ومسّ بنوعية حياة الأفراد والمجتمعات في كل مكان تقريباً على نحو دفع العقلاء للتساؤل عن أي معنى قد تبقى لمشاعر التفوّق الشّوفيني فيما أي أزمة إيكولوجيّة أو جائحة وبائيّة لن تميّز بين أولئك الذين يحبّون أوطاناً بعينها وأولئك الذين لا يحبونها - أو حتى الذين يعادونها - وعبثيّة إجراءات الحماية المحليّة أو مجرّد الاكتفاء بلوم الآخرين في التسبب بأزماتنا. ولذا فلا مفرّ بعد ما شهدناه رأي العين من تطوير حلول مشتركة عابرة للدول القوميّة كبوليصة تأمين جماعي ضد عدم التيقن الذي يلفّ مستقبل نوعنا برمتّه.
وبحسب الما - فوق حداثيين فإن الوصول إلى صيغة بوليصة التأمين الجماعي تلك يحتّم تغيير وتكييف طرائق عيشنا ونظم تواصلنا ومنهجيتنا في التعامل مع الأزمات والمشاكل المستقبلية، وتجاوز المشاريع الكلاسيكيّة سواء الاشتراكية والرأسماليّة وكل نماذج سيطرة الأقليّة لمصلحة أشكال راديكالية من الديمقراطية التّداولية والمشاركة المدنيّة الكثيفة والسياسة اللامركزيّة من شأنها أن تجدد الطرق التي تربط البشر ببعضهم، وتعزز شعورهم بالتضامن الاجتماعي وترتقي بهم من الأنانيّة الفردانيّة نحو نوع واع من المصلحة الذاتيّة القائمة على المصالح المشتركة. وإذا أصبحت تلك التداولات المدنيّة ممارسة معتادة فإن هؤلاء المنظرين يجزمون بأن الحلول التي ستأتي بها ستكون حتماً أقرب إلى الصواب وأكثر ملاءمة للظروف والاعتبارات المحليّة، وستحظى بتبني السكان المحليين لها والتزامهم بها بأكثر مما قد تتلقاه أي سياسات يضعها خبراء وموظفون ومراكز أبحاث لا إلمام لها بواقع الأمور على الأرض.
وتبدو الخطوط العريضة لهذه الآيديولوجيا الجديدة المقترحة أقرب ما تكون إلى نموذج هجين بين الديمقراطيّة الليبراليّة والاشتراكية الاجتماعيّة والتوجهات الخضراء التي تسترشد بها ممارسات أنظمة الحكم الحاليّة في الدّول الإسكندنافيّة. ولا أوهام عند أحد بالطبع من أنّ توفّر الإرادة السياسيّة لا يكفي وحده للوصول إلى مستوى التطوّر الفردي الذي تفترضه النظريّة - سواء لناحية مستوى التعليم أو لجهة المشاركة الاجتماعيّة - ويحتاج إلى عمل مكثّف على عدّة مراحل قد تمتد لسنوات. لكن ظروف العالم الموضوعيّة وتعاظم الأزمات العابرة للحدود وتقدّم الحلول التقنيّة بشكل غير مسبوق كلّها تدفع لإمكان تحقيق تلك النقلة النوعيّة في مدى منظور. ويستشهد ما يعرف بالما - فوق حداثيّين بالتّحولات العميقة التي مسّت طرائق عيش البشر وأساليب تواصلهم خلال أشهر قليلة فقط خلال العام 2020 كدلالة على واقعيّة طرحهم.
ويحقّ بالتأكيد لمن لم يطلّع كفاية على الحياة في اسكندنافيا أن يشكك في براغماتية هذه الما - فوق حداثيّة بوصفها أقرب إلى تفكير فوقي لأناس مرفهين يقدّمون طرحاً مسرفاً في التّفاؤل لدرجة تتحدى البنية الآيديولوجية والتاريخية الأساسيّة لمعظم مجتمعاتنا المعاصرة - بما فيها دول العالم الأوّل المتقدّمة - لكّن الحقيقة أن هذا الطّرح الذي لا يتطلب تغيير النظام الرأسمالي بكليته ويأخذ من الاشتراكية سياسات تضمن حداً أدنى للأكثرية من رفاه المجتمع ويدعم التوجهات البيئيّة الخضراء قد يكون خلال وقت قريب المخرج الوحيد الآمن للمجموع البشري من مستقبل يزداد قتامة مع مرور الوقت. ولا بدّ من أن تحقيق مستوى عال من المساواة الاقتصادية والمشاركة السياسيّة (الجماهيريّة الطابع) سيجعل الأفراد أقل تطلعاً للثروة والسلطة، وبالتالي أكثر تسامحاً وقبولاً للاختلاف، ويميلون إلى حل الصراع من خلال الحوار والحلول الوسط. ومع أننا قد لا نصل إلى أرض الشمال الموعودة قريباً، فإن الآيديولوجيّة النوردية تبقى أقرب إلى خريطة طريق لأجيال تالية.
ولا يوجد تناقض بين أي من مفكري ما - فوق الحداثة على الدّور المحوري الذي سيلقى على عاتق التعليم والإعلام الجماهيري لدعم عمليّات التغيير المجتمعي وتوفير قاعدة عريضة وشاملة لتعزيز ممارسة اللامركزيّة. وهذا قد يتضمّن فرض تغييرات أساسيّة على منطق ملكيّة تلك الوسائل، كما توسيع منصات التعبير والحوار والإبداع لتناسب صيغ تلقي الأجيال الجديدة للمعارف والتأسيس لما يطلق عليه اسم الما - فوق حداثيّين بمجتمع الإصغاء الذي ينتهي فيه دور المواطن المتفرج على سياسة الحاضر وصناعة المستقبل، ليبدأ عهد المواطن الشّريك.


مقالات ذات صلة

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

كتب نك بوستروم

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

الندرة أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب... العنف... الغزو... السطو...

لطفية الدليمي
كتب برنارد  بيفو

برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

«برنار بيفو أسطورة حقيقية في الحياة الثقافية الفرنسية»، هكذا وصفه صديقه الصحافي فيليب لابرو، إثر الإعلان عن خبر وفاته يوم الاثنين الماضي عن عمر 89 عاماً.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب «الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

عن دار «إضاءات» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الدراما» للكاتب المسرحي والناقد الإنجليزي أشلي ديوكس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق برنار بيفو (أ.ف.ب)

غياب برنار بيفو... «أيقونة» البرامج الأدبية الفرنسية

«ملك القراءة»، «عاشق الكتب»... سمِّه ما شئت، فقد كان نجماً وصانعاً لنجوم الأدب. رحيل برنار بيفو أمس (الاثنين)، عن 89 عاماً في ضاحية نويي الباريسية، بعد صراع.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

لعبة تبادلية بين الموسيقى وأصوات الرواية

تمهد الروائية المصرية مريم عبد العزيز روايتها الجديدة «لونجا» - دار «الكتب خان» للنشر بالقاهرة - بعتبة شارحة لعنوانها الذي قد يستوقف القارئ ويثير فضوله.

منى أبو النصر

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم
نك بوستروم
TT

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم
نك بوستروم

بعد كتابه المثير المنشور عام 2016 عن جامعة أكسفورد بعنوان «الذكاء الفائق: المسارات... المخاطر... الاستراتيجيات»، يعود الفيلسوف الأكسفوردي، سويدي الولادة، نِكْ بوستروم Nick Bostrom لينشر كتاباً جديداً له خالَف فيها توقعاته المتحفظة بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي الفائق على أن يشكّل مصدراً تهديدياً ممكناً للجنس البشري والحضارة البشرية. في كتابه الجديد يبدو بوستروم وكأنّ جائحة تفاؤلية قد تملّكته بشأن الممكنات الرائعة التي يَعِدُ بها الذكاء الاصطناعي. الكتاب الجديد منشور حديثاً (مارس/ آذار 2024) بعنوان «يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته»

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

النُدْرة محرّكاً للصراع البشري

كتابُ بوستروم الجديد يتمايز تمايزاً ملحوظاً عن كتابه السابق، وهو وإن وردت فيه عبارة «الذكاء الاصطناعي» كأحد العناصر الفاعلة في تشكيل الحاضر والمستقبل؛ فإن الكتاب يتناول في جوهره معضلة المعنى في سياقات مختلفة من أشكال الحياة البشرية.

