حزب التحرير الإسلامي.. 62 سنة من الخلافات و«التشرد» الفكري والسياسي

عارض القوميين والبعثيين والشيوعيين والرأسمالية والإمبريالية والاشتراكية

مظاهرة لحزب التحرير الإسلامي الأردني في عمان
مظاهرة لحزب التحرير الإسلامي الأردني في عمان
TT

حزب التحرير الإسلامي.. 62 سنة من الخلافات و«التشرد» الفكري والسياسي

مظاهرة لحزب التحرير الإسلامي الأردني في عمان
مظاهرة لحزب التحرير الإسلامي الأردني في عمان

فوجئ المواطنون الأردنيون في عمان الشرقية بمهرجان كبير في جبل نزال يوم 23 مارس (آذار) الماضي، حين ارتفعت مكبرات الصوت تذكر المسلمين بالذكرى التاسعة والتسعين لسقوط الخلافة الإسلامية، وتحثهم على العمل لإعادة بناء الدولة الإسلامية مرة ثانية.
ومنظمو المهرجان كانوا مجموعة من أعضاء «حزب التحرير الإسلامي» الذي يعد نفسه التعبير الفلسطيني عن طلائع تنظيمات الإسلام السياسي في القرن العشرين. إذ كانت الساحة الحزبية في القدس خاضعة لنفوذ أحزاب كثيرة تتمركز قياداتها في سوريا، كحزب البعث العربي الاشتراكي، أو في القاهرة كجماعة الإخوان المسلمين، أو في موسكو كالحزب الشيوعي، أو في لبنان كالحزب القومي السوري الاجتماعي.
في الخمسينات من القرن الماضي، كان «الإخوان المسلمون» مسيطرين سيطرة كاملة على الساحتين السياسية والفكرية في الأردن، بضفتيه الشرقية والغربية. وشعر البعثيون والشيوعيون، أنه لم يعد لهم بقاء في الأردن، بسبب استقطاب حركة الإخوان المسلمين لجميع العناصر المسلمة الكفؤة في ذلك المجتمع المحافظ، ومنهم اثنان ترأسا وزارتين فيما بعد، و74 أصبحوا وزراء. وعندما بدأ حزب التحرير دعوته، حاول الإخوان عبثا استمالة الشيخ تقي الدين النبهاني، فانقسمت الساحة الإسلامية وتراجع المد الإسلامي، وتنفس الكثيرون الصعداء.

أنشأت جماعة من الموظفين المتدينين «حزب التحرير» في القدس، بعد انشقاقها عن الإخوان المسلمين. وقد بدأ المبادرة بالانشقاق، في بداية عام 1952، العالم الأزهري القاضي الشيخ تقي الدين النبهاني، وهو من رجال الحاج أمين الحسيني. وانضم إلى الشيخ النبهاني، عندما كان مدرسا في مدرسة ثانوية، ثلاثة من زملائه في الخليل، وهم: الشيخ أسعد بيوض التميمي، والشيخ رجب بيوض التميمي، وعبد القديم زلوم. وعقدت المجموعة لقاءات عدة، غالبا في القدس والخليل، لتبادل الآراء وتجنيد أعضاء جدد. وجرى التركيز في الأشهر القليلة الأولى، على النقاشات الدينية، لكن المجموعة بدأت باتخاذ طابع حزب سياسي في نهاية عام 1952.
قدم الأعضاء الخمسة للمجموعة (وهم: تقي الدين النبهاني، داود حمدان، منير شقير، عادل النابلسي، غانم عبده)، طلبا رسميا إلى وزارة الداخلية الأردنية، للسماح بتشكيل حزب سياسي في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1952. وقد رُفض الطلب. وكانت أسباب الرفض التي أعلنتها وزارة الداخلية، بناء على البرنامج المقترح للحزب وليس على تشكيل عضويته.
وقد أبلغ أصحاب الطلب، أن معتقدات البرنامج المقترح لا تتعارض فقط مع روح الدستور الأردني، بل مع بنوده. وقد تم الإيضاح، على سبيل المثال، أن المشروع المقترح لا يقبل مبدأ الحكم الوراثي، كما هو منصوص عليه في الدستور الأردني، وبدلا من ذلك، دعا البرنامج إلى انتخاب حاكم. ولم يعترف البرنامج بالإضافة إلى ذلك، بالقومية على أنها النمط السائد كأساس للدولة، بل بالدين الإسلامي. بعبارة أخرى، فإن البرنامج المقترح كان تحديا لشرعية النظام الأردني.
تركز نشاط المجموعة (الذين دعاهم الناس «النبهانيون» - نسبة إلى مؤسسها - في حين أن اسم حزب التحرير استعمل بشكل أقل)، في السنة الأولى عامة في القدس، الخليل، ونابلس، وفي مخيمات اللاجئين حول أريحا. حاول الحزب الدعوة لتعاليمه بعد صلاة الجمعة. كما حاول الشيخ النبهاني، بعد حصوله على مساعدات مالية كبيرة من لبنان، تشكيل مجموعات عدة تضم كل منها عشرة أعضاء، إلا أن هذه التجربة فشلت باستثناء مجموعة واحدة في القدس.
وسرعان ما تبين خطأ الرأي الذي دعا إليه داود حمدان، حول حاجة الحزب إلى ثلاثة أشهر، فقط، ليكون مستعدا لإسقاط النظام. وقد أعلن حمدان في أحد الاجتماعات المغلقة، أن الإعداد سوف يحتاج إلى وقت أطول مما توقع في الأصل. وأن هناك حاجة ماسة لأعضاء جدد قبل محاولة القيام بالانتفاضة. وبناء على ذلك، قاموا بجهود لزيادة أتباع الحزب، بالتسلل إلى المناطق الريفية والتركيز على المدرسين في القرى. وجرت محاولات عدة من قبل التنظيم في القرى الغربية لنابلس، وتم تأسيس فروع جديدة، وكان أكثرها نجاحا في عزون.
