د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

هيمنة الطفيليّات

ليس المقصود بهذا العنوان الذي اخترناه بدقة ممارسة ما يسمى كتابة الشتم العام غير محدّدة الوجهة والمعني بها. بل الغرض التوصيف الموضوعي استناداً إلى علوم الطبيعة ومقارنتها بالظواهر الاجتماعية. وهنا نذكر أن التسمية الأولى التي اختارها أوغيست كونت لعلم الاجتماع ثم عدل عنها هي تسمية: الفيزياء الاجتماعية، وهو ما يُبرر هيمنة المقاربة الوضعية والبيولوجية على نشأة علم الاجتماع ونظرياته الأولى والتفسيرات التي قدمها للظواهر الاجتماعيّة.
ففي الطبيعة هناك نباتات تسمى النبتات الطفيلية، وهي نباتات تعوزها القدرة الذاتية، وتتميز بالاتكال في توفير غذائها على النباتات الأخرى لكونها غير ذاتيّة التغذية في حصولها على الماء، وما تحتاجه للحياة من عناصر معدنية. فهي طفيلية لأنه بسبب سلوكها التطفلي الاتكالي، فإنّها تمثل عبئاً على النباتات الأخرى؛ الشيء الذي يجعل الفلاحين يهتمون باقتلاعها لضمان عدم تعرض النباتات والأشجار للتطفل على غذائها. أي أن الأعشاب الطفيلية مصدر ضرر ولا نفع لها، وهو ما يفسر التقدم الحاصل في مجال مقاومة الأعشاب الطفيليات، وما تم ابتكاره من أدوية ومبيدات.
وكما نلاحظ فإن معاينة الطفيليات في الطبيعة بالعين المجردة أمر يسير، والأرض الذي ترتع فيها الطفيليات هي الأرض المهملة المهجورة.
لماذا هذا المدخل الأشبه ما يكون بدرس حول النباتات الطفيلية، وما محلّه من الإعراب في مقالنا؟
تشبه الطفيليّات الموجودة في الطبيعة الكثير من الظواهر الاجتماعية والأحداث التي أصبحت تتصدر اهتمامات وسائل الإعلام والشعوب. نحن اليوم نعيش على الطفيليات ونهتم بكل ما هو طفيلي تاركين بقصد وغيره الظواهر الحقيقية غير الطفيلية والأحداث والتغييرات الجديرة بالاهتمام والتفكير والمتابعة والبحث عن أسبابها وكيفية اعتمالها.
أصبحنا نهتم بالتفاصيل غير المهمة ونترك الأساسي. نوجه كل طاقتنا في المتابعة والتركيز نحو الهوامش والهامشي، ولا نلوح بعين واحدة على المتن وما يتضمن من كبريات الأمور وأحداثها.
كمثال على ذلك، نشير إلى ضجة تنتج أحياناً عن تفاصيل تهم أشخاصاً وغير مؤثرة في حيوات الشعوب، ولكن هذه الفرقعات تدير أعناق الكثيرين وتصبح الموضوع الأكثر متابعة - رغم عدم أهميتها - ناهيك عن تصدرها الاهتمام الإعلامي والسياسي والشعبي أيضاً لأيام وأحياناً لأسابيع طوال، والحال أن المشكلات الكبيرة والموضوعات الجديرة بتركيز كل العالم نكاد لا نطرحها، ولا نأتي على ذكرها إلا على عجل. وهو ما يعني أن الانتشار للفرقعات اليوم، وربما يكون الانتشار مرفوقاً بأمجاد يعرف كيف يُحيكها صناع الفرقعات. وأهم ميزة للفرقعات أنها لا تظهر كذلك وتلبس قناع الجدية والحدث الساخن والقضية المشتعلة.
السؤال هو لماذا تستأثر موضوعات وأحداث تعد في ميزان الأحداث الكبرى وأولويات الناس ثانوية باهتمام واسع، في حين أن الأزمات الكبيرة والمشكلات التي تعصف باستقرار الشعوب وأمنهم يتم تجاهلها؟
سوسيولوجيا مثل هذا الوضع الذي يُبوئ الأحداث الطفيلية والظواهر الطفيلية موقعاً عضوياً مهماً يعطل محاولات فهم ما يجري وأسبابه. بل إنه يضع العلوم الاجتماعية ودراسات الظواهر الاجتماعية محل شك وتنسيب مبالغ فيه، خصوصاً أن هيمنة الظواهر الطفيلية وقدرتها على إعادة ترتيب الواقع الاجتماعي على نحو منحرف وغريب وصادم يضعفان الطابع العلمي للعلوم الاجتماعية، ويحدان من إمكانات بلوغ القوانين التي تحكم الفعل الاجتماعي، وتصوغ معانيه الذاتية وفق تصور الألماني ماكس فيبر.
من المهم جداً أن نفهم التغييرات التي حصلت في العالم خلال السنوات الأخيرة، والتي أسهمت في صعود نجم كل ما هو طفيلي وهامشي وتفصيلي وغريب من الأحداث والظواهر الاجتماعية.
ونعتقد أن هناك ثلاثة أسباب لهذه التغييرات؛ لعل أولها الدور السلبي لوسائل الإعلام التي أصبحت تقوم بترتيب الموضوعات والأحداث، حسب الأولويات التي تحددها أجنداتها ومصالحها.
ذلك أنّه شئنا أو أبينا فإن وسائل الإعلام، والتلفزيون تحديداً، هي التي أضحت تتدخل في تحديد ملامح الحقيقية الاجتماعية، ومن ثمة فهي من يتحكم في الاجتماعي ويضبطه. بمعنى آخر أكثر تبسيطاً، نسجل اليوم دوراً كبيراً لوسائل الإعلام في تحديد الواقع العام وتنظيمه على النحو الذي يخدم مصالحها. وهكذا أصبحت أخبار المنوعات والغرائب من الأمور والوقائع تتصدر البرامج، وتحتل حيزاً مهماً، وكل هذا يتم طبعاً على حساب المشكلات الكبرى والحقيقية، التي تستحق الأولوية والمساحة الأكبر من زمن البت والاهتمام.
أيضاً نشير إلى السبب السياسي، سواء كان داخل الأوطان أو على المستوى الدولي. هناك تواطؤ واضح من عدد من السياسيين في العالم الذين يفضلون انشغال الشعوب في هوامش المشكلات والأحداث بعيداً عن المشكلات الهيكلية التي عجزوا عن حلها، وخلق بدائل من الحلول التي يمكن أن تشبع التوقعات.
كذلك نلحظ أن الناس أصبحوا لا يحتملون الجدية، ويميلون إلى الخفيف من الأشياء والظواهر والأمور، نظراً لتعقد الحياة وغموضها والرتابة المثقلة لكاهلهم، فيكون الفرار إلى السهل والطفيليات، وكل ما هو صغير وغريب. فالأخبار الطفيلية تنتشر بسرعة البرق، وتغزو شبكات التواصل الاجتماعي، ويتم تضخيمها، والحال أنها كثيراً ما تعبر عن حالات معزولة لا غير.
المشكلة ليست في وجود الطفيليات والاهتمام بها، فذاك أمر تبيحه الطبيعة ويقبله المجتمع أيضاً. ولكن المشكل يظهر عندما نجد أنفسنا في عصر تهيمن فيه الطفيليات بشتى أنواعها ومعانيها. هنا يكمن الخلل ويحصل الانحراف والتشويه لما هو حقيقي وجدي ومركزي لأن الطفيليات تنتعش على حساب الأساسي والجوهري.