أطروحة بوستروم في كتابه الجديد في غاية الوضوح والمعقولية ولا تحتاجُ إلى فذلكات مفاهيمية مراوغة أو معقّدة: الوجود البشري منذ بداياته الأولى اقترن بفكرة الصراع Conflict. الندرة Scarcity أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو، هذه كلها تغذّت على فكرة التغالب على مصدر محدود كان طبيعياً في بداياته (ماء، غذاء، وقود، أرض زراعية، أحجار كريمة) ثم صار خليطاً من مصادر طبيعية وغير طبيعية في أوقات لاحقة.

فكرة الندرة المسببة للصراع لها مترتباتها الواقعية والفلسفية والأخلاقية. لمّا كانت الطبيعة محكومة بمحدودية مواردها (خصوصاً غير المتجددة منها، مثل الخامات والنفط والذهب) فإنّ الكائنات البشرية تبدو مأسورة في نطاق صراع تطوّري يبدأ بالحاجة إلى تناول الطعام، من أجل إدامة البقاء، ثمّ من أجل تمرير مورثاته الجينية إلى سلالة لاحقة له. هذا هو منشأ فكرة التنافس Competition. هنا ينشأ تساؤل جوهري القيمة: ماذا لو ألغينا الحاجة إلى التنافس عن طريق توفير كلّ الحاجات الضرورية للعيش (الضرورية بمعنى البيولوجية)؟ سيضمحلّ التنافس تلقائياً وتختفي فكرة الصراع. عصر الوفرة Age of abundance سيكون بالضرورة عصراً خالياً من أشكال الصراع التقليدية.

يوتوبيا الوفرة: رؤية كينزية

الاقتصادي العالمي ذائع الصيت جون ماينارد كينز بشّر بنوع من يوتوبيا الوفرة بمقالة تاريخية له نشرها عام 1930، وكان لها أهمية مرجعية كبرى. المقالة عنوانها «الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا». رأى كينز في مقالته هذه أنّ البشرية في طريقها لحلّ المعضلة الاقتصادية القائمة على فكرة الندرة، ورأى أنّ عام 2030 (أي بعد قرن من نشر مقالته) هو العام الذي سنشهد فيه قدرة المدّخرات المتراكمة والتقدّم التقني على زيادة الإنتاجية إلى مناسيب تفي بالحاجات البشرية المتزايدة بمجهودات بشرية أقلّ بكثير من السائدة أيام كتابته للمقالة.

رأى كينز أنّ ساعات العمل الأسبوعية ستتراجع إلى حدود 15 ساعة، لكنّه حذّر في الوقت ذاته من أنّ ساعات الفراغ الطويلة قد تتسبّبُ في إشاعة نمط من الملل الذي ينشأ عنه انهيار عصبي جمعي ناجم عن انعدام المعضلات التي تتطلب حلولاً في العيش اليومي. ونحن نقترب من عام 2030 نرى بعض تنبؤات كينز متحققة بتقريبات جيدة فيما يخص زيادة مناسيب الدخل الإجمالي السنوي، لكنّ ساعات العمل الأسبوعية كمعدّل تتراوح في نطاق 36 ساعة، وهي بهذا بعيدة بمقدار غير قليل عن 16 ساعة التي بشّر بها كينز. في كلّ الأحوال، وبالمقارنة مع ما تحقق عبر السنوات المائة الماضية، يبدو أنّ تنبؤات كينز ليست بعيدة عن التحقق الكامل. هل سنعيش أخيراً يوتوبيا جديدة، يوتوبيا مابعد الندرة Post-scarcity Utopia نعمل فيها قليلاً، ويكون لنا فيها ساعات فراغ تتيح لنا التحلُّل من منغّصات العمل الخالي من شغفنا الحقيقي؟

سؤال المعنى في الحياة البشرية

منذ القدم ميّز الفلاسفة - ومثلهم فعل باحثو الوضع البشري المحدّثون - بين المتعة الآنية الناجمة عن إشباع لحظوي للحاجات البشرية البيولوجية Hedonia، والسعادة العميقة المقترنة بقصدية غائية عليا متسامية على الحاجات البيولوجية Eudaimonia. النوع الثاني من المتعة الأكثر ارتباطاً بموضوعة المعنى والغاية في الحياة. التهديد الوجودي في مجتمع ما بعد الوفرة يكمن في التساؤل التالي: لو أتاحت لنا الوفرة كل شيء مادي نحتاج إليه؛ كيف سنخلق المعنى في حياتنا في غياب التهديد والخطورة والمغامرة وحبّ البحث في المجاهل البعيدة؟! يذكّرني هذا الأمر بالفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر الذي كتب في واحد من مؤلفاته أنّ أجمل سنوات حياته عاشها وهو منخرط في المقاومة الفرنسية ضد النازيين، على الرغم من أنّ حياته حينذاك كانت مهدّدة باحتمال مواجهته الإعدام كل يوم لو كشفته السلطات النازية.

تبدو القضية الفلسفية لسؤال المعنى والغاية في الحياة متمحورة على مواضعة من نوع: المعاناة ضرورية لكلّ حياة بشرية تبتغي معنى وغاية في الحياة. يجب أن نضع في حسباننا أنّ المعاناة ليست شكلاً واحداً؛ فقد تكون ترحُّلاً في عوالم تخيلية. الكتابة مثلاً أحد الأشكال التي نخلق بها معنى وغاية في حياتنا، رغم أنّ فعل الكتابة لا ينطوي على تهديد مادي لحياة الكاتب.

يوردُ بوستروم موضوعة الحرب مثالاً تطبيقياً. نحنُ نتفاعلُ مع فكرة البطولة والتضحية في الحرب؛ لكننا لا نتمنّى الموت لنا أو لأحبائنا في أي حرب. يمكن تمديد فكرة الحرب على أمثلة حياتية كثيرة. السينما مثلاً (وكلّ الأشكال الدرامية): كلما كانت الدراما مشحونة بمعاناة أشدّ كانت أقرب لانتباهتنا واهتمامنا؛ لكنّ نطاق اهتمامنا ينحصر في المديات التي لا نكون فيها عناصر في تلك التجارب الدرامية العنيفة. الأنانية جزء أساسي في الطبيعة البشرية ولا يمكن نكران هذا الأمر إلا مع شخوص قليلين في التاريخ البشري كسروا قيد الأنانية بأمثلة تبدو بطولية لنا.

تنشيط جهازنا الميتافيزيقي

يبدو أنّ التطوّر القادم في نمط حياتنا، بفعل إسقاطات التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي، ستترتب عليه نتائج كبيرة، منها إعادة النظر في هيكلة مفهوم المتعة والمعنى والغاية في حياتنا البشرية. سنكون مدفوعين بفعل واقع الحال، وبسبب انعدام أو ندرة الوقائع الدرامية في حياتنا، إلى تنشيط جهازنا الميتافيزيقي المعطّل منذ عقود طويلة. كانت المعاناة والتضحية والانغماس الشاق في أعمال قد لا نحبها في الغالب العناوين المميزة لعصر ما قبل الندرة، التي بمستطاعها خلق المعنى والغاية. بعد هذا العصر سيتوجّب علينا خلق المعنى والغاية بكيفية ميتافيزيقية ذاتية، وأقصد بالميتافيزيقي هنا أن نخلق المحفزات من غير أن تكون لها بواعث مادية مشخّصة في الحياة اليومية المشهودة. يجب أن نتقن فنّ التحفيز الذاتي.

الندرة أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو...

عن كتاب بوستروم الأخير

لا يكاد بوستروم في كتابه الأخير يحيد كثيراً عن مؤلفاته السابقة التي هي مطوّلات تتطلب كثيراً من الرغبة والشغف في متابعتها. التمايز النوعي للكتاب الجديد عن سابقاته يتمثل في مسألتيْن: الأولى تقديم الكتاب الذي جاء أقرب لقطعة أدبية كتبها أحد الروائيين البريطانيين في العهد الفيكتوري. يصف بوستروم في مقدّمته مشهداً تخييلياً لطفل يتطلع من واجهة زجاج نافذة منزله إلى الثلج المنهمر في الخارج، وهو يفكّرُ في أيام قادمات ستتاح له فيها إمكانية الخروج واللعب بكرات الثلج، والجري فوق الثلج لمسافات طويلة. واضحٌ أنّ بوستروم يسعى من مقاربته التخييلية هذه لمدّ جسور لنا مع عالم ما بعد الندرة: ما نفكّر فيه اليوم ونراه حلماً بعيداً سيأتي بعد حين لن يطول. المسألة الثانية هي تبويب الكتاب. وزّع بوستروم عناوين كتابه على مقالات قصيرة بعض الشيء ضمن فصول ستة تبدأ عناوينها بأحد أيام الأسبوع. البداية بيوم الاثنين والنهاية بيوم السبت. اختار الأحد ليكون يوم راحة كما هي العادة المتبعة، ولعله يريد تذكيرنا بأنّ التقاليد ضرورية في حياتنا، وليس من مسوّغ لمسحها أو إبدالها أو تغييرها مع كلّ انعطافة تقنية جديدة.

الغريب أن يأتي نشرُ الكتاب الجديد لبوستروم متزامناً مع إعلان جامعة أكسفورد عن قرب إغلاق «معهد مستقبل الإنسانية» الذي يديره بوستروم بسبب ضغوطات إدارية (ربما تكون مالية لم تفصح عنها الجامعة). أتمنى ألا تلقى يوتوبيا بوستروم التي بشّر بها في كتابه الجديد نهاية حزينة شبيهة بنهاية المعهد الذي أداره قرابة العشرين عاماً.

يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

Nick Bostrom

IdeaPress Publishing

536 Pages


برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

برنارد  بيفو
برنارد بيفو
TT

برنار بيفو الصحافي الذي حوّل الأدب إلى مطلب شعبي

برنارد  بيفو
برنارد بيفو

«برنار بيفو أسطورة حقيقية في الحياة الثقافية الفرنسية»، هكذا وصفه صديقه الصحافي فيليب لابرو، إثر الإعلان عن خبر وفاته يوم الاثنين الماضي عن عمر 89 عاماً قضاها لا شاغل له إلا الكتب ونصوصها، رغم هواياته المتعددة التي جعلها جزءاً من كتاباته واهتماماته النقدية. بوجهه الطفولي المحبب، وحاجبيه الكثيفين، وضحكته اللماّعة، وحسّه النقدي، ونظارتيه اللتين يعلقهما بين الحين والآخر على أرنبة أنفه، أطل بيفو على المتفرجين الفرنسيين، طوال أكثر من ربع قرن، في موعد أسبوعي شيق، تسمرت من أجله الملايين أمام الشاشات، لتكتشف مع كل حلقة تبث، أفضل الإصدارات الجديدة، وأنجح الكتب، وتتعرف على المؤلفين الناشئين، وتتابع ما يقوله كبار الأسماء من المفكرين والأدباء.

بعد برنامجه «افتح مزدوجين» الذي لم يدم طويلاً، ولد برنامجه التلفزيوني الشهير «أبوستروف» عام 1975 وفق تصوره الخاص. هذا البرنامج الذي سيتحول بفضل براعة مقدمه وخفة ظله إلى واحد من أجمل وأرقى البرامج الثقافية التي عرفها البث التلفزيوني، وسيصبح مطلوباً حتى في دول لا تتحدث الفرنسية وتلجأ لعرضه مترجماً. نهاية الأسبوع، تحديداً مساء كل جمعة، عند التاسعة والنصف مساء، لحظة ذروة المشاهدة، التي غالباً ما تعطى لبرامج المنوعات الترفيهية، كان برنار بيفو يطل من القناة الثانية ليتحدث عن الكتب والأدب ويستضيف كتّابها، ويحاورهم حولها. أمر ربما لم يكتب لبرنامج ثقافي في تاريخ التلفزيون. الإقبال الشديد على البرنامج وجماهيريته العريضة، جعلته يستمر 15 عاماً محلقاً، ويصل عدد حلقاته إلى 724 حلقة. كان المؤلفون يعلمون أن الحظ يبتسم بقوة لمن يستضيفه برنار بيفو. لذلك حتى من لا يتحدث الفرنسية بطلاقة، كان يقبل التحدي، ولا يخلف موعداً مع المقدم وبرنامجه الشهيرين. فضيوف حلقة مساء جمعة من «أبوستروف»، هم الذين تتصدر كتبهم واجهات المكتبات في اليوم التالي. وبمرور الوقت، صار لـ«أبوستروف» ركن خاص في المكتبات، للباحثين عن المؤلفات التي ناقشها بيفو في إحدى حلقاته. البعض اتهمه بالتسلط، بسبب قدرته الفائقة على الترويج لكتاب أو كتب بعينها. فالمكانة المعنوية العالية التي حظي بها لدى جمهوره، تسمح له بالتأثير على القراء. لكن الحقيقة أن الرجل لم يبحث عن السلطة، وإنما جاءته بسبب جاذبيته ومهارته في التقديم، وبراعته في طرح الأسئلة وإدارة الحوار مع عدد من الكتّاب في جلسة واحدة، وأحياناً مع ضيف واحد يستحق حلقة من أجله. امتلك بيفو مرونة في التعاطي مع نصوص الكتب التي يقدمها، لم تعط لغيره، وقدرة على التبسيط، واستخدام لغة سهلة، تصل إلى عامة الناس مهما كان الكتاب صعباً. لم يكن برنامج بيفو هو الوحيد عن الكتب، ولا المتفرد على الشاشات الفرنسية الثلاث حينها، لكنه بقي بلا منافس حقيقي، لما تمتع به صاحبه من حيوية وطرافة مع قدرة على استثارة حوارات نابضة ومثيرة، مع ضيوف يجلسون متحلقين، تحيط بهم المكتبات.

قيل إن بيفو، بأسلوبه في «أبوستروف»، وطريقة تعاطيه مع الكتب والضيوف، ابتكر شكلاً جديداً لم يكن معهوداً في البرامج الثقافية. قبله كانت الحوارات بليدة، باردة، وجدية إلى حد مضجر، ومعه اكتسبت صلتها بالحياة والناس، مما جعل متابعي بعض الحلقات يتجاوزون الستة ملايين متفرج.

بعد توقف «أبوستروف» مباشرة، عام 1992، ابتكر بيفو، الذي لا تهدأ مبادراته، برنامجاً آخر هو «بويون دو كلتور» الذي سيكون بمثابة استمرار لما سبقه، وسيبقى بيفو متربعاً على عرش البرامج الثقافية الفرنسية، في مرحلة كان فيها للكتاب سطوة، وللمؤلف قيمة، وللقراءة جمهور عريض. وبذلك كان بيفو مؤثراً من خلال شاشة التلفزيون، قبل أن يولد المؤثرون على وسائل التواصل، لأنه امتلك القدرة على إلهام جمهوره، كما كان له كبير التأثير على متفرجيه باختياراتهم للكتب، لا بل وفي دفعهم للقراءة وتحفيزهم على الشراء، وصناعة الرأي العام، وتشكيل الذوق الأدبي.

وقد حرص بيفو على أن يقدم برنامجه مباشرة على الهواء، رغم التحذيرات من المخاطر. وقد حدثت له بالفعل العديد من المواقف المحرجة والمزعجة، منها عندما افتخر الكاتب غابرييل ماتزنيف بحياته الجنسية التي مارسها مع قاصرين. وهو ما أثار المتاعب لبيفو.

السؤال ليس عن أسماء الضيوف الكبار الذين استضافهم بيفو، بل عن هؤلاء الندرة الذين أفلتوا من برنامجه. فقد استضاف رولان بارت، أمبرتو إيكو، كلود ليفي شتراوس، بيار بورديو، مارغريت دوراس، فلاديمير نابكوف، لو كليزيو، مارغريت دوراس، باتريك موديانو، فرانسواز ساغان، وسياسيين ورؤساء جمهوريات، أبرزهم فرانسوا ميتران، وكذلك سينمائيين ومغنين ورياضيين.

لكن طريقة بيفو في جعل الأدباء في متناول كل الناس، لم ترق للبعض ومنهم ريجيس دوبريه عندما كان مستشاراً لفرانسوا ميتران، رئيس فرنسا حينها، واتهم بيفو عام 1982 بالسيطرة على الحياة الفكرية الفرنسية. لكن بيفو رغم انزعاجه، لم يقصّر في الرد وقرر مواصلة مهمته غير عابئ بما يقوله مستشار الرئيس. أما الفيلسوف جيل دولوز فعبّر عن رأي أكثر قساوة، حين عدّ أن برنامج برنارد بيفو، يشكل «الحالة الصفرية في النقد الأدبي»، وهو بطريقته التبسيطية المتلفزة «حوّل الأدب إلى عرض للممنوعات». وهو اتهام جائر، وثبت بعده عن الواقع، ليس فقط للفراغ الكبير الذي تركه بيفو في ما يتعلق ببرامج الكتب والثقافة، بعد اعتزاله الشاشة، ولكن أيضاً لأن حوارات بيفو مع ضيوفه اتسمت بالعمق الشديد، وبقدرته اللافتة على جعل الضيف يتكلم ويبوح، كما لا يفعل مع أي محاور آخر. وهنا يكمن سرّ بيفو الذي لا يزال يحيّر ويثير الأسئلة.

حرص بيفو رغم مشاغله التلفزيونية ومسؤولياته الجمة على ألا يقطع صلته بالصحافة المكتوبة. فقد كان له عمود باستمرار في إحدى المطبوعات. في السبعينات، كان كاتباً في مجلة «لو بوان»، ومنذ مطلع التسعينات بدأ يكتب في «جورنال دو ديمانش». كما أنه لم ينقطع عن تقديم البرامج الإذاعية، أو الإطلالة في تعليقات أسبوعية على الأثير.

عَدَّ دائماً أن الكلمة هي المحرك ولها خصص العديد من كتبه التي طالت ميادين مختلفة

لا غرابة أن يصفه صديقة فيليب لابرو بأنه «أحد أهم الشخصيات في الحياة الثقافية الفرنسية طوال أربعين عاماً» وبأنه «أعظم مدرّس للأدب عندنا، على الإطلاق». فقد تعددت مجالات عمل بيفو، في المكتوب والمسموع والمرئي، ومع دور النشر والجوائز، وكل ما له صلة بالكلمة. فقد عدّ دائماً أن الكلمة هي المحرك، ولها خصص العديد من كتبه، التي طالت ميادين مختلفة، منها «قاموس عشاق النبيذ»، وكان من الولعين بهذا المشروب، و«كرة القدم باللون الأخضر» هذه الرياضة التي شكلت عشقه أيضاً إلى جانب الطبخ الذي كتب حوله، واستضاف نجومه. أصدر في بداياته رواية بعنوان «الحب الرائج»، كما جمع مقالات، ونصوص الإملاء التي عمل عليها، وكتب مذكراته، ورواية من وحي شيخوخته حملت عنوان «لكن... تستمر الحياة». ما يزيد على 20 كتاباً تضاف إلى إنجازاته الثقافية.

لم يخب وهج برنار بيفو رغم اعتزاله تقديم البرامج التلفزيونية، فقد بقي ضيفاً محبباً، يحلّ على الشاشة عند كل إصدار جديد له، أو مناسبة، وبقي هذا النجم الأدبي بهي الطلى، مرح الروح، حاضر النكتة، متواضعاً، طريفاً، قريباً من القلب، إلى أن أعياه المرض، وتوارى عن أنظار جمهوره، عام 2022، وقد علم أن المرض هذه المرة لن يهادنه طويلاً.

بيفو فأرة الورق، وقاضم الكتب، دخل عالم الإنترنت برحابة. كان نشيطاً على «تويتر»، وشارك متابعيه أفكاره ومتعه الأدبية، وكانت الردود المعجبة تأتيه سخية ومحبة، تليق بمساره المكلل بالشغف والحب وعناق المعنى. وبوفاة بيفو هذا الوحش القارئ تطوى صفحة في عالم الأدب قد تصعب استعادة ما يشبهها. فالكتب لم تعد ورقاً كالذي كان يقلبه بشهية مقدم «أبوستروف» وهو يبحث عن المعلومة، والقراء تغير مزاجهم، وربما أن الأدب أيضاً تغيرت وظيفته.


«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟
TT

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

عن دار «إضاءات» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الدراما» للكاتب المسرحي والناقد الإنجليزي أشلي ديوكس، والذي يعد أحد المراجع التأسيسية في فن المسرح منذ أن صدرت الطبعة الأولى منه عام 1927.

ويتناول المؤلف في كتابه الذي ترجمه محمد خيري، وراجعه الدكتور عبد الحميد يونس، العديد من عناصر فن الدراما، مثل أنواع هذا الفن وأهمية الإخراج والتمثيل، لكنه يتوقف بشكل خاص عند فكرة الجمهور وكيفية التعامل معه، بخاصة بعد أن أصبحت هذه الفكرة «لغزاً» مع تطور فنون المسرح وأشكاله التجريبية لدى الكثير من صنّاعه، وأصبح السؤال اللافت: هل ينبغي الخضوع لها أو تجاهلها أو هناك حل وسط؟

ويشير المؤلف إلى أن أصحاب المسارح اعتادوا أن يطلقوا على «المشاهدين» كلمة «الجمهور»، وهي تسمية تعبر عن مدى الأثر العام للدراما، ولكن تلك التسمية تدفعهم إلى التسرع في الوهم بأنه لا يوجد سوى «جمهور» واحد فقط؛ وعلى ذلك يقال عن مسرحيةٍ ما إنها «ما فوق مستوى الجمهور»، وعن أخرى إنها من النوع الذي يرغب فيه الجمهور. ويلفت الكتاب إلى أنه في كل عام تُنفق أموال طائلة في محاولة إلى إشباع حاجة جمهور «وهمي»، في حين أن هناك أنماطاً مختلفة من جمهور المسرح، ولكل منها ذوقه الخاص، كذلك يوجد دائماً «جمهور مستتر» مثل الجمهور المثقف الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد كف عن ارتياد المسرح وما لبث أن أقبل عليه مع تألق الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن في الدراما الاجتماعية.

ومن ثم، يوضح الكتاب أن لكل مسرحية جيدة جمهورها الخاص سواء أكانت مسرحية لشكسبير أم كوميديا موسيقية، ويختار صاحب المسرح الذكي جمهوره من الجماهير العديدة التي يمكن أن يجتذبها، وهو لا يسعى إلى تثقيف هذا الجمهور الذي يتألف من أفراد من عامة الشعب، كما يضم أناساً مثقفين مثله، لكنه يعمل على الملاءمة بين ذوقه وذوقهم. وقد يفقد في سبيل ذلك بعض المال، لكنه لن يفقد أبداً ما يفقده زميله الذي يمضي حياته يتلمس عناصر النجاح الشعبي فقط؛ لأن الجمهور بالنسبة له ليس حقيقة من الحقائق، ولكنه وهْم من الأوهام التي تسيطر عليها.

في مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة

ويذكر الكتاب في هذا الصدد أن جمهور المسرح متغير من الناحية الكمية باستمرار بصرف النظر عن قوة الدراما أو روعتها، فالمسارح تتمتع أحياناً بنجاح غامض كما تعاني فترات غير مفهومة من الركود، وهي تتأثر بالتغيرات المفاجئة حتى التقلبات الجوية الطارئة. ولم توقظ الحرب الأوروبية ملكة الخيال والمشاعر عند رواد المسرح، ولكنها هبطت بمعظم المسارح في البلدان المتحاربة إلى أدنى مستوى من الذوق وصلت إليه منذ أجيال. وقد يتعرض عالم الملاهي لكارثة بسبب أزمة سياسية أو إضراب يقوم به عمال النقل أو فترة حداد قومي، ولا يدهشنا إذا رأينا صاحب المسرح يميل إلى تتبع أوهام الجمهور في شيء من الرهبة الأسطورية. إنه يرى في كل ليلة عدداً من الناس المجهولين له الذين لا نعرف أبداً مَن منهم حضر المسرحية بناء على الإعجاب بممثل معين من ممثلي العرض، ومَن منهم اجتذبته إلى المسرح فنون الدعاية والإعلان، أو مَن منهم استجاب لإعلانات الصحف.

وفي الختام يركز الكتاب على سيكولوجية جمهور المسرح، ويذكر أنهم يبدون كمخلوقات ذات أمزجة وأهواء غريبة ولا يمكن تعليل ما يقومون به من تصفيق، قد يضحكون ذات مساء من أعماق قلوبهم على عبارة يسمعونها في الليلة التالية في صمت ووجوم. وهكذا تنتابهم حالات من الحماس ومن الفتور، ومن المرح والعبوس، ومن الرقة والخشونة. ويشعر الممثلون بهذا التغيير في مزاج الجمهور قبل مرور عشر دقائق من الفصل الأول، ثم ينطلقون في التعليق عليه خلال فترات ما بين الفصول. ولا شك في أن لغز الجمهور يكمن إلى حدٍّ ما في حجمه، ففي مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة. يدخل المسرح عدد ضخم من المشاهدين وهويتهم غير معروفة، ثم يغادرون أبوابه دون أن يتركوا وراءهم أثراً. هذا الجمهور لا يعرف بصفة عامة شيئاً عن المؤلفين، وهو يعرف القليل عن الممثلين، ويجلس ساعتين أو ثلاثاً منهمكاً في مشاهدة ما يُعرض أمامه من تمثيل، ثم لا يلبث أن يختفي في ليل من النسيان.


«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر
TT

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

«كفَى»... كتاب يربط تحولات الاقتصاد بتعاسة البشر

في كتابها «كفى - كيف تدمر الليبرالية الجديدة البشر والطبيعة» الذي صدرت طبعته العربية عن دار « صفصافة» بالقاهرة، تشرّح الكاتبة النرويجية لين ستالسبيرغ الصلة بين التطورات الاقتصادية العالمية وتعاسة إنسان هذا العصر.

تدفع المؤلفة في الكتاب الذي يقع في 220 صفحة من القطع المتوسط بترجمة شيرين عبد الوهاب وبسنت علي أمين، بأن هناك مفاهيم مختلفة لمصطلح «الليبرالية الجديدة». فمثلاً يستخدمه البعض لوصف النظام الاقتصادي الذي أنشأته رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر من جهة والرئيس الأميركي رونالد ريغان من جهة أخرى؛ فكثير من الناس يطلقون مسمى «أصولية السوق» أو «ليبرالية السوق» على هذا النظام وينظرون إلى «الليبرالية الجديدة» بكونها نظاماً سياسياً اقتصادياً تطبق من خلاله الدولة نظام فكر السوق على معظم مجالات الحياة، بما في ذلك خدمات الرعاية الاجتماعية، مثل رياض الأطفال ودور رعاية المسنين.

وهناك من يربطون هذا المصطلح بمصطلح آخر هو الاستهلاك، وأولئك هم الذين يستغلون الإعلانات واللافتات الموجودة في كل مكان، ويفكرون في كيفية استغلال مخاوفنا وعدم ثقتنا في أنفسنا والاستفادة من كل ذلك في جني المال. وتشير إلى أننا يمكننا أن نرى أثر ذلك حينما نجد أنفسنا ننساق وراء تلك الفتن وننفق الأموال لكي نغير من شكلنا وشكل أجسادنا. فعندما يصبح شكلنا الخارجي وما نملكه مرتبطاً بماهيتنا وصورتنا الاجتماعية وكيف يرانا الناس، هنا يصبح الاستهلاك والهوية أمرين مرتبطين تمام الارتباط، وبالتالي يمكننا أن نرى كيف اصطبغ فكرنا بفكر هذه الموجة من الليبرالية.

ويلفت الكتاب إلى أن أفراد حركات العمال يربطون بين «الليبرالية الجديدة» ومصطلحات أخرى مثل مصطلح «الموارد البشرية» الذي حل محل قسم شؤون الموظفين، أو مصطلح الإدارة العامة الجديدة، وهو شكل من أشكال الإدارة التي تقيس مستوى الموظفين والنتائج من خلال التقارير البيانية والمؤشرات الدقيقة؛ فالليبرالية الجديدة بالنسبة لاتحادات العمال ما هي إلا نظام كبير «يدمر الحياة العملية وقواعدها».

ويهتم الكثير من علماء النفس أيضاً بهذا المفهوم وماهيته؛ فهم يرون أن الكثير من المرضى أو المستهلكين في زماننا هذا يعانون مشكلات واضطرابات نفسية صارت سمة من سمات هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومن بين هذه الاضطرابات الضغط والقلق المرضي وجَلد الذات والشعور بأن المرء غير كافٍ، كذلك الاكتئاب والوحدة والشعور باليأس والإحساس بالعجز. وهذه الاضطرابات النفسية ليست منتشرة فقط في أوساط الشباب؛ فالكثير من الناس من مختلف الأعمار يعانون منها ويتساءل علماء النفس ما إذا كانت هذه المشكلات النفسية تنشأ من داخل المريض ذاته أم أنها نتيجة للمجتمع الذي يحيا فيه المريض.

وترى المؤلفة أن «الليبرالية الجديدة» ترتبط بكل تفاصيل حياتنا، فإذا كنت تعاني مأزق ضيق الوقت أو التوتر والقلق غير المبرر الذي ينبع من إحساسك بعدم الرضى عن نفسك وشعورك بأنك غير جيد بما فيه الكفاية فاعلم أنك لست وحدك، وأن زميلك في العمل الذي يخشى رفض أي من قرارات وأوامر رئيسه أو مديره في العمل بسبب الضغط الواقع عليه نتيجة التقييمات المستمرة لأداء الموظفين هو أيضاً يعاني الشعور ذاته الذي تشعر به. وتحمّل «الليبرالية الجديدة» التي نعيش في ظلها هي مسؤولية ذلك كله بشكل أو بآخر.

وبحسب لين ستالسبيرغ، فإن هذه الموجة الجديدة من الليبرالية تفتقر للبوصلة الأخلاقية ولا تسعى إلا لتيسير أعمال الأسواق؛ فنجدها تدفعنا إلى تناسي بعض المُثل الإنسانية التي تربينا عليها، وأن نهتم عوضاً بأن نكون موظفين ذوي كفاءة عالية، وأن نتحلى بالإيجابية وأن تكون لدينا القابلية للتغيير والتكييف؛ ولكن ماذا سيحدث إذا لم نكن نرغب في ذلك؟... لا تفرض المؤلفة حلاً بعينه على القارئ إزاء تلك الأزمة العالمية، لكنها تكتفي بالإشارة إلى أننا نعرف أشخاصاً قرّروا أن يعيشوا الحياة بطريقة مغايرة واتخذوا قرارات مختلفة في ما يخص طريقة عيشهم وأسلوب حياتهم بعيداً عما تفرضه آيديولوجيات هذا الزمان.


رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار
TT

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

صنّف المستشرق الألماني يوهان فك (1894-1974) كتاباً بالألمانيّة، ترجمته «العربيَّة دراسات في اللُّغة واللهجات والأساليب». قام بالترجمة مدرس كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول عبد الحليم النَّجار (ت: 1964)، ونُشر بالقاهرة: مكتبة الخانجيّ (مطبعة دار الكتاب العربيّ) 1951، وبعد أكثر مِن ثلاثين عاماً ظهرت ترجمة ثانية للكتاب نفسه، قام بها أستاذ العلوم اللُّغوية في كلية الآداب- جامعة عين شمس الدكتور رمضان عبد التَّواب (1930- 2001)، صدرت عن مكتبة الخانجي نفسها (1980).

لا قيمة لترجمة ثانية لأي كتاب، إلا يكون قد استجد أمرٌ ما، فيما يخص النّص، أو ما توصل له مترجم الكتاب الثّاني مِن مصادر وروايات وشروحات، تكون قد فاتت المترجم الأول، ومِن المفروض أن تكون الترجمة الجديدة بمعزل عن الأولى، وإذا كان الأمر تصحيحاً أو تصويباً، في بضع كلمات، فلا يحتاج النص إلى ترجمة جديدة، وإعادة الجهد بلا طائل، عند ذلك يُكتفى بمقال ناقد، أو إصدار جديد للترجمة نفسها مع مقدمة، يشار فيها إلى النواقص إن وجدت.

هذا، وبعد 64 عاماً مضت على صدور ترجمة عبد الحليم النَّجار أُعيد نشرها كاملة مِن قبل المركز القوميّ للترجمة بالقاهرة (2014)، مع مقدماتها، وكانت مصدرة بقلم الباحث أحمد أمين بك (ت: 1954)، وتقديم محمَّد يوسف موسى، وواضح أن طبعة المركز القومي كانت مصورة، طبق الأصل، عن الطَّبعة الأولى، ولم يُشر فيها لترجمة رمضان عبد التّواب، لا مِن قريب ولا مِن بعيد، أي لم تؤخذ ترجمته بعين الاعتبار، وما ادعاه مِن إضافات في ترجمته، على أنها ترجمة جديدة، وهي ليست كذلك.

يقول رمضان عبد التّواب في مقدمته لترجمته المزعومة، معترفاً بسبق النّجار إلى ترجمة الكتاب، فانتظر حتّى نفدت طبعة (1951)، ولما فكر النَّاشر في إعادة طبع الكتاب، عرض عليه عبد التَّواب «إعادة الترجمة مِن جديد، مضيفاً تعليقات أستاذي، شيخ المستشرقين في الوقت الحاضر، بروفسور شبيتالر، رئيس معهد اللُّغات السَّاميَّة بجامعة ميونيخ، وما تجمع لدي مِن ملاحظات على مادة الكتاب، وقضاياه، وتصحيح شيء من التَّصحيف والتَّحريف، وبعض الأخطاء التي وقعت في ترجمته، فرحب بالفكرة ترحيباً بالغاً، وكان لتشجيعه وغيرته العظيمة على العربيَّة وتراثها، أكبر الأثر في هذا الكتاب، بالصورة التي هو عليها» (فك، العربيّة دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة رمضان عبد التواب 1980).

ثم أردف قائلاً لإظهار جهده وشقاه في الترجمة: «والكتاب دائرة معارف واسعة، يحتاج مِن مترجمه إلى الكثير مِن الصّبر والجهد، ومراجعة الكثير مِن المصادر، لتحقيق هذا النَّص أو ذاك، مِن نصوصه الكثيرة، الممتدة عبر عصور العربيَّة» (نفسه).

إذا كان لا بد مِن قول ذلك، فهي بالأحرى مِن حقّ مترجم الكتاب الأول عبد الحليم النَّجار، لا مَن أخذ النص المترجم كاملاً، حتَّى كان الشبه بين الترجمتين شبه الغراب بالغراب، مثلما يُقال، لا تصحيح ولا مراجعة، فالمصادر، التي ذكر عبد التّواب أنه بذل جهداً بمراجعتها، هي المصادر نفسها التي وصل إليها النّجار، ووضعها في حواشي ترجمته للكتاب.

ليست ترجمة أن يقلب مفردة «ممارسة» ويجعلها «احتكاك»، أو يستبدل «العلاقات» ويستخدم «الروابط»، فهذا ليس جهداً ولا ترجمة ولا إضافةً، أو يستبدل «نظرة خاطفة» ويستخدم عبارة «عود على بدء»، فهذا لإبعاد شبهة الانتحال عنه. هذا التغيير اللفظي الذي لا يؤثر على النّص، كان من رمضان عبد التّواب أن يُقدم الطبعة الجديدة، ويشير إليها، إذا كان يحسب ذلك على مستوى مِن الخطورة، وهو ليس كذلك، لا أن يستولي على الكتاب كاملاً ويجعل نفسه مترجماً، فإذا كان الجديد الذي أضافه عبد التّواب هو تعليقات المستشرق شبيتالر، وهذه لا تستوجب انتحال الترجمة كاملة، والأداء أنه راجع المصدر، وهي التي راجعها واثلتها النّجار نفسه.

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951) وبُعد عهدها، فالزَّمن كان 30 عاماً بين الطبعتين؛ والغريب ليس هناك من تصدى لفضح هذا الانتحال، مِن الوسط الأدبي والأكاديميّ، مع أنه كان انتحالاً مفضوحاً تاماً، وورط رمضان عبد التّواب نفسه في المقدمة، فقد أظهر نفسه المترجم المصوب لترجمة النَّجار، لا مستخدم نصوصه نفسها.

نبدأ مِن «التّمهيد»: ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 13): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة النَّجار (الصَّفحة: 1): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 17): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الإسلامي الأول، إلى خارج حدودها القديمة، في مواطن لغوية أجنبية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 6): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الأول، إلى خارج حدود الوطن العربي، في مواطن لغوية أجنبية».

نظرة خاطفة (عبد التواب)/ عود على بدء (النَّجار)

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 238): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام في مراحل الانحلال اللغوي التي بدأت بظهور السلاجقة، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 230): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام لمراحل الانحلال في تاريخ اللغة العربية أي المرحلة التي بدأت بظهور دولة السلجوقيين، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 234): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 242): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951)

ملحق مادة: ل ح ن، ومشتقاتها:

ترجمة عبد التواب (الصفحة: 243): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 235): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

بعد ذلك تأتي ترجمة عبد التّواب بالفهرس «فهرس تحليلي لموضوعات الكتاب»، عنوان النَّجار نفسه، والفرق أن عبد التواب جعله في آخر الكتاب (الصفحة: 256)، أما النّجار فكان قد وضعه في مقدمة كتابه، وهذا هو مكانه المناسب، لكن المهم نُقل حرفياً.

ختاماً، لقد استولى عبد التّواب على جهد عبد الحليم النّجار حرفياً، وإذا كان قد غيّر وبدل هنا وهناك فلا يزيد على كلمات وعنوان. يبدو مضحكاً للقارئ ومؤلماً للنجار، ما ورد في الغلاف الأخير من طبعة ترجمة عبد التَّواب (1980) الآتي: «وهذه الترجمة الجديدة، تمتاز بالدقة وكثرة التعليقات والتصحيحات والمناقشات لبعض القضايا المهمة في الكتاب»، ولم يزد صاحب الترجمة (الجديدة) شيئاً مذكوراً، غير نشر كلمة المستشرق شبيتالر، وهي 4 ورقات فقط، ووضع قائمة بمصادر مؤلف الكتاب، الواردة في الهوامش، استغنت عن ذكرها طبعة 1951.


العنف في العراق من خلال رواياته

العنف في العراق من خلال رواياته
TT

العنف في العراق من خلال رواياته

العنف في العراق من خلال رواياته

في دراسته «مدونة العنف في العراق» يبدأ الباحث الدكتور «أحمد حميد» بكلمة لـ«حنة آرنت» «كلُّ انحطاطٍ يُصيبُ السلطة إنما هو دعوة مفتوحة للعنف»، ممهداً لقضية انغراس العنف عميقاً في سلوكيات المجتمعات الشرقية، وكان للمجتمع العراقي النصيب الأكبر من هذا العنف الذي غيّر موازين القوى الاجتماعية والسياسية فيه، وبسببه اهتزت المنظومة القيمية نتيجة أنواع العنف المادي والمعنوي الذي مورس بحق العراقيين من قبل السلطات الحاكمة على مدى عقود من الزمان.

يذكر الدكتور «حميد» في مقدمة دراسته أن الرواية العراقية مثلت «العنف» خير تمثيل من خلال سردها الزاخر لمختلف مستوياته. وهذه الدراسة تغطي العنف في الرواية العراقية من عام 1960 إلى 2003، لأنها الحقبة الأبرز في تفشي العنف، وكذلك لظهور نتاج روائي كبير يغطي تلك المرحلة، وما بها من أحداث مرعبة وموت وسجن وانتهاك لحقوق الإنسان.

ولأن المفاهيم والمصطلحات هي مفاتيح كل دراسة، فقد أعطانا «الباحث» مفتاحاً له ثلاث حركات؛ الحركة الأولى تعريف العنف لغوياً، والحركة الثانية توصيف العنف فلسفياً، والحركة الثالثة تحليل العنف اجتماعياً، ثم ينفتح على تعريف شامل بأنه: «السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً، كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره». وفضلاً عن «العنف المادي» الذي سادَ المجتمع فقد كان إلى جنبه عنفاً معنوياً ورمزياً لم يبخل الباحث في تسليط الضوء عليه، لما فيه من أهمية في تكامل الرؤية الفلسفية والاجتماعية.

تكونت الدراسة من ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول العنف الذي طال الشيوعيين والقوميين والبعثيين والإسلاميين والمستقلين، وتناول الفصل الثاني العنف الذي نال من المرأة، وتناول الفصل الثالث عنف الحرب، لا سيما الحرب «العراقية - الإيرانية»، وحروب أخرى.

وتناولت الدراسة 33 رواية مثلت عينة السرد الروائي في تلك العقود المتسمة بالعنف، بوصفها متميزة برؤية فنية عالية، واتجاهات فكرية، وموضوعات واقعية متصلة بالصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، وبالوقت نفسه برؤية نقدية ساردة للوجع العراقي، وموجهة الرأي العام صوب هذه الانتهاكات الإنسانية، وهذا ما يتميز به الأدب، فليس الأدب للأدب، وإنما الأدب للمجتمع، وقضاياه المصيرية.

منهج الدراسة

ولأن لكل دراسة منهجاً يمكن عبره تحليل موضوعات الدراسة المطروحة، اختار «الباحث» منهج «البنيوية التكوينية» لـ«لوسيان غولدمان»، (1913 - 1970)، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، والمنظر الماركسي. ويتكون هذا المنهج من آليات للتحليل تتمثل أولاً في الفهم والتفسير، وثانياً في البنية الدالة، وثالثاً في الوعي القائم والوعي الممكن، وأخيراً في الرؤية إلى العالم. وحول الإجراء الأخير «الرؤية إلى العالم»، ذكر الباحث جملة من المفكرين الذين اهتموا بهذا الإجراء التحليلي، قبل «غولدمان»، ومنهم دلتاي، ولوكاتش، وهيغل، وماركس، وغرامشي، ولكنه أغفل عالم الاجتماع ماكس فيبر، وعالم الأنثروبولوجيا البريطاني «روبيرت ريد فيلد» اللذين اهتما كثيراً بالرؤية إلى العالم، بوصفها نظرية مفسرة للواقعات الاجتماعية.

العنف السياسي

تأتي البداية من عقد الستينات بوصفه العقد الذي انتعشت فيه الرواية فنياً، وانطلق منه التنوع والتطور السردي والتقني للرواية المحلية، ووثقت فيه ثقافة العنف الذي بدأ بالانتشار في الأوساط الاجتماعية وما يلحق به من تفاصيل وأحداث متباينة. فكانت رواية «غائب طعمة فرمان» المعنونة «خمسة أصوات»، التي تعد أول رواية متعددة الأصوات، والتي وثقت فيضان نهر دجلة عام 1954، وسجن نقرة السلمان، الذي يعد بمثابة العنف في ذلك العقد، فضلاً عن سقوط حكومة فاضل الجمالي (1953 - 1954). وتسرد الرواية العنف السياسي في تلك المرحلة من خلال شخصية طالب الشيوعي، وصديقه سعيد، إذ يكشف النص الروائي عن ثقافة الاستبداد، ومناكفة الخيار الشعبي الديمقراطي. وتحدث الفصل عن رواية «الثلاثية الأولى»، لكاتبها «جمعة اللامي»، ومشاهد العنف فيها، ورواية الكاتب «نجم والي» المعنونة «مكان اسمه كميت»، التي توضح العنف ضد المرأة اليسارية في تلك الحقب، فضلاً عن روايات أخرى لروائيين من أمثال: «عبد الرحمن مجيد الربيعي، وفاضل العزاوي، وزهير الجزائري».

العنف ضد المرأة

وتناول «الفصل الثاني» العنف المرتبط بالمرأة من خلال رواية «حبات النفتالين» لـ«عالية ممدوح» الصادرة عام 1986 وكيفية ضياع العائلة، في ظل سلوك الأب القمعي والعنيف. وكذلك رواية «أطراس الكلام» للروائي «عبد الخالق الركابي»، وهي رواية تكشف عن العنف الدائر بسبب الحرب، وخصوصاً حرب ما يسمى بـ«عاصفة الصحراء»، لإخراج قوات الجيش العراقي من الكويت عام 1991، وتأثير الحرب على البنية الاجتماعية للعائلة العراقية. وكذلك رواية «الخراب الجميل» للروائي «أحمد خلف»، التي توضح العنف الأسري ومظلومية المرأة من خلال شخصية «الكنة»، فضلاً عن روايات أخرى مثل «المستنقعات الضوئية» لـ«إسماعيل فهد إسماعيل»، و«الجسور الزجاجية» لـ«برهان الخطيب»، والعنف تحت مسمى الشرف العائلي.

وتناول الفصل الثالث عنف الحرب من خلال رواية «الحافات» للروائي «محمود جنداري» الصادرة عام 1985، وهي تؤرخ للعنف الدائر في الحرب «العراقية - الإيرانية»، وهموم وأوجاع الإنسان ومعاناته فيها، وكذلك رواية «ألواح» لكاتبها «شاكر الأنباري» الصادرة عام 1995، وهي تتناول موضوع الهروب من الحرب، التي هي أبرز مواطن العنف الحربي في تلك الحقبة.

وكذلك رواية «باب الخان» للروائية «هدية حسين»، التي تناولت الحرب بشكلٍ واسع ومشاهد العنف فيها، فضلاً عن روايات أخرى مثل «من يفتح باب الطلسم» للروائي «عبد الخالق الركابي»، ورواية «الخروج عن الجحيم» لـ«ناطق خلوصي»، وجلها تتحدث عن العنف ومشاهد الصراع والحرب في الساحة العراقية، وما يتعلق بها من أنساق تاريخية وثقافية واجتماعية.

ويخلص الباحث في نهاية دراسته إلى جملة من النتائج، منها أنه رغم مناخ الدولة المدنية في العراق فإن التعصب والعنف الجندري، والتمايز الطبقي، والعرف القبلي هو السائد، كما أن هذه الروايات هي خير من يؤرشف للصراع والحرب والعنف في أي مجتمع، وخصوصاً في المجتمع العراقي.

ولا شك أن مثل هذه الدراسات وغيرها مما يتعرض لدراسة الأدب الروائي العراقي من شعر وقصة ورواية، لا تقل أهمية عن أي دراسة تتعلق بتطور وتنمية المجتمعات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

* ناقد عراقي


مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي

مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي
TT

مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي

مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي

صدر حديثاً عن مؤسسة «شمس للنشر والإعلام» في القاهرة، بالتعاون مع «بيت الشعر العراقي» في بغداد، كتاب «غيمٌ على سرير... مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي»، اختارها الشاعر والناقد عماد جبار، وقدَّم لها الدكتور سعد التميمي.

وجاء في تقديم الكتاب:

الشاعر عبد الرزاق الربيعي من شعراء جيل الثمانينات، وهو حاضر باستمرار في الساحة الشعرية، وقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، مما جعل شعره موضوعاً لأكثر من خمس عشرة أطروحة دكتوراه، ورسالة ماجستير، في الجامعات العراقية والعربية، عدا البحوث والدراسات والمقالات.

تجربته الشعرية امتدت لما يقارب الخمسة عقود، وشكَّلت محطات بدأت بالثمانينيات التي كوته وجيله بنارها فخرج منها بمآسٍ وأحزان ترجمها إلى قصائد عكست حجم التحديات في تلك الأيام، لتبدأ بعد ذلك رحلة الغربة في المنافي، ليغرف من كل منفى معاني ودلالات ازدانت بها قصائده، هو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع، ويتعالى فيها صراخ الأرامل والأطفال باحثاً عن الأمل والحب والحياة، لذلك كان في منفاه يستعيد ما حملته الذاكرة من أوجاع الوطن، ويتفاعل مع ما يمر به الوطن عن بعد، فيعيد إنتاج تلك الأحداث بقصائد تلامس الواقع بصدق وفاعلية، فقد استطاع أن يحول المنفى إلى طاقة شعرية غنية وعميقة تستوعب التحولات التي عصفت بالواقع، وفي كل محطة ترك له بصمة شعرية متميزة.

ومن هنا انبثقت أهمية تقديم مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، بوصفها تجربة تكشف عن رؤية شاعر تسعيني كتب الأشكال الشعرية الثلاثة عن قناعة راسخة بأن الإيقاع جوهر الشعر، وأهم عناصره».


«فلسفة العبث»... تجلياتها في المسرح والرواية

«فلسفة العبث»... تجلياتها في المسرح والرواية
TT

«فلسفة العبث»... تجلياتها في المسرح والرواية

«فلسفة العبث»... تجلياتها في المسرح والرواية

عن دار «إضاءات» بالقاهرة صدر كتابُ «فلسفة العبث» للباحث والأكاديمي المصري د. حسن حماد، الذي يتوقف بشكل خاص عند التجليات المدهشة لتلك الفلسفة في عدد من الفنون، لا سيما المسرح والرواية. ويشير في البداية إلى أنه رغم أن موضوع العبث بمعنى «خلو الحياة من المعنى أو الهدف» يعد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الفكر المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية فإن الفكرة ذاتها لها تاريخ قديم جدا، حيث إن أسئلة من مثل «ماذا تعني الحياة»، «ماذا يعني الميلاد»، «ماذا يعني الموت»، «ماذا يعني الوجود» تعكس قلقاً عانى منه كثيرون قبلنا وطرحها المغامرون الفاتحون، والعاشقون المبدعون، وكذلك الشعراء والفلاسفة والمتصوفة.

يذكر المؤلف أن جون رسل تيلور في «قاموس بنغوين للمسرح» عام 1966 أشار إلى أن ما يسمى بـ«المسرح العبثي» ينطبق على مجموعة من كتاب الدراما تشكلت عام 1950 ولم يعتبروا أنفسهم مدرسة بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن يبدو أنهم كانوا يتقاسمون عدداً من الاهتمامات والأفكار الخاصة بمأزق الإنسان في الكون، خصوصاً تلك الأفكار التي عبر عنها ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف» عام 1942. ويشخص هذا الكتاب المأزق الإنساني بوصفه انعداماً للهدف في ظل وجود إنساني غير متناغم مع كل ما يحيط به من أشياء، لافتاً إلى أن الوعي بغياب الهدف تنتج عنه حالة يمكن تسميتها بـ«الكرب الميتافيزيقي»، تلك الحالة تمثل الموضوع الرئيسي لدى أشهر كتاب مسرح العبث مثل صمويل بيكت وأوجين يونسكو وأرثر آداموف وجان جينيه وهارولد بنتر.

وفي مقالة كتبها يونسكو عن الكاتب التشيكي فرانز كافكا يحدد العبث بأنه «الشعور بأن العالم قد خلا من الهدف والمعنى». و«مسرح العبث» هو ظاهرة من ظواهر ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد عُرضت مسرحية «الخادمتان» لجان جينيه لأول مرة في باريس عام 1947، كما عُرضت مسرحية «المغنية الصلعاء» ليونسكو لأول مرة عام 1950 وأخرجت مسرحية «في انتظار جودو» لبيكيت عام 1952. اللافت أن معظم كتاب العبث كانوا من المنفيين من بلادهم والمستوطنين باريس، فبكيت ولد عام 1906 من أصل إنجليزي آيرلندي ويكتب باللغة الفرنسية، ويونسكو ولد عام 1908 وهو روسي أرمني. وليس بين هذه المجموعة فرنسي المولد والمنشأ إلا جينيه ولكنه عاش تجربة المنفى بمعنى آخر، إنه منفي عن المجتمع نفسه إذ تركته أمه طفلاً ورباه غير أبويه فعانى من التشرد والضياع ودخل عالم اللصوص.

في مسرحية «نهاية اللعبة»، يقدم بيكيت أربع شخصيات عائلية تمثل أجيالاً مختلفةً ويجمع بينها أنها معطوبة بالعاهات الجسدية وغير الجسدية. «هام» شخص ضرير كسيح يجلس فوق كرسيه المتحرك ويتخذ له موقعاً في منتصف الحجرة، ورغم عجزه فإنه طاغية يتحكم في الأشخاص الثلاثة الآخرين ويصدر لهم أوامره. «ناج» و«نيل» والدا «هام» عجوزان كسيحان وضعهما ابنهما داخل صندوق للقمامة، أما الشخصية الرابعة فهي «كلوف» وهو صديق «هام» أو ابنه أو خادمه، لا أحد يعرف على وجه الدقة، ولكنه على أي حال هو الشخص الوحيد القادر على الحركة لكنه لا يستطيع الجلوس ويدور طوال الوقت حول «هام» ينفذ أوامره بطريقة سلبية وهو متأهب دائماً للرحيل لكنه لا يرحل، مثل معظم شخصيات بيكيت التي تبدو وكأنها مقيدة بأقدارها.

في مسرحية «الكراسي» ليوجين يونسكو، لا نجد على خشبة المسرح سوى مجموعة من الكراسي التي لا يجلس عليها أحدٌ. أما الشخصيات فهي امرأة عجوز ورجل عجوز وخطيب أصم وأبكم. العجوزان يثرثران من آن إلى آخر بكلمات مبهمة غامضة بلا معنى أقرب إلى التخريف. تلك الشخصيات توجد أمامنا ظاهرياً لكنها بدون وجود حقيقي، فهي أقرب إلى الأشباح منها إلى الشخصيات التي لا تظهر على المسرح بصورة فعلية وكأن غياب الإنسان وحضوره في هذا العالم أمران لا يختلفان.

عندما تبدأ المسرحية يوجد على المسرح كرسيان فقط ثم تبدأ زيارات أناس لا نراهم بصورة فعلية وكل زائر يوضع له كرسي جديد على المسرح والزوار الأوائل لهم ملامح واضحة ومحددة، ولكن مع مرور الوقت وكثرة الزوار نتعرف على الزائرين فقط بأسمائهم أو وظائفهم. وتزداد الكراسي مع تقدم الوقت حتى يكاد يضيق المسرح بها مما يضطر العجوزين إلى أن يبحثا لهما عن طريق بين زحام الكراسي. وينتهي يونسكو إلى الاقتناع بأن المسرح هو أفضل مكان يمكن ألا يوجد فيه أحد وألا يحدث فيه شيء.

اللافت أن معظم كتاب العبث كانوا من المنفيين من بلادهم والمستوطنين باريس

وعلى مستوى الرواية، يرى المؤلف أن رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ تقدم من وجهة نظره رؤية فلسفية متكاملة حول مفهوم «العبث» من حيث معناه ومستوياته ودلالاته المختلفة؛ كما أن محفوظ لا يكتفي بالوصف على طريقة الفلاسفة الوجوديين ولكنه يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، أي إلى مناقشة كيفية الخروج من مأزق العبث، وبالتالي فإن الرواية بلا ريب ليست مجرد ثرثرة مسلية أو تافهة بل ثرثرة تحكمها قيمة الحكمة وعمق الرؤية.

وحسب د. حماد، يحدد نجيب محفوظ معنى العبث في الفصل العاشر من الرواية بقوله: «العبث هو فقدان المعنى، معنى أي شيء وانهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي، وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال سلبية، وتصبح البطولة خرافةً وسخريةً ويستوي الخير والشر وتموت القيم جميعاً وتنتهي الحضارة». والمعنى المقابل للعبث عند محفوظ هو «الجدية» التي تعني الإيمان ولكن الإيمان بماذا، فلا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به، ولكن من الضروري أن يكون لإيماننا من الصدق والمصداقية ما يجعله قادراً على خلق البطولات وإلا كان نوعاً «جاداً» من العبث.

وتصور الرواية في هذا السياق مجموعة من الشخصيات العبثية، العابثة، الرافضة لكل قيمة أو معنى أو هدف، مبررين ذلك بأنهم سيتحولون بعد قليل إلى رماد وعظام وترهقهم في الوقت ذاته حقيقة أن الحياة اليومية تفرض عليهم ألواناً من الجدية الحادة التي لا معنى لها.


«تربية النحل حسب صمويل بيكيت»

«تربية النحل حسب صمويل بيكيت»
TT

«تربية النحل حسب صمويل بيكيت»

«تربية النحل حسب صمويل بيكيت»

صدرت حديثاً عن «دار المتوسط» رواية «تربية النحل حسب صمويل بيكيت» للكاتب مارتان باج بترجمة عربية أنجزها الروائي والباحث محمود عبد الغني

وجاء في تقديمها:

«عندما كلّفه صمويل بيكيت بترتيب أرشيفه وأوراقه، قرّر طالب دكتوراه شاب في الأنثروبولوجيا كتابة مذكراته الخاصة عن هذه التجربة. إنه بيكيت غير متوقَّع يكتشفه كل يوم: عاشق كبير للشوكولاته الساخنة مع خزانة ملابس باهظة، ولاعب بولينغ ومربي نحل متعطش». أطلق مارتان باج العنان لخياله، وبدأ يطرح الكثير من الأسئلة عن شخصية الكاتب اليوم، وصورته، وإرثه الأدبي. إنه بيكيت الجديد، المختلق هو ما نقرأه هنا في هذه الرواية الفريدة.

لقد بدت تلك اللقاءات بين طالب الدكتوراه وبيكيت غريبة ومدهشة بالنسبة له، لدرجة أنه سجَّل يومياته حتى لا ينسى أي شيء. بيكيت الذي يصفه، هو في الواقع بعيد كل البعد عن الرجل المتقشف الذي نعرفه: ذوّاقة مُحبّ للشوكولاته الساخنة، ويملك خزانة ملابس باهظة. يمكن أن يكون مربي النحل هو مارتان باج نفسه الذي، مثل الخيميائي، يصنع عسله من هذا اللقاء. إنه يلعب بالفخاخ التي تنزلق بسهولة بين الخيال والواقع، بين العمل وحياة مؤلفه. والنتيجة هي هذه الرواية - الحكاية الجريئة، المضحكة، الذكية، المبهجة والصعبة.

مارتان باج، روائي وناشر فرنسي وُلد عام 1975، قضى شبابه في الضواحي الجنوبية لباريس. يعيش حالياً في نانت، في منطقة «توت آد - دولون». بعد مسار دراسي متعثر حاول دراسة الكثير من التخصصات، لكنه لم يحصل على أي شهادة جامعية. نُشرت روايته الأولى «كيف أصبحت غبياً» في عام 2001، فنال بها شهرة عالمية واسعة، وتُرجمت إلى كثير من اللغات من بينها العربية. تبعتها روايات: «اليعسوب البالغ من العمر ثماني سنوات»، و«سنألف نهايات العالم»، و«ربما هي قصّة حب»، و«اختفاء فرنسا وولادتها الجديدة في أفريقيا»، و«فن العودة إلى الحياة»، و«تربية النحل حسب صمويل بيكيت». ألّف أيضاً للأطفال: «محادثة مع كعكة الشوكولاته»، و«أنا زلزال»، و«معركة ضدّ سريري»، و«اللقاء المجنون بين فلورا وماكس»، و«تصريح أن تكون طفلاً»... وله في الشعر مجموعة واحدة عنوانها «حادثة بيني وبين العالم».


كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين
TT

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».

الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ترى الباحثة البريطانية أن ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة؛ لأنها تتجاهل التاريخ الإنساني المشترك.

جوزفين كوين

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024