وتتابعت جهود الحزب الرئيسة في التوجه إلى المراكز البعيدة عن المدن. كانت الأهداف الرئيسة في نابلس وفي طولكرم وقلقيلية. وأسست بعض الفروع الأقل أهمية في جنين ورام الله والبيرة خلال عام 1954.
منحت الانتخابات العامة لذلك العام، الفرصة للحزب لنشر آرائه بين العامة بحرية. ورشح الشيخ أحمد الداعور نفسه للبرلمان، وقام بحملات انتخابية عدة، وأجرى لقاءات في نابلس. أدت عضوية الشيخ الداعور بالبرلمان إلى تصاعد ثقة الحزب بنفسه، وقد أصبح مستعدا للتعبير عن آرائه علانية في ذلك الوقت، خاصة في المساجد. وكان هذا صحيحا خاصة خلال شهر رمضان، حيث تصبح الحماسة الدينية على أشدها عند الناس، كما هي العادة.
لم ينجح الشيخ تقي الدين النبهاني في الوصول إلى البرلمان عام 1951، كما خسر أمام مرشح البعث عبد الله نعواس، الذي حصل على 5000 صوت مقابل 2300 صوت للشيخ النبهاني. ناضل الحزب بعد عامين، أي في عامي 1954 و1956، ورشح أعضاء الحزب أنفسهم بشكل مستقل، في انتخابات 1956، (وقد كانت ولاءاتهم السياسية واضحة للجميع) والمرشحون هم: داود حمدان (القدس)، عبد القديم زلوم (الخليل)، أسعد بيوض التميمي (الخليل)، عبد الغفار الخطيب (الخليل)، أحمد الداعور (طولكرم)، ومحمد موسى عبد الهادي (جنين). لم ينجح من هؤلاء إلا أحمد الداعور عن (طولكرم) الذي تعاون مع الإخوان المسلمين، وقام بحملات حيوية في القرى ومخيمات اللاجئين في المنطقة. ولولا تعاونه مع الإخوان المسلمين في تلك المنطقة، ولولا تنظيمهم لحملته كي لا ينجح عن طولكرم شيوعي أو بعثي، لما نجح أحمد الداعور في البرلمان.
ناضل مرشحو الحزب الآخرون، في جنين ونابلس، بقوة أثناء الانتخابات، لكن نشاطاتهم الدعائية توقفت تماما عقب هزيمتهم في الاقتراع. وقد أبعدت المهام البرلمانية أحمد الداعور عن مجاله في النشاط المحلي في طولكرم وقلقيلية، بعد انتخابه عضوا في البرلمان في عمان. كما أبقى الحزب على نشاطاته حية في نابلس، بدعوة أعضاء بارزين من القدس والخليل لإلقاء الخطب في المساجد، ولتنظيم مجموعات دراسية صغيرة.
لم تكن نشاطات الحزب بارزة خلال العقد الذي تلا تلك الفترة، لأسباب عدة. فقد قلل قانون الوعظ والإرشاد لعام 1950، من استغلال الحزب للمسجد للدعاية السياسية. كما خفف من فعالية الحزب بشكل عام. كما أضعفت الخلافات الداخلية الحزب في أواسط الخمسينات عندما اختلف الشيخ تقي الدين، الذي انتقل إلى بيروت، مع الكثير من الدعاة التحريريين في الضفة الغربية. وقد أدى ذلك إلى استقالة الكثير من الأعضاء في نابلس عام 1956، وتقليص الحزب في تلك المنطقة إلى فرع واحد في قلقيلية. كما طرد الشيخ تقي الدين عددا من القادة الذين اختلفوا معه بعد سنتين من ذلك. وبعد ذلك، أصدرت السلطات الأردنية أمرا بترحيل العديد من أكثر الأعضاء بروزا في منتصف عام 1956، ما أدى إلى وقف مؤقت لنشاطات الحزب في القدس.

* آيديولوجية الحزب
* يعتقد حزب التحرير ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، وتوحيد جميع المسلمين تحت رايتها، وذلك من خلال اتباع المنهج النبوي في نشر الدعوة سلميا، كما حصل في مكة المكرمة. ثم خلق الوعي السياسي لدى طبقات الشعب. ثم «طلب النصرة» من قادة الجيش وأصحاب القرار والمتنفذين في الإدارة الحكومية، لإقامة شرع الله والحكم بكتابه. وقد أوضح الشيخ تقي الدين النبهاني تفاصيل منهجية الحكم في كتبه الكثيرة، ومنها «نظام الحكم في الإسلام» «النظام الاقتصادي في الإسلام» و«النظام الاجتماعي في الإسلام» وكتاب «الشخصية الإسلامية» وكتاب «الدولة الإسلامية» وكتاب «الخلافة» وكتاب «إنقاذ فلسطين» وكتاب «كيف هدمت الخلافة» وكتاب «الفكر الإسلامي».
وقدّر بعض المخططين في الحزب، أن المرحلة التالية قد تستغرق خمس عشرة سنة، بينما أشار آخرون بالصبر ورفضوا تحديد موعد زمني. اتفق الجميع على أنه ليس من الضروري اللجوء للعنف الجسدي لتحقيق الهدف النهائي، حيث يمكن الوصول إلى الدولة بالسيطرة عليها من داخلها. لهذا كان هناك تأكيد كبير على النشاط السري المكثف، ولم يتوقعوا حدوث نجاح سريع ودراماتيكي. وباستثناء حادثة أو حادثتين، فإن حزب التحرير لم يدع إلى العنف سواء على شكل مظاهرات أو نشاطات أكثر جدية من ذلك. لم يتخل الحزب أبدا عن هدفه في السيطرة على الحكومة، لكنهم أجلوه إلى ما لا نهاية. والتوصل إلى ذلك يجب أن يكون بطيئا ومنتظما، وذلك بتوصلهم إلى المراكز الحساسة في المجتمع، وإعداد الجمهور ليكون مستعدا لنوع النظام الذي يتوق إليه الحزب، ثم الاشتراك في الحياة البرلمانية.
تهاجم كتابات حزب التحرير، غالبا، الاستعمار الغربي بمرارة. وتمثل الإمبريالية الغربية، بالنسبة للحزب، النمط النموذجي للعدو الرئيس، حيث تظهر أيديها الماكرة خلف الكثير من الأحداث السياسية في العالم العربي، ولا يوجد أي نظام عربي لم يتسرب إليه أعوان وعملاء الغرب، وفقا لأدبيات الحزب. ولا ينظر حزب التحرير إلى الإمبريالية على أنها قوة مفردة متراصة ومتناغمة، بل يرى منافسة مستمرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين تتنافسان على التأثير والسيطرة في العالم العربي. وينظر حزب التحرير إلى موسكو نظرة عداء أيضا، وغالبا ما اتهمها باستغلال العرب في صراعاتها مع الغرب، إلا أن درجة النقد الموجه إلى موسكو، أقل بكثير من غيره. ويرى حزب التحرير أيضا، أن وجود شيوعيين هو سبب كاف للنظر إليهم باحتقار، إلا أن السبب في الموقف المعتدل نسبيا ضدهم، يكمن في «افتقارهم إلى الوجود» في الشرق الأوسط، ولهذا فإن خطرهم أقل حدة من خطر الغرب. وأن ثمة مؤامرة تثيرها الولايات المتحدة (وغالبا بدعم فعال من أصدقائها لطرد البريطانيين)، بينما يحاول الغرب، عموما، إغراء الدول العربية للدخول في تحالف عسكري واقتصادي معه، من أجل تحقيق أهدافه في الشرق الأوسط. ويصور حزب التحرير بصراحة، المعاهدات العسكرية كمحاولات صريحة لإخضاع دول الشرق الأوسط شبه المستقلة. وتصور مشاريع المساعدات الاقتصادية، كشكل ذكي للإمبريالية يهدف إلى السيطرة السياسية من خلال التدخل المالي. وينظرون إلى جميع هذه التحالفات، على أنها جوانب لاستراتيجية واحدة مسيطرة تحاول احتواء الأقطار الإسلامية في الصراع من أجل سيطرة الإمبرياليين الكفار. ويعرض الحزب، في أدبياته، لهذه المحاولات الواضحة المخربة والسامة، ويحاول إعطاء ضحاياها تحذيرا مفصلا وخاصا.
ويصور حزب التحرير القوى الاستعمارية، على أنها المتهم الرئيس في تدهور وضع الإسلام. ولا ينظر حزب التحرير إلى وجود دوافع عقائدية شريرة خلف هذه المؤامرة، بل اعتبارات واقعية، مثل السيطرة على المصادر الطبيعية، والاستراتيجية العسكرية.. الخ. كان الاعتماد الاقتصادي على الغرب، والتقسيم السياسي للعالم الإسلامي إلى عشرات الدول منفصلة عن بعضها، هو الثمرة المباشرة للأزمة الدينية والعقائدية لهذا العالم، فكانت الوسيلة لإنعاش العالم الإسلامي هي التحرر الكامل من سيطرة الغرب الثقافية والاقتصادية والسياسية. إلا أن الهدف الأسمى يجب أن يكون خلق دولة إسلامية واحدة، يتحتم عليها السيطرة على جميع الشؤون الداخلية لحياة السكان وفقا لتعاليم الإسلام. أما في الشؤون الخارجية، فتباشر العمل لحرب مقدسة في جهد متآلف لعرض الإسلام على كل العالم غير المسلم. ويجب الاحتفاظ بالتكنولوجيا الغربية فقط في دولة المستقبل هذه، والهدف من ذلك بشكل خاص تطوير الصناعات الحربية الشاملة.
رمى حزب التحرير من وراء هذا الهدف المقترح، إلى تحويل العالم كله إلى الإسلام، ويمكن الوصول إلى هذا الهدف من خلال العمل على ثلاثة مستويات متتابعة وهي: الوعي الفردي، «المجموعة المختارة»، الدولة المثالية. وليست المرحلة النهائية في توحيد جميع الشعوب الإسلامية في دولة كلية السيادة، مجرد حلم ورؤيا. فقد ولد الجنين في الدول العربية. ولهذا يجب توجيه أبلغ الاهتمام إليها. وعلى المرء أن يتجنب أي إشارة إلى وجود شعوب عربية مختلفة مثل «الشعب الأردني»، أو «الشعب الفلسطيني»، فكلها تشملها هوية واحدة هي الإسلام. ولم يكن مفهوم القومية العربية إلا من خلق