كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

خسارة الرئيس وحزبه السيطرة على «الجمعية الوطنية» قد لا تعني الكثير خارجياً

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
TT

كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)

عانى المشهد السياسي بكوريا الجنوبية حالة من الجمود السياسي، بعدما وجه الناخبون صفعة للرئيس يون سوك يول، مع تعرّض حزبه، حزب «سلطة الشعب»، المحافظ لهزيمة كارثية في الانتخابات البرلمانية، الأسبوع الماضي. إذ أحرز الحزب «الديمقراطي الليبرالي»، القوة المعارضة الرئيسية والقوى الأصغر المتحالفة معه، فوزاً ساحقاً بحصوله على 189 مقعداً في الجمعية الوطنية (البرلمان) المؤلفة من 300 مقعد، في حين حصل الحزب الحاكم بزعامة يون على 108 مقاعد فقط. وفق الأرقام المعلنة، أدلى حوالي 29.66 مليون شخص، أو 67 في المائة من الناخبين بأصواتهم، ما يمثل أعلى نسبة مشاركة في انتخابات الجمعية الوطنية منذ عام 1992. وما يستحق الذكر أنه منذ استعادة الديمقراطية في كوريا الجنوبية عام 1987، لم يحصل أي رئيس على نسبة رضا شعبي منخفضة عن أدائه على امتداد فترة طويلة مثلما حدث مع يون - التي تراوحت بين 35 في المائة و40 في المائة منذ مايو 2022 - بأول سنتين من رئاسته.

تجري إدارة الشأن السياسي في كوريا الجنوبية في إطار جمهورية ديمقراطية تمثيلية رئاسية، حيث يمثل الرئيس رأس الدولة، وتقوم الدولة على نظام متعدد الأحزاب. ولضمان الفصل بين السلطات، يتألف كيان الدولة من ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتتولى الحكومة السلطة التنفيذية، بينما تتشارك الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) في السلطة التشريعية. ومنذ عام 1948، خضع الدستور لخمس مراجعات أساسية، كل منها تدشن جمهورية جديدة. وبدأت «الجمهورية السادسة» الحالية مع آخر تعديل دستوري كبير دخل حيز التنفيذ عام 1988، وبموجب الدستور يتولى الرئيس منصبه لولاية واحدة فقط مدتها خمس سنوات. أما مدة ولاية البرلمان فتبلغ أربع سنوات.

اختبار حقيقي ليون

جاءت الانتخابات التي شهدت منافسة حامية الوطيس بمثابة اختبار حقيقي لشعبية يون (63 سنة)، مع بلوغه منتصف فترة ولايته الممتدة لخمس سنوات. وعدّ بعض المحللين الانتخابات الأخيرة بمثابة استفتاء على شعبيته التي تضررت في خضم أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة وسلسلة من الفضائح السياسية.

الواقع أنه منذ وصول يون إلى سدة الرئاسة بأغلبية ضئيلة بلغت 0.8 في المائة فقط عام 2022، جابه قيوداً من قبل الهيئة التشريعية التي يسيطر عليها «الحزب الديمقراطي». ولقد نال في المعركة الرئاسية يون خلال مارس (آذار) 2022 48.56 في المائة من الأصوات، مقابل 47.83 في المائة لمنافسه من «الحزب الديمقراطي».

ومن ناحية ثانية، لا يحق ليون التجديد، بل من المقرر أن يغادر منصبه عام 2027، بعدما تحوّل إلى «بطة عرجاء» على صعيد السياسة الداخلية طوال فترة رئاسته. ولكن مع ذلك، ظل محظوظاً لأن المعارضة لم تفز بغالبية ساحقة تبلغ مائتي مقعد، ما كان سيتيح لها تجاوز «حق النقض» الذي يتمتع به الرئيس، أو تعديل الدستور، أو حتى عزله.

في أي حال، فإن نتائج الانتخابات ستحافظ على الديناميكية الأساسية ذاتها التي كانت قائمة قبل الانتخابات. أي أن قوى المعارضة يمكن أن تواصل عرقلة برنامج سياسات يون، الذي أمضى سنتين من الفترة الرئاسية البالغة مدتها خمس سنوات. وما يذكر أنه عندما تولّى يون منصبه في مايو (أيار) 2022، ورث برلماناً منقسماً، بسبب حصول الحزب الديمقراطي المعارض على الغالبية وكانت النتيجة حالة من الجمود التشريعي. والآن بعد الهزيمة الأخير، يصبح يون أول رئيس كوري جنوبي يواجه برلماناً معادياً له طوال فترة ولايته التي تنتهي في مايو 2027.

سكاند تايال، سفير الهند السابق لدى كوريا الجنوبية، علّق على الوضع الراهن بقوله: «أساساً تفسّر هذه الانتخابات بوصفها استفتاء على الإدارة الحالية. وتبعاً لمدى نجاح أحزاب المعارضة في العمل معاً لإبقاء أجندة الرئيس يون تحت السيطرة، من المحتمل أن تتقيد قدرة الإدارة الحالية على المضي قدماً في أجندتها الإصلاحية. ولكن لا يعني هذا بالضرورة أن الرئيس غدا عاجزاً سياسياً خلال الفترة المتبقية من ولايته. بل لقد حقق بعض النجاح في إقرار تشريعات مهمة عبر الجمعية الوطنية خلال العام الماضي، عندما كان يحظى بعدد أقل بكثير من أصوات الحزب الحاكم داخل البرلمان. وأياً كان المسؤول، سيتعيّن على يون التوصل إلى طريقة للعمل مع المعارضة إذا كان يرغب في تمرير المزيد من عناصر أجندته السياسية. وبخلاف ذلك، قد لا يتمكن من تحقيق الكثير في السنوات الثلاث المقبلة».

هنا، يعتقد مراقبون أن بون قد يمضي قدماً في تنفيذ أجندته من جانب واحد، معتمداً على حق النقض والأوامر الرئاسية. وحقاً، سبق له استخدام حق النقض لرفض مشاريع القوانين التي لا تتفق مع إدارته وسياسة حزبه.

لقد استخدم الرئيس «حق النقض»، حتى الآن، ضد تسعة مشاريع قوانين ـ وهو الأكبر من أي رئيس منذ عزّزت كوريا الجنوبية ديمقراطيتها عام 1987، إذ أصدر أوامر تنفيذية، واستخدم «حق النقض» ضد مشاريع قوانين أقرها البرلمان بينها مشروع يدعو إلى إجراء تحقيق خاص في مزاعم الفساد المحيطة بزوجته كيم كيون هي (51 سنة).

لي جاي ميونغ... زعيم المعارضة المنتصر (آ ب)

أين أخطأ الرئيس؟

من ناحية ثانية، تراجعت معدلات الدعم الشعبي للرئيس والحزب الحاكم بشكل خاص، على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات، وسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانكماش الاقتصاد واشتعال أزمة طبية على امتداد فترة طويلة. وللعلم، دخلت المستشفيات الكبرى في حالة طوارئ منذ أواخر فبراير(شباط) الماضي، وترك الأطباء الشباب وظائفهم بسبب خطة الحكومة لزيادة معدلات الالتحاق بكليات الطب.

كذلك، تعرّض يون لانتقادات بسبب فضائح تتعلق بعائلته، واتهمه منتقدوه بتقويض حرية التعبير. فقد جابه يون مأزقاً كبيراً بعدما تسببت فضيحة تتعلق بزوجته في حالة من الفوضى. وفي حينه واجهت كيون هي، سيدة كوريا الجنوبية الأولى، اتهامات بقبول هدية ثمينة جداً من القس الأميركي ـ الكوري، أبراهام تشوي، ما يشكل خرقاً لقانون مكافحة الرشوة... وتفجّرت القضية على منصة عامة، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما بثت قناة خاصة على «يوتيوب» مقطع فيديو سجّله القسّ سراً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن في كوريا الجنوبية قانوناً صارماً للغاية لمكافحة الرشوة. وهو لا يجيز قبول هدايا بقيمة 750 دولاراً أميركياً دفعة واحدة، أو 2200 دولار أميركي سنوياً.

وكما هو متوقع، سرعان ما احتلت هذه القصة عناوين الصحف الوطنية، وأضرت بشعبية الرئيس. ثم إنه بسبب رد فعل الضعيف من الرئيس تجاه فضائح زوجته، تراجعت شعبيته، وخاصة عندما سحق مشروع قانون يسعى إلى إجراء تحقيق خاص حول تورّط زوجته كيم في قضية أخرى تتعلق بتلاعب مزعوم في أسعار الأسهم.

نقاد سياسيون يرون أن الاستقطاب المتزايد بين الرجال والنساء داخل المجتمع الكوري كان بمثابة «خط صدع» في السياسة الكورية، وكان الرئيس يون يعد أن الحركة النسوية «تمادت كثيراً». وإبّان حملته الرئاسية، قدّم اقتراحاً مثيراً للجدل لإلغاء «وزارة المساواة بين النوعين وشؤون الأسرة»، بحجة أن «التمييز البنيوي ضد المرأة ما عاد موجوداً».

وحسب الدكتور لاخفيندر سينغ، مدير دراسات السلام والأمن في معهد آسيا بالعاصمة الكورية سيول، فإن موقف يون تجاه القضايا الجنسانية أفقده تأييد النساء، مع أنه أكسبه في المقابل أصوات الشباب في الانتخابات الرئاسية. هذا، وحذر الكثير من الناشطات الكوريات من أن الرئيس وحزبه يدمران سنوات من التقدم في مجال حقوق المرأة، وبدا أن الكوريات عبرن عن هذه المخاوف بتصويتهن الكثيف في الانتخابات بكثافة لصالح المعارضة وأحزاب أخرى. وعليه، ربما يجد يون صعوبة الآن في إلغاء «وزارة المساواة بين النوعين».

«تراجع الدعم الشعبي للرئيس وحزبه على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات»

«التقدمي» لي... زعيم المعارضة

في المقابل، بفضل تصدّر حزب المعارضة الأساسي في كوريا الجنوبية الانتخابات الأخيرة، صار زعيمه لي جاي ميونغ من أبرز المرشحين للرئاسة عام 2027. ويُعد هذا تحوّلاً مهماً لسياسي خسر السباق الرئاسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2022 أمام منافسه اللدود بالفارق الأقل في تاريخ البلاد، مع أنه آنذاك كان متهماً بمجموعة متنوعة من تهم الرشوة والإخلال بالواجب.

لي، الذي كان عاملاً في مصنع، قبل أن يصبح محامياً في مجال الحقوق المدنية، دخل المعترك السياسي منذ أكثر من 15 سنة بوصفه ناشطاً في المعسكر التقدمي. وتولّى لي منصب حاكم مقاطعة غيونغي، القريبة من سيول، عام 2018. ومن ثم سعى أن تغدو كوريا أول دولة في آسيا تنضم إلى المعسكر التقدمي العالمي، وضغط من أجل إقرار الدخل الأساسي الشامل. ولكن في الوقت ذاته، يعدُّ لي من أكثر الشخصيات السياسية استقطاباً في البلاد، ذلك أنه يتمتع بقاعدة متحمّسة من المؤيدين اليساريين... وتعاديه كتلة كبيرة من المعارضين في المعسكر المحافظ.

الرئيس يون سوك يول يدلي بصوته (رويترز)

عودة إلى الأضواء

رغم علامات الاستفهامومثل غريمه الرئيس بون، خيّمت على حياة لي سحابة فضائح على المستوى الشخصي، وخضع لتحقيق في مضاربات على أراض في مدينة سيونغنام، التي كان عمدة لها. فقد وجهت إليه النيابة في مارس 2023 اتهامات بالفساد زعمت فيها تلقيه رشى تتعلق بخطة تطوير عقاري تقدر قيمتها 1.5 مليار دولار عندما كان عمدة سيونغنام. غير أن لي نفى ارتكاب أي مخالفات، ووصف الإجراءات القانونية ضده بأنها ذات دوافع سياسية. كذلك تعافى لي، الذي تعرّض للطعن في رقبته خلال يناير (كانون الثاني) على يد رجل تظاهر بأنه من مؤيديه، من خسارته في انتخابات 2022 الرئاسية ليقود «الحزب الديمقراطي»، متعهداً «بمعاقبة» يون عبر صناديق الاقتراع.

ولسنوات، سعى لي إلى تأكيد التناقض الصارخ بين قصة حياته وقصة يون... ابن الأسرة الثرية. وأثناء ترشحه للرئاسة، نشرت حملته صورتين: إحداهما تظهر الشاب لي وهو يرتدي بدلة غير مناسبة، والثانية يظهر فيها المراهق يون بربطة عنق أنيقة.

أمر آخر لافت، هو أن لي كان قد واجه دعوات داخل حزبه تطالبه بالتنحي، لكنه بعد إنجازه الانتخابي يتوقع أن يتمكن من إسكات المعارضين داخل حزبه. ذلك أنه نجح في جعل «الحزب الديمقراطي» حصناً له، وعزز قبضته على السلطة داخل الحزب، كما احتضن المعتدلين. وحول هذا الجانب كتب شين يول، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميونغجي الكورية، معلقاً على ذلك بقوله: «بهذه النتيجة، أصبح لي أقوى سياسي في البرلمان». إلا أن لي، مع ذلك، ما زال يواجه عقبات وتحديات، على رأسها المحاكمات المستمرة التي يخضع لها، بناءً على اتهامات متعددة - يصر على براءته منها - وُجهت إليه على مدى السنوات الكثيرة الماضية.

عودة إلى الرئيس يون، فإنه أعلن في خطاب تلفزيوني، بعد إقراره بهزيمته: «سأحترم بكل تواضع إرادة الشعب التي جرى التعبير عنها في الانتخابات العامة، وسأعمل على إصلاح شؤون الدولة، وأبذل قصارى جهدي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد ومعيشة الناس». أما رئيس الوزراء هان داك سو ومجموعة من كبار المساعدين فقد عرضوا أن يتقدموا باستقالاتهم.

وفي اتجاه حلحلة المشاكل المطلبية والمعيشية، تعرّض يون لضغوط كي يتواصل مع زعيم المعارضة لي من أجل إجراء مباحثات غير مسبوقة لمناقشة أزمة إضراب الأطباء المستمر، وسبل تحسين سبل عيش الناس. كان يون قد رفض من قبل عقد أي لقاء مع لي، مبرراً ذلك بالتهم الجنائية الموجهة إلى الأخير، بما في ذلك الفساد المزعوم.


مقالات ذات صلة

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع غالانت (رويترز)

أبرز «وزراء الحرب» في تاريخ إسرائيل

برزت طوال تاريخ إسرائيل، منذ تأسيسها عام 1948، أسماء عدد من وزراء الدفاع؛ لارتباطهم بحروب كبيرة في المنطقة، لعلّ أشهرهم في الشارع العربي موشيه ديان

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة وزير دفاعه الجديد يسرائيل كاتس، الذي يصفه بـ«البلدوزر»، في تحقيق ما يراه «انتصاراً حاسماً» في غزة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع إيشيبا

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي

«الشرق الأوسط» (لندن)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر