خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ

غاليليو وبريخت

كثيراً ما قيل إن كل أديب يكتب نفسه في أعماله، أو على الأقل في عمل من أعماله. لدينا في أدبنا العربي المعري، كتب نفسه ومحنته في قصائده. وعندما كنت أترجم إلى العربية في الستينات مسرحية الكاتب الألماني برتولد بريخت «غاليليو» لاحظت أن في هذه المسرحية انعكاسات كثيرة من حياة المؤلف ومواقف من حياته الخاصة. بل إن هذه المسرحية هي في الواقع سرد لحياة ذلك العالم الرياضي والفلكي الكبير غاليليو غاليلي. ظهر غاليليو في إيطاليا في القرن السابع عشر، في زمن كانت الكنيسة في روما تؤمن بأن الأرض منبسطة ومسطحة، وأن الشمس كانت تدور حولها فتصعد من الشرق وتنزل وتختفي عند المساء في الغرب.

أرشد العمري يمازح مرافقه

كان الضابط الطيار كاظم عبادي - رحمه الله - من ضباط القوة الجوية العراقية الذين حظوا بشهرة وشعبية كبيرة عند الشعب العراقي. ارتبط اسمه ببعض الانتصارات الأسطورية والوهمية ضد الإنجليز في حرب مايو (أيار) 1941. وكان منها القفز من طائرته إلى طيارة إنجليزية وأسرها!! بالنسبة لي، نال حبي وإعجابي بدوره في لعب كرة القدم كلاعب ماهر ورقيق. ويظهر أن شعبيته ودماثة خلقه لفتت نظر أرشد العمري، رئيس الوزراء في ذلك العهد. فانتدبه كمرافق طيار له.

أبيض وبيض

من الأكلات الشعبية الرائجة في العراق أكلة أبيض وبيض. وهي البيضة والسلطة الملفوفة برغيف خبز. والكلمة تفضح هذا الهوس العربي بلون البياض. لا أدري إن كنا قد سمينا بيضة الدجاجة هذا الاسم تيمناً باللون الأبيض أم أننا عشقنا بيضة الدجاجة للونها الأبيض. وكثيراً ما انعكس ذلك في شعرنا وأدبنا. وإذا رجعنا عدة قرون إلى الوراء لوجدنا امرأ القيس حتى في ذلك الزمن البعيد، يعبر في معلقته الشهيرة عن هذا العشق للون الأبيض حيث يقول في وصف حبيبته، بطلة القصيدة: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل ولكن هذا الهيام باللون الأبيض كان شائعاً في عموم الشرق الأوسط وأوروبا.

آفة النسيان

النسيان قرين الإنسان في كل زمان ومكان. ولكنه في عصرنا هذا أصبح ظاهرة شائعة، حتى أنني أتذكر زميلاً لي رأيته قبل عدة سنوات يحك رأسه في ذهول وحيرة عجيبة وفي يده القلم. قلت له: ما لك يا عبد الستار؟ قال: آه! أيوه. عبد الستار، عبد الستار. ووقع على دفتر الشيكات الذي كان بيده. لقد نسي اسمه! وليس في هذا من جديد، فكُتب الأدب تروي أن معلمنا أبا عثمان الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت: «بم أكنى»؟

القشطيني وبدر شاكر السياب

أكتب هذه المقالة والألم ما زال ينتابني ويحزّ في نفسي، وأصبح في نفسي واحد من الملامات التي أحملها ضد الحركة اليسارية في العراق مع الأسف. وقد آن لي أن أفرغ شيئاً مما عندي في جعبتي. عدت إلى لندن والتحقت بالقسم العربي من الإذاعة البريطانية في أوائل الستينات. اتصل بي الزميل فؤاد الجميعي، المخرج المصري فيها. قال لي: هنا في لندن شاعر كبير من شعرائكم في العراق، لا بد من أنك سمعت به، بدر شاكر السياب. نريدك أن تزوره وتسجل أحاديث معه، وسندفع عنها، فهو مريض ومحتاج. كان ذلك في المرحلة التي غضب الشيوعيون واليساريون فيها على السياب واتهموه بالخيانة. وكنت قد وقعت في تأثيرهم فاعتذرت عن عدم إجابة الطلب.

بين الشواف والسياب

خالد الشواف من شعراء العراق المنسيين، كل ذلك رغم أنه نشر خمسة دواوين وسبع مسرحيات شعرية. قلبي يتفطر له عندما أسمع بكل هذا الإنتاج ولا أجد له ذكراً في المجالس. ولكن مجالس الشعر في هذه الأيام أصبحت حكراً على العفاريت والأبالسة والجلاوزة. وعلى كل فربما لم يتألق اسم هذا الشاعر لأنه لم يتطور. ظل محافظاً على أفكاره القومية يوم انتقل الكلام إلى ماركس وفرويد. وظل ملتزماً بالقصيدة العمودية بعد أن أصبح الشعر طلاسم سريالية. لم يتأثر حتى بصديقه بدر شاكر السياب. كانا على طرفي تقيض فنياً وسياسياً في أوائل الخمسينات.

من حكميات الشعراء

مما لا نشك فيه أن غزارة الشعر العربي وحكمياته فتحتا المجال لكثير من الأمثال والأقوال الشائعة التي اقتبست من بين قلائده وفرائده. من ذلك القول الشهير: «أسدٌ علَيَّ وفي الحروب نعامة». لقد اقتبسناه في حق كثير من القواد الذين ساموا جنودهم وشعوبهم الويل ثم تخاذلوا في وجه الأعادي عندما دارت رحى الحرب. ولكن التطبيق الأمثل لهذا القول جرى على يد نظام صدام حسين. فلم يسبق لنظام أن تجبر واستأسد بحق شعبه ثم تخاذل بذلك الشكل الشائن في حرب الخليج كذلك النظام. ولكن، والحق يقال، عرفنا تطبيقات عديدة لهذا القول في التاريخ. ولا أدلَّ على ذلك من كثرة الأنماط والأشكال التي تقمّصها ذلك المَثَل.

الشاعر والسوق السوداء

في أيام الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من غلاء فاحش للأسعار، بل واختفاء الكثير من السلع، اضطر الكثيرون إلى القيام بشتى الأعمال والابتكارات لكسب لقمة العيش والتغلب على المحنة. وكان من ذلك أن أشيع بأن الشاعر الكبير معروف الرصافي اضطر للقيام ببيع السجائر في المقاهي. كان خصومه يروّجون هذه الإشاعات للحط من شخصيته، في حين أن أحباءه كانوا أيضاً يروّجون هذه الإشاعات كمؤشر إلى وطنية الشاعر ومعارضته للحكومة بما أسفر عن ضيق أحواله وصعوبة معيشته. نفى الكاتب الصحافي عبد القادر البراك هذه التهمة وهذه الإشاعات. إنني أميل لتصديق شيء منها. كانت السجائر مقننة وتحت سيطرة مؤسسة انحصار التبغ العامة.

عالم الأوهام والأزلام

يظهر أننا نعيش في عالم شبحي يقوم فيه بعض الأزلام بالاحتيال على الدولة التي يعملون فيها باختراع أشخاص وهميين يتقاضون عنهم أجوراً ومخصصات غير شرعية. جرى مثل ذلك في العراق في السنوات الأخيرة. تبين أن بعض ضباط الجيش يسجلون جنوداً لا وجود لهم ويتسلم هؤلاء الضباط الأزلام رواتبهم ويضعونها في جيوبهم. أطلق العراقيون اصطلاح «فضائيين» على مثل هؤلاء الجنود الوهميين. لا أدري كم هناك قد بقي من هؤلاء الفضائيين حتى اليوم. ولكن الرأي الشائع لسقوط الموصل بيد «داعش» يعود لقوات فضائية لا وجود لها لتدافع عن المدينة. ولكن يبدو لي أن مثل هذه الممارسات شائعة عالمياً.

كفوا عن السعال رجاء

الممثلون والمطربون والموسيقيون يحتاجون إلى الصفاء والهدوء ليستطيعوا التركيز على أدوارهم. ولهذا فما من شيء يزعجهم ويعكر عليهم أداءهم أكثر من ضوضاء تصدر من المستمعين والنظارة. وكثيراً ما يحدث مثل ذلك عندما ينشغل أحدهم بالسعال والعطاس بصوت عال. وفي بريطانيا كثيراً ما تنتاب الجمهور في موسم الشتاء موجة من الزكام تسفر عن كثير من السعال والعطاس. اضطر مدير قاعة كونسيرت الموسيقية إلى ربط كل تذكرة يبيعها للجمهور بقرص «بوتس» لكبح السعال أثناء الحفلة الموسيقية الغنائية.