ياسر العطا... «المحارب القديم» المثير لـ«الجدل» في الحرب السودانية

شارك في عزل البشير... واتهم بأنه «أداة البرهان» ضد «القوى المدنية»

يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
TT

ياسر العطا... «المحارب القديم» المثير لـ«الجدل» في الحرب السودانية

يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»

بزيٍّ عسكري، ونبرة صوت حادة مصحوبة بـ«ابتسامة تشجيع»، يحرص الذي يلقبه زملاؤه بـ«المحارب القديم»، على التجوّل بين الجنود في مختلف المناطق. يظهر العطا في مقاطع مصوّرة عدة، وهو يتلقى التحية من الضباط والجنود، فرداً فرداً، في لقطات تعبر عن «حميمية واضحة». يتجول في المدن لإظهار سيطرة الجيش، مستمتعاً بهتافات المواطنين عن «الجيش الواحد... والشعب الواحد». ويخاطب العطا الجماهير والجنود بعبارات «حماسية»، مؤكداً أن «المعركة قاربت على الانتهاء»، آملاً في محاكمة قيادات «قوات الدعم السريع»، وعلى رأسها محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتي»؛ كونه «غدر» بالجيش، وأدخل السودان في حرب بدأت عامها الثاني، وأودت بحياة ما يقارب 15 ألف قتيل، إضافة إلى أكثر من 8 ملايين نازح ولاجئ، بحسب إحصائيات أممية.

ياسر عبد الرحمن العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، طامح في إنهاء الحرب الحالية بانتصار الجيش مهما بلغت التضحيات، وهو يؤكد باستمرار أنه «لا يوجد إنسان عزيز على وطنه»، مشيراً إلى أن «روح المواطن فداء لوطنه»، وأن «قتلى المعارك مصيرهم الجنة».

ولكن، رغم حرص المقاطع المصوّرة على إظهار العطا في صورة القائد العسكري المحبوب بين الجنود، وحتى المواطنين، والقائد الواثق من النصر، الذي يبث الحماس في الجنود، فإن تصريحاته - بجانب ظهوره الإعلامي المتزايد أخيراً - أخذت تثير «الجدل والغضب» أحياناً، لا سيما بين القوى المدنية الراغبة في إنهاء سيطرة الجيش على السلطة؛ إذ بلغت حد اتهامه بأنه «أداة سياسية» يستخدمها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لـ«استفزاز القوى المدنية».

ابن عائلة عسكرية

ينتمي ياسر العطا إلى أسرة معروفة بارتباطها بالمؤسسة العسكرية. فقد كان عمه الأكبر هاشم العطا، أحد زملاء الرئيس الأسبق جعفر النميري، قبل أن ينشق عن حكمه ويُتهَم بالمشاركة في محاولة انقلابية بالتحالف مع «الحزب الشيوعي» انتهت بإعدامه عام 1971 مع زميليه فاروق حمد الله وبابكر النور عثمان وعدد من كبار القادة الشيوعيين على رأسهم أمين عام الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، والنقابي البارز الشفيع أحمد الشيخ.

جاءت العائلة من وادي بشارة بوادي النيل إلى حوش العطا ببيت المال، وجاورت العديد من الأسر في حي عريق بمدينة أم درمان. والتحق ياسر العطا من ثم بالدفعة الـ33 في الكلية الحربية، ويقال إنه خلال اختبارات القبول بالكلية «دار حوار بينه وبين النميري، حيث سأله الأخير عما إذا كان سيقدم على إعدامه لو حدث انقلاب على السلطة كما فعل هو من قبل مع عمه»... وكانت إجابة العطا: «يا ريت». ولكن رغم ذلك قُبل في الكلية الحربية، وتخرّج فيها عام 1984، ليصبح ضابطاً في الجيش السوداني. ولاحقاً، حصل على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية من جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا في العراق.

مسيرة ومناصب

تدرّج ياسر العطا في المناصب والمواقع العسكرية، وخدم في عدد من الوحدات بالقوات المسلحة، من بينها لواء القيادة العامة، والمناطق العسكرية الشرقية والجنوبية والغربية. وأيضاً، قاد الفرقة 14 مشاة، وتولى مواجهة «التمرّد» في جنوب كردفان.

وأيضاً شغل العطا الذي يعده البعض من «الشخصيات المؤثرة والبارزة في القوات المسلحة السودانية» منصب قائد قوات حرس الحدود.

بعد ذلك رُقّي إلى رتبة عميد عام 2007، وعين ملحقاً عسكرياً بالسفارة السودانية في جيبوتي، ما عدّه مراقبون يومذاك «استبعاداً له»، لا سيما مع محاولات إحالته للتقاعد فيما بعد. ولم تُجد تلك المحاولات نفعاً ليعود العطا إلى السودان عام 2014، حيث أصبح معيداً في كلية الحرب العليا، قبل أن يعيّن قائداً لمنطقة العمليات بجنوب السودان.

وما يذكر أنه خلال مشاركة العطا في «حرب الجنوب» لأكثر من 8 سنوات، أجاد لغات القبائل الجنوبية (الرطانة). وفيما بعد تولى منصب مدير إدارة العمليات البرية، ورقّي إلى رتبة فريق خلال التعديلات التي أجراها الرئيس السابق عمر البشير في قيادات الجيش السوداني. وحصل على عدد من الأوسمة والنوط، من بينها «وسام الخدمة الطويلة الممتازة»، و«وسام الشجاعة» من الطبقة الأولى والثانية.

المحارب القديم

تاريخ العطا السياسي والعسكري مليء بالأحداث والمتناقضات، فهو يعد واحداً من قادة الجيش الذين شاركوا في عزل البشير في أبريل (نيسان) 2019، بل إنه شارك في عملية القبض عليه حين كان وقتها يشغل منصب قائد القوات البرية للجيش السوداني.

وبعد الإطاحة بالبشير، كان الفريق العطا واحداً من عشرة ضباط شكّلوا «المجلس العسكري الانتقالي»... إلا أن العدد تقلص فيما بعد إلى ستة ضباط.

ومن ثم، عين العطا نائباً لرئيس اللجنة السياسية بـ«المجلس العسكري الانتقالي». وظل في هذا المنصب، حتى 21 أغسطس (آب)، حين جرى تشكيل «المجلس السيادي» الذي أصبح عضواً به.

واختير العطا رئيساً للجنة تفكيك «نظام 30 يونيو»، لكن أداءه أثار انتقادات، ما دفعه للاستقالة من اللجنة. وحول هذا الموضوع قال العطا في حوار لصحيفة «السوداني» عام 2021، إنه استقال «لأن عمل اللجنة تنفيذي، وهناك انتقاد مستمر من كافة مستويات الحكم ومعظم مكوّنات الحاضنة السياسية لقانون ونهج عمل اللجنة».

وفي مارس (آذار) 2022، تحدثت وسائل إعلام سودانية عن طلب لرفع الحصانة عن العطا «على خلفية تخصيصه عربات مستردة بواسطة لجنة إزالة التمكين التي كان يترأسها». ولم يرد النائب العام على الطلب. ويوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، أصدر البرهان قراراً بتجميد عمل اللجنة.

مهنياً، يعد العطا من «العسكريين الملتزمين بقواعد العسكرية»؛ لذلك يوصف من قبل زملائه وضباط سابقين بـ«المحارب القديم».

آراء متباينة

تتباين الآراء بين أنصاره ومعارضيه، وفي حين يصفه أنصاره بأنه «رجل عسكري من الطراز الأول، مشهود بكفاءته، ونزاهته، وبعده عن الانتماءات الطائفية والحزبية»، فإنه على الجانب الآخر لا يسلم من الانتقادات. وتذكر مواقع سودانية واحدة من الوقائع التي تعرّض فيها العطا لانتقادات، عند حصار مدينة جوبا عام 1992، وكان وقتها برتبة نقيب، حيث اقترح أن يتولى مهمة فك الحصار.

ورغم «نجاحه في المهمة»، أحيل العطا للتحقيق بتهمة «العمالة والتجسس»، غير أن التحقيقات أثبتت بطلان تلك الاتهامات، ليلمع نجمه من جديد «قائداً عسكرياً قادراً على التخطيط وإدارة المعارك». لكن التبرئة لم تحل دون استمرار استهدافه والهجوم عليه من قِبل «أتباع نظام البشير»، ما دفع مراقبين حينئذٍ للقول إن «استهدافه راجع لدعمه مسار الانتقال الديمقراطي بشكل جدي وحقيقي»، وهو التفسير الذي تغير لاحقاً.

من ناحية أخرى، بينما يتكلم البعض عن شعبية العطا وقدراته العسكرية، فإن آخرين يزعمون العكس تماماً. وهذا ما أشار إليه تقرير نشر في صحيفة «الراكوبة» السودانية يتهم العطا بـ«ارتكاب أخطاء أودت بحياة عدد من الجنود، من بينها إرسال مجموعة في مهمة استطلاع خطيرة دون حاجة تكتيكية، رغم معارضة الضباط الآخرين، ما تسبب في مقتل المجموعة كلها».

وبالفعل، تختلف التقديرات بشأن انتماءات العطا؛ ففي حين تشير مواقع سودانية، نقلاً عن مراقبين، إلى أنه «لم ينتم إلى تنظيم الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية داخل الجيش»، وأنه «ملتزم بواجباته العسكرية، ولا يجنح للظهور والخطابات الجماهيرية»، فإنه جُوبه أخيراً بانتقادات تزعم «دعمه مشاركة الإسلاميين ضمن صفوف الجيش في الحرب الدائرة ضد (قوات الدعم السريع)، كما «أثار ظهوره الإعلامي المكثف في الآونة الأخيرة جدلاً وانتقادات».

تنافس أم توزيع أدوار؟

لعل أبرز محطات الجدل في تاريخ ياسر العطا، ما أحدثه تصريح له خلال الشهر الماضي، قال فيه إن «الجيش لن يسلّم السلطة لقوى سياسية أو مدنية أو أحزاب دون انتخابات».

وأضاف العطا، في كلمة مصوّرة بثّها تلفزيون السودان، أنه لا بد من فترة انتقالية يكون القائد العام للجيش «رأسَ الدولة ومشرفاً عليها»، تشارك فيها الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها الجيش والشرطة والأمن.

هذا التصريح أغضب «القوى المدنية» التي عدّته دليلاً على «رغبة الجيش في الاستئثار بالسلطة»، وأثار ضده اتهامات بأنه «أداة البرهان السياسية التي يستخدمها في استفزاز المعارضة»، بينما رأى آخرون أن «العطا وسيلة لإظهار مواقف البرهان الحقيقية الرامية للسيطرة على الحكم في البلاد».

في مطلق الأحوال، عزّز تصريح العطا الصراع بين الجيش و«القوى المدنية»، وزاد حدة التوترات السياسية في السودان الذي يشهد حرباً ضارية لا يعلم أحد متى ستنتهي، وإلى أين سيؤول مصير البلاد، وسط صراعات داخلية تجعل التوافق على عملية انتقال ديمقراطي أمراً صعباً.

وفي سياق التباينات والتناقضات هذا، يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة، لكنه لن يغامر من أجلها».

ويشير مراقبون إلى أن «العطا يخدم أجندته الشخصية كخليفة محتمل للبرهان»، في حين يرى آخرون أن ما يصدر من جانب العطا من مواقف أو تصريحات يندرج تحت «سياسة توزيع الأدوار بينه وبين البرهان».

«سيناريو» البرهان ــ حميدتي

الواقع أن مواقف العطا تثير مخاوف من تكرار «سيناريو» البرهان وحميدتي، حيث تحولت صداقتهما إلى عداء، عملاً بالمثل المتداول بين العسكريين السودانيين «أخوّة الكاب حدّها الباب»، ما يعني أن الصداقة بينهم مؤقتة وقابلة للانقلاب إلى عداوة في أي وقت، متى تضاربت مصالحهم، وأن خصومتهم ستُحسم بالرصاص والحراب.

إن أحداً لا يستطيع الجزم بما إذا كان العطا طامحاً في الحكم أم لا. غير أن هذه المخاوف عزّزها موقف آخر، عقب تصريحات أدلى بها العطا، ونائب القائد العام للجيش السوداني الفريق أول شمس الدين كباشي، بشأن «المقاومة الشعبية»، والموقف من التفاوض من أجل وقف الحرب، وأظهرت تبايناً في المواقف، وأثارت تساؤلات بشأن «وجود صراع داخل قيادة الجيش»، أو «تبادل للأدوار» بين خطاب للداخل وآخر للخارج.

إذ بينما حذر الكباشي من «خطر عمل المقاومة الشعبية المسلحة خارج إمرة القوات المسلحة»، وندد باستغلال الأحزاب السياسية معسكرات الجيش، في كلام رآه موجهاً للإسلاميين، خرج العطا ليدعو إلى التوقف عن «اتهام الجيش بالتحالف مع مؤيدي النظام السابق من الإسلاميين»، مبدياً ترحيبه بكل من يقاتل في صفوف الجيش.

مواقف متبدلة

وهكذا، بين الحين والآخر، تتبدل مواقف العطا، فالرجل الذي ارتدى زيه العسكري مع انطلاق شرارة الحرب في السودان في 15 أبريل الماضي، وتوجّه إلى ثكنة عسكرية بالقرب من محل إقامته، حيث «سلاح المهندسين»، ظل صامتاً خلال الشهور الأولى من الحرب، قبل أن يخرج عن صمته ويبدأ في الإدلاء بتصريحات إعلامية وجّه خلالها انتقادات للداخل، طال بعضها دولاً في الإقليم.اليوم، يبدو العطا واثقاً من الانتصار في الحرب. وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» في مايو (أيار) من العام الماضي، قال العطا: «قريباً جداً ستنتهي مسرحية آل دقلو الهزيلة، وستهزم قوات المغول والتتار»، مضيفاً أن «المعارك لن تقود إلى حرب أهلية؛ لأن الجيش السوداني فيه كل قبائل السودان».


مقالات ذات صلة

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

حصاد الأسبوع  جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول)

بولا إسطيح (بيروت)
حصاد الأسبوع خلال فترة رئاسة ماهاما الأولى بين 2012 و2017 شهدت غانا تحوّلات مهمة كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية ونشاطاً

جون ماهاما... «العائد» إلى الحكم في غانا يراوغ التحديات

في أسرة سياسية بغرب أفريقيا، تفتحت عيناه للمرة الأولى، وخبر السياسة منذ نعومة أظافره، وتعلّمها إبّان دراسته وعمله أستاذاً للتاريخ، لكن مسيرته تعرّضت لهزة في

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع جون أتا ميلز (رويترز)

غانا... نموذج «ديمقراطي استثنائي» في قلب أفريقيا المضطربة

على امتداد 6 عقود منذ الاستقلال، استطاعت غانا - التي عُرفت قديماً باسم «ساحل الذهب» - تخطي تحديات عدة، والتحوُّل إلى دولة أفريقية استثنائية انتقلت من قيود

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس إيمانويل ماكرون (رويترز)

عهدة ماكرون الثانية على المحكّ

> مع تفاقم الأزمة السياسية التي تتخبط فيها فرنسا، يشتدّ الضغط على الرئيس إيمانويل ماكرون لدفعه إلى الاستقالة باعتباره المسؤول الأول عن هذه الوضعية بعد قراره

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.