كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

خسارة الرئيس وحزبه السيطرة على «الجمعية الوطنية» قد لا تعني الكثير خارجياً

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
TT

كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)

عانى المشهد السياسي بكوريا الجنوبية حالة من الجمود السياسي، بعدما وجه الناخبون صفعة للرئيس يون سوك يول، مع تعرّض حزبه، حزب «سلطة الشعب»، المحافظ لهزيمة كارثية في الانتخابات البرلمانية، الأسبوع الماضي. إذ أحرز الحزب «الديمقراطي الليبرالي»، القوة المعارضة الرئيسية والقوى الأصغر المتحالفة معه، فوزاً ساحقاً بحصوله على 189 مقعداً في الجمعية الوطنية (البرلمان) المؤلفة من 300 مقعد، في حين حصل الحزب الحاكم بزعامة يون على 108 مقاعد فقط. وفق الأرقام المعلنة، أدلى حوالي 29.66 مليون شخص، أو 67 في المائة من الناخبين بأصواتهم، ما يمثل أعلى نسبة مشاركة في انتخابات الجمعية الوطنية منذ عام 1992. وما يستحق الذكر أنه منذ استعادة الديمقراطية في كوريا الجنوبية عام 1987، لم يحصل أي رئيس على نسبة رضا شعبي منخفضة عن أدائه على امتداد فترة طويلة مثلما حدث مع يون - التي تراوحت بين 35 في المائة و40 في المائة منذ مايو 2022 - بأول سنتين من رئاسته.

تجري إدارة الشأن السياسي في كوريا الجنوبية في إطار جمهورية ديمقراطية تمثيلية رئاسية، حيث يمثل الرئيس رأس الدولة، وتقوم الدولة على نظام متعدد الأحزاب. ولضمان الفصل بين السلطات، يتألف كيان الدولة من ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتتولى الحكومة السلطة التنفيذية، بينما تتشارك الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) في السلطة التشريعية. ومنذ عام 1948، خضع الدستور لخمس مراجعات أساسية، كل منها تدشن جمهورية جديدة. وبدأت «الجمهورية السادسة» الحالية مع آخر تعديل دستوري كبير دخل حيز التنفيذ عام 1988، وبموجب الدستور يتولى الرئيس منصبه لولاية واحدة فقط مدتها خمس سنوات. أما مدة ولاية البرلمان فتبلغ أربع سنوات.

اختبار حقيقي ليون

جاءت الانتخابات التي شهدت منافسة حامية الوطيس بمثابة اختبار حقيقي لشعبية يون (63 سنة)، مع بلوغه منتصف فترة ولايته الممتدة لخمس سنوات. وعدّ بعض المحللين الانتخابات الأخيرة بمثابة استفتاء على شعبيته التي تضررت في خضم أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة وسلسلة من الفضائح السياسية.

الواقع أنه منذ وصول يون إلى سدة الرئاسة بأغلبية ضئيلة بلغت 0.8 في المائة فقط عام 2022، جابه قيوداً من قبل الهيئة التشريعية التي يسيطر عليها «الحزب الديمقراطي». ولقد نال في المعركة الرئاسية يون خلال مارس (آذار) 2022 48.56 في المائة من الأصوات، مقابل 47.83 في المائة لمنافسه من «الحزب الديمقراطي».

ومن ناحية ثانية، لا يحق ليون التجديد، بل من المقرر أن يغادر منصبه عام 2027، بعدما تحوّل إلى «بطة عرجاء» على صعيد السياسة الداخلية طوال فترة رئاسته. ولكن مع ذلك، ظل محظوظاً لأن المعارضة لم تفز بغالبية ساحقة تبلغ مائتي مقعد، ما كان سيتيح لها تجاوز «حق النقض» الذي يتمتع به الرئيس، أو تعديل الدستور، أو حتى عزله.

في أي حال، فإن نتائج الانتخابات ستحافظ على الديناميكية الأساسية ذاتها التي كانت قائمة قبل الانتخابات. أي أن قوى المعارضة يمكن أن تواصل عرقلة برنامج سياسات يون، الذي أمضى سنتين من الفترة الرئاسية البالغة مدتها خمس سنوات. وما يذكر أنه عندما تولّى يون منصبه في مايو (أيار) 2022، ورث برلماناً منقسماً، بسبب حصول الحزب الديمقراطي المعارض على الغالبية وكانت النتيجة حالة من الجمود التشريعي. والآن بعد الهزيمة الأخير، يصبح يون أول رئيس كوري جنوبي يواجه برلماناً معادياً له طوال فترة ولايته التي تنتهي في مايو 2027.

سكاند تايال، سفير الهند السابق لدى كوريا الجنوبية، علّق على الوضع الراهن بقوله: «أساساً تفسّر هذه الانتخابات بوصفها استفتاء على الإدارة الحالية. وتبعاً لمدى نجاح أحزاب المعارضة في العمل معاً لإبقاء أجندة الرئيس يون تحت السيطرة، من المحتمل أن تتقيد قدرة الإدارة الحالية على المضي قدماً في أجندتها الإصلاحية. ولكن لا يعني هذا بالضرورة أن الرئيس غدا عاجزاً سياسياً خلال الفترة المتبقية من ولايته. بل لقد حقق بعض النجاح في إقرار تشريعات مهمة عبر الجمعية الوطنية خلال العام الماضي، عندما كان يحظى بعدد أقل بكثير من أصوات الحزب الحاكم داخل البرلمان. وأياً كان المسؤول، سيتعيّن على يون التوصل إلى طريقة للعمل مع المعارضة إذا كان يرغب في تمرير المزيد من عناصر أجندته السياسية. وبخلاف ذلك، قد لا يتمكن من تحقيق الكثير في السنوات الثلاث المقبلة».

هنا، يعتقد مراقبون أن بون قد يمضي قدماً في تنفيذ أجندته من جانب واحد، معتمداً على حق النقض والأوامر الرئاسية. وحقاً، سبق له استخدام حق النقض لرفض مشاريع القوانين التي لا تتفق مع إدارته وسياسة حزبه.

لقد استخدم الرئيس «حق النقض»، حتى الآن، ضد تسعة مشاريع قوانين ـ وهو الأكبر من أي رئيس منذ عزّزت كوريا الجنوبية ديمقراطيتها عام 1987، إذ أصدر أوامر تنفيذية، واستخدم «حق النقض» ضد مشاريع قوانين أقرها البرلمان بينها مشروع يدعو إلى إجراء تحقيق خاص في مزاعم الفساد المحيطة بزوجته كيم كيون هي (51 سنة).

لي جاي ميونغ... زعيم المعارضة المنتصر (آ ب)

أين أخطأ الرئيس؟

من ناحية ثانية، تراجعت معدلات الدعم الشعبي للرئيس والحزب الحاكم بشكل خاص، على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات، وسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانكماش الاقتصاد واشتعال أزمة طبية على امتداد فترة طويلة. وللعلم، دخلت المستشفيات الكبرى في حالة طوارئ منذ أواخر فبراير(شباط) الماضي، وترك الأطباء الشباب وظائفهم بسبب خطة الحكومة لزيادة معدلات الالتحاق بكليات الطب.

كذلك، تعرّض يون لانتقادات بسبب فضائح تتعلق بعائلته، واتهمه منتقدوه بتقويض حرية التعبير. فقد جابه يون مأزقاً كبيراً بعدما تسببت فضيحة تتعلق بزوجته في حالة من الفوضى. وفي حينه واجهت كيون هي، سيدة كوريا الجنوبية الأولى، اتهامات بقبول هدية ثمينة جداً من القس الأميركي ـ الكوري، أبراهام تشوي، ما يشكل خرقاً لقانون مكافحة الرشوة... وتفجّرت القضية على منصة عامة، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما بثت قناة خاصة على «يوتيوب» مقطع فيديو سجّله القسّ سراً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن في كوريا الجنوبية قانوناً صارماً للغاية لمكافحة الرشوة. وهو لا يجيز قبول هدايا بقيمة 750 دولاراً أميركياً دفعة واحدة، أو 2200 دولار أميركي سنوياً.

وكما هو متوقع، سرعان ما احتلت هذه القصة عناوين الصحف الوطنية، وأضرت بشعبية الرئيس. ثم إنه بسبب رد فعل الضعيف من الرئيس تجاه فضائح زوجته، تراجعت شعبيته، وخاصة عندما سحق مشروع قانون يسعى إلى إجراء تحقيق خاص حول تورّط زوجته كيم في قضية أخرى تتعلق بتلاعب مزعوم في أسعار الأسهم.

نقاد سياسيون يرون أن الاستقطاب المتزايد بين الرجال والنساء داخل المجتمع الكوري كان بمثابة «خط صدع» في السياسة الكورية، وكان الرئيس يون يعد أن الحركة النسوية «تمادت كثيراً». وإبّان حملته الرئاسية، قدّم اقتراحاً مثيراً للجدل لإلغاء «وزارة المساواة بين النوعين وشؤون الأسرة»، بحجة أن «التمييز البنيوي ضد المرأة ما عاد موجوداً».

وحسب الدكتور لاخفيندر سينغ، مدير دراسات السلام والأمن في معهد آسيا بالعاصمة الكورية سيول، فإن موقف يون تجاه القضايا الجنسانية أفقده تأييد النساء، مع أنه أكسبه في المقابل أصوات الشباب في الانتخابات الرئاسية. هذا، وحذر الكثير من الناشطات الكوريات من أن الرئيس وحزبه يدمران سنوات من التقدم في مجال حقوق المرأة، وبدا أن الكوريات عبرن عن هذه المخاوف بتصويتهن الكثيف في الانتخابات بكثافة لصالح المعارضة وأحزاب أخرى. وعليه، ربما يجد يون صعوبة الآن في إلغاء «وزارة المساواة بين النوعين».

«تراجع الدعم الشعبي للرئيس وحزبه على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات»

«التقدمي» لي... زعيم المعارضة

في المقابل، بفضل تصدّر حزب المعارضة الأساسي في كوريا الجنوبية الانتخابات الأخيرة، صار زعيمه لي جاي ميونغ من أبرز المرشحين للرئاسة عام 2027. ويُعد هذا تحوّلاً مهماً لسياسي خسر السباق الرئاسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2022 أمام منافسه اللدود بالفارق الأقل في تاريخ البلاد، مع أنه آنذاك كان متهماً بمجموعة متنوعة من تهم الرشوة والإخلال بالواجب.

لي، الذي كان عاملاً في مصنع، قبل أن يصبح محامياً في مجال الحقوق المدنية، دخل المعترك السياسي منذ أكثر من 15 سنة بوصفه ناشطاً في المعسكر التقدمي. وتولّى لي منصب حاكم مقاطعة غيونغي، القريبة من سيول، عام 2018. ومن ثم سعى أن تغدو كوريا أول دولة في آسيا تنضم إلى المعسكر التقدمي العالمي، وضغط من أجل إقرار الدخل الأساسي الشامل. ولكن في الوقت ذاته، يعدُّ لي من أكثر الشخصيات السياسية استقطاباً في البلاد، ذلك أنه يتمتع بقاعدة متحمّسة من المؤيدين اليساريين... وتعاديه كتلة كبيرة من المعارضين في المعسكر المحافظ.

