عندما وقفت رئيسة وزراء فنلندا الجديدة سانا مارين وسط زعماء الأحزاب الأربعة الأخرى الذين تتشارك معهم الحكومة الائتلافية لالتقاط صورة جماعية تحتفل بها بتسلمها المنصب، لم تكن تعلم أن الصورة تلك ستحظى بانتباه عالمي، وتطبع على صفحات جرائد في أنحاء العالم من آسيا إلى أميركا.
فنلندا دولة أوروبية شمالية صغيرة، لا يزيد عدد سكانها على الـ5 ملايين ونصف المليون، وليست دولة عظمى تؤثر بسياستها الخارجية، كما أن سياستها الداخلية هادئة لا تجذب كثيراً من الاهتمام العالمي عادة. ولكن هذه الصورة كانت مختلفة، فجميع رؤساء الأحزاب نساء، وكلهن شابات لا تزيد أعمارهن على الـ34، باستثناء إحداهن التي تبلغ من العمر 55 سنة.
ورغم أن العالم طبعها بأنها أصغر رئيسة وزراء في العالم، فإن مارين نفسها تقول إنها لم تُلق انتباهاً يوماً لسنها، ولا لواقع أنها سيدة، بل تفكر بالأسباب التي دفعتها لدخول السياسة. ولكن إذا كانت هي لا تهتم بكونها سيدة شابة وصلت إلى المنصب الأعلى في الدولة، ونجحت بأن تحكم وإلى جانبها سيدات من سنها يرأسن أحزاب الائتلاف، بحكومة معظمها سيدات، فإن هذه الصورة ودلالاتها لم تخفَ حتى على خصومها السياسيين. وكتب رئيس وزراء فنلندا السابق المنتمي لحزب المحافظين ألكسندر ستاب على «تويتر» يقول: «إن حزبي ليس في الحكومة، ولكني أحتفل بأن زعماء الأحزاب الخمسة في الحكومة هن سيدات. هذا يظهر أن فنلندا دولة عصرية متقدمة. غالبية الحكومة التي رأستها أنا كانت أيضاً مؤلفة من النساء. ذات يوم، لن يعود للجنس أهمية في الحكومة. وحتى ذلك الحين، نبقى في الريادة».
قبل أسبوع من اختيار الحزب الاشتراكي الفنلندي سانا مارين (34 سنة) لترأس حكومة فنلندا، كانت هي ما تزال وزيرة النقل والاتصالات في حكومة الزعيم الاشتراكي أنتي رينه. وفي اللحظات الدراماتيكية التي كانت تحيط برينه، بعد أشهر قليلة على تسلمه منصبه، والتي دفعته للاستقالة، كانت مارين في بروكسل تشارك باجتماع أوروبي.
وعلى عجل، استدعيت للعودة إلى بلادها التي باتت في مأزق سياسي. فالرئيس رينه خسر ثقة أحزاب شريكة في حكومته الائتلافية بسبب تعاطيه مع أزمة الإضرابات التي شلت البلاد. فاستقال من منصبه كرئيس للوزراء، على أن يختار الحزب بديلاً له ليرأس الحكومة. وهكذا، وقع الاختيار على مارين البالغة من العمر 34 سنة لخلافته.
وبعد يوم من موافقة البرلمان على تسميتها رئيسة للوزراء، عادت مارين إلى بروكسل لتشارك في اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس كوزيرة هذه المرة، بل كرئيسة للوزراء تتبادل أطراف الأحاديث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شوهد وهو يقدم لها التهاني بحرارة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرهما من الزعماء الأوروبيين.
أولويات الرئيسة
هناك في بروكسل أيضاً، عاد الصحافيون ليسألوها عن سنها، وواقع أن الحكومة الفنلندية أغلبها من النساء، إذ تضم 12 امرأة و7 رجال، فأجابت: «لا أركز على هذا الأمر، فأمامنا كثير من العمل في الوقت الحالي علينا إنجازه». وبالفعل، فأمام رئيسة الوزراء الشابة كثير من العمل.
داخلياً، تواجه مارين أزمة إضرابات عمالية كبيرة أطاحت بسلفها، سيكون عليها التعاطي معها بأسلوب مغاير يمكنها من الحفاظ على ثقة حكومتها، وهي لن تضيع كثيراً من الوقت لكي تتحدث عن الأزمة الأولى التي تواجهها، وتقول إنها لن تقارب المفاوضات مع العمال بأفكار مسبقة، وإنها تقف إلى جانب ذوي الدخل المحدود، مضيفة: «البلاد لا تحتمل استمرار الإضرابات».
والواقع أن العدالة الاجتماعية أحد الأسس التي تسير مارين في حياتها السياسية، فهي تعد من الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي، حتى أنها تحيي أعضاء الحزب عندما تتوجه إليهم بالقول «أيها الرفاق». ومن ثم، فهي من أشد المؤيدين للنظام الاجتماعي في البلاد، وقد تحدثت أكثر من مرة عن كيف قدم لها النظام سنداً عندما كانت بحاجة إلى ذلك في صباها.
النشأة والبدايات
نشأت مارين في عائلة فقيرة، وربّتها والدتها بمفردها بعدما انفصلت عن والدها وهي في سن صغيرة، لإدمانه على الكحول. وكتبت هي نفسها تقول إنها «قصة عائلة مليئة بالحزن، ولكن بفضل النظام الاجتماعي لفنلندا والتشجيع من الأساتذة المتطلبين» تمكنت من تخطي الصعاب، والتخرج من جامعة تامبيري (شمال العاصمة هلسنكي)، لتصبح الأولى في عائلتها التي تتخرج في جامعة. وفي سن الـ15، عملت مارين في فرن، وكانت توزع المجلات لكي تحصل على مصاريف الجيب التي لم تكن والدتها قادرة على إعطائها إياها.
وتروي الرئيسة الشابة أنها بدأت الاهتمام بالسياسة عندما كانت تبلغ من العمر 20 سنة، من خلال الحركات والمنظمات الشبابية. وفي عام 2012، انتخبت عضواً في بلدية تامبيري حيث كانت تعيش، رغم أنها مولودة في العاصمة هلسنكي.
ولم تكن حينذاك قد تجاوزت سن الـ27، وكان هذا المنصب هو الذي شكل مفتاح صعودها السريع بعد ذلك، إذ إنها ترأست مجلس البلدية - في المدينة التي تعد من أكبر مدن البلاد - بين عامي 2013 و2017. ويروي متابعو مسيرتها أنها رغم صغر سنها عرفت بصرامتها، وقدرتها على إدارة جلسات مجلس البلدية بشكل حازم فعّال. وينتشر شريط لها وهي ترأس إحدى الجلسات التي تناقش إنشاء ترام جديد، وتبدو وهي تعبر عن امتعاضها مراراً من محاولات أعضاء المجلس التسويف وإضاعة الوقت بمداخلات طويلة.
نائبة لزعيم الحزب
وفي عام 2014، انتخبت مارين نائبة لزعيم الحزب الاشتراكي، ونجحت عام 2015 بدخول البرلمان للمرة الأولى وهي في سن الثلاثين. وبعد إعادة انتخابها في وقت سابق من العام الحالي 2019، عيّنت وزيرة للزراعة والاتصالات في حكومة رينه الذي وجد فيها باكراً نجمة صاعدة، فاحتضنها وأدخلها حكومته، ولم تمض أشهر حتى انتخبت لتحل مكانه.
ومن ناحية ثانية، لم تعرقل حياة مارين العائلية طموحها السياسي وصعودها السريع، فهي أم لطفلة عمرها أقل من سنتين، ولكنها تقول عن ذلك، كما تقول عن كونها سيدة وشابة، إنها تفكر بنفسها بهذه الطريقة، بل إن واقع كونها تأتي من عائلة فقيرة، ساعد بتقريبها من الناخبين الذين يشعرون بأنها «واحدة منهم». فقبل تسلمها رئاسة الحكومة، حلت مكان رينه لبضعة أيام خلال الحملة الانتخابية عندما تعرض لوعكة صحية، بصفتها نائبة الحزب. ونجحت بأن تكسب تحالف الأحزاب الرئيسية شعبية إضافية، بعدما كان ينحدر في استطلاعات الرأي، مع تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز».
وبالتالي، ورغم تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي كسب نسبة أكبر بكثير في الانتخابات الأخيرة مطلع العام على حساب الحزب الاشتراكي، نجح الاشتراكيون بالتحالف مع 4 أحزاب أخرى في تجاوزه، مما مكّنهم من تشكيل الحكومة. ولكن سياسات حكومتها البيئية، وتعهدها الطموح بتحويل فنلندا إلى دولة خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2035، تبيّن أنها ستكلف الناخبين غالياً.
التحديات الاقتصادية
ولا يساعد مارين كذلك الوضع الاقتصادي في البلاد، فنسبة البطالة مرتفعة بالنسبة لبلد صناعي، وهي ضعفا النسبة في هولندا وألمانيا، كما أن النمو الاقتصادي قد تباطأ. وتعلم مارين ذلك، وهو ما دفعها للتذكير، في أولى الكلمات التي ألقتها بعد انتخابها رئيسة للوزراء، بالعمل لتحقيق هدف حكومتها بخلق 30 ألف وظيفة جديدة. غير أنها قد تعجز عن تحقيق ذلك مقابل الحفاظ في الوقت نفسه على التقديمات الاجتماعية التي كرّرت دعمها لها أكثر من مرة، وتحدثت عن كيف ساعدها نظام الدولة في الأوقات التي كانت بحاجة إليه. فالخدمات الاجتماعية تكلف الخزينة غالياً، والضرائب المرتفعة أصلاً غير كافية لسداد فواتير الصحة والتعليم ومعونات البطالة وغيرها.
ولعل ما يزيد من مشكلات رئيسة الوزراء الجديدة مطالب العمال المتزايدة برفع أجورهم، وهو ما تسبب بموجة الإضرابات التي شلت البلاد، وورثتها مارين عن سلفها. ولكن هؤلاء تحديداً يشكلون «مفتاحاً» انتخابياً مهماً للاشتراكيين، خصوصاً أن كثيراً منهم تحول لدعم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي يعتمد خطاباً شعبوياً يدغدغ مشاعر العمال. وبحسب البعض، فإن رينه فشل بسبب محاولته اللعب على الأوتار كلها في الوقت نفسه، أي أنه حاول إرضاء العمال بخطاب شعبوي، واليساريين بخطاب اجتماعي، و«الخضر» بخطاب بيئي. لكنه فشل في ذلك، وبدا كأنه يخدع الجميع. وسيكون هذا التحدي أمام مارين، بمحاولة استمالة الطبقات التي تركت الاشتراكيين للأحزاب الأخرى، من دون الظهور بمظهر «المخادع».
الأمن القومي
المشكلات الداخلية للرئيسة الشابة لا تنتهي بالاقتصاد، بل تمتد أيضاً لقضايا تتعلق بالأمن القومي. فواحدة من الأمور التي ينشغل بها الفنلنديون حالياً استعادة مواطنيهم الذين قاتلوا مع «داعش» في العراق وسوريا، ويقبعون حالياً في مخيم الهول لدى الأكراد، ويعتقد أن هناك العشرات من المقاتلين مع عائلاتهم يتنظرون العودة إلى فنلندا. وحتى الآن، تعتمد هلسنكي موقفاً مشابهاً لمواقف الدول الأوروبية الأخرى، برفض استعادتهم بحجة عدم وجود خدمات قنصلية في مناطق الأكراد.
ولم تتمكن مارين من تجاهل هذه القضية في أول ظهور إعلامي لها بعد تسلمها منصبها، إذ سألها صحافيون ما إذا كانت حكومتها قد أخذت قراراً حول كيفية التعامل مع المقاتلين وعائلاتهم، وما إذا كانت عملية إعادتهم قد بدأت، فكان ردها بأنها لا تملك معلومة كهذه لأنها «تسلمت منصبها قبل 6 ساعات فقط». ولكنها أضافت أن الحكومة الماضية التي كانت وزيرة فيها ناقشت الأمر عدة مرات، واستنتجت أن مناقشة الحالات الفردية يعود للمسؤولين الحكوميين، ولكن الحكومة لم تتخذ أي قرار سياسي بإعادتهم إلى فنلندا.
للعلم، وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو الذي تسلم منصبه في يونيو (حزيران) الماضي، وحافظ عليه في الحكومة الجديدة، كان قد أعلن عن تشكيل لجنة خاصة تدرس استعادة 30 طفلاً فنلندياً من مخيم الهول. ولكن قد لا تتمكن هلسنكي قانونياً من استعادة الأطفال من دون أمهاتهن، مما قد يجبرها على استعادة أشخاص يشتبه بأنهم قد قاتلوا إلى جانب «داعش»، وهو ما يتسبب بجدل كبير داخل الحكومة الائتلافية نفسها. فالحزب الوسطي المشارك في الحكومة يخشى استعادة هؤلاء، واستغلال حزب «فينز» اليميني المتطرف لذلك، خصوصاً أنه يحل في الطليعة في استطلاعات الرأي.
استغلال أزمة اللجوء
ورغم أن اللاجئين لا يشكلون أعداداً كبيرة في فنلندا، فإن قصتهم تحولت أيضاً إلى مادة انتخابية للحزب اليميني المتطرف الذي يستغل واقع أن معظم الفنلنديين يؤيدون الحد من أعداد اللاجئين، فيما مارين نفسها تنتقد هذه السياسات التي تطالب بتقليص أعدادهم. وكانت الموجة الأكبر عام 2015، حين وصل إلى فنلندا أكثر من 30 ألف لاجئ، 60 في المائة منهم من العراق. ولكن في العام التالي، ألغى ما يزيد على الـ5 آلاف لاجئ عراقي، معظمهم شبان، طلبات لجوئهم، وقرروا العودة طوعاً إلى العراق، بسبب ما قالوا إنه إحباط من النظام والحياة في فنلندا.
وكانت الحكومة السابقة التي كان يشارك فيها حزب «فينز» المتطرف قد صعبت منح اللجوء، وحددت شمل العائلة بأفراد العائلة المباشرة. ورغم أن سياسة الاشتراكيين مختلفة، فإن مارين قد تجد صعوبة بتليين سياسة الهجرة لصعوبة تمريرها داخل الحكومة الائتلافية، وخوفاً من خسارة المزيد من الأصوات.
سنوات أربع تأمل مارين أن تغير خلالها كثيراً من الأشياء إيجاباً في بلدها، وتقول إن «العمل لن ينتهي حينها، ولكن فنلندا قد تصبح دولة أفضل». وحتى ذلك الحين، وإذا ما نجحت بالاستمرار بعهدها، تبقى مارين ثالث سيدة تحكم فنلندا، وأصغر رئيسات الحكومات في العالم سناً.