الرئيس يون سوك يول يدلي بصوته (رويترز)

عودة إلى الأضواء

رغم علامات الاستفهامومثل غريمه الرئيس بون، خيّمت على حياة لي سحابة فضائح على المستوى الشخصي، وخضع لتحقيق في مضاربات على أراض في مدينة سيونغنام، التي كان عمدة لها. فقد وجهت إليه النيابة في مارس 2023 اتهامات بالفساد زعمت فيها تلقيه رشى تتعلق بخطة تطوير عقاري تقدر قيمتها 1.5 مليار دولار عندما كان عمدة سيونغنام. غير أن لي نفى ارتكاب أي مخالفات، ووصف الإجراءات القانونية ضده بأنها ذات دوافع سياسية. كذلك تعافى لي، الذي تعرّض للطعن في رقبته خلال يناير (كانون الثاني) على يد رجل تظاهر بأنه من مؤيديه، من خسارته في انتخابات 2022 الرئاسية ليقود «الحزب الديمقراطي»، متعهداً «بمعاقبة» يون عبر صناديق الاقتراع.

ولسنوات، سعى لي إلى تأكيد التناقض الصارخ بين قصة حياته وقصة يون... ابن الأسرة الثرية. وأثناء ترشحه للرئاسة، نشرت حملته صورتين: إحداهما تظهر الشاب لي وهو يرتدي بدلة غير مناسبة، والثانية يظهر فيها المراهق يون بربطة عنق أنيقة.

أمر آخر لافت، هو أن لي كان قد واجه دعوات داخل حزبه تطالبه بالتنحي، لكنه بعد إنجازه الانتخابي يتوقع أن يتمكن من إسكات المعارضين داخل حزبه. ذلك أنه نجح في جعل «الحزب الديمقراطي» حصناً له، وعزز قبضته على السلطة داخل الحزب، كما احتضن المعتدلين. وحول هذا الجانب كتب شين يول، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميونغجي الكورية، معلقاً على ذلك بقوله: «بهذه النتيجة، أصبح لي أقوى سياسي في البرلمان». إلا أن لي، مع ذلك، ما زال يواجه عقبات وتحديات، على رأسها المحاكمات المستمرة التي يخضع لها، بناءً على اتهامات متعددة - يصر على براءته منها - وُجهت إليه على مدى السنوات الكثيرة الماضية.

عودة إلى الرئيس يون، فإنه أعلن في خطاب تلفزيوني، بعد إقراره بهزيمته: «سأحترم بكل تواضع إرادة الشعب التي جرى التعبير عنها في الانتخابات العامة، وسأعمل على إصلاح شؤون الدولة، وأبذل قصارى جهدي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد ومعيشة الناس». أما رئيس الوزراء هان داك سو ومجموعة من كبار المساعدين فقد عرضوا أن يتقدموا باستقالاتهم.

وفي اتجاه حلحلة المشاكل المطلبية والمعيشية، تعرّض يون لضغوط كي يتواصل مع زعيم المعارضة لي من أجل إجراء مباحثات غير مسبوقة لمناقشة أزمة إضراب الأطباء المستمر، وسبل تحسين سبل عيش الناس. كان يون قد رفض من قبل عقد أي لقاء مع لي، مبرراً ذلك بالتهم الجنائية الموجهة إلى الأخير، بما في ذلك الفساد المزعوم.


مقالات ذات صلة

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ منهياً جولته الآسيوية الأخيرة وبجواره ملك كمبوديا نورودم سيهاميني في مطار العاصمة الكمبودية بنوم بنه (أ.ب)

دعوة للتعقُّل تجنباً لحرب بلا منتصر

تُشكّل العلاقات الصينية ـ الأميركية اليوم أكبر اختبار لقدرة العالم على التعايش في ظل التحولات الجذرية في موازين القوى. ولا أحد ينكر أن التنافس موجود.

حصاد الأسبوع رياك مشار

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع زمّور (آ ف ب)

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

حصاد الأسبوع ترمب وقائمة التعرفة الجمركية المفروضة على دول العالم (غيتي)

فوضى الأسواق تمهد لنظام عالمي ينهي حقبة منظمة التجارة «المعادية»

لا يمكن رد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب «المفاجئ» تأجيل فرض الرسوم الجمركية على غالبية الدول لمدة 90 يوماً، إلى نجاح مناشداتها فقط. ثم إنه لا يمكن اعتبار

إيلي يوسف (واشنطن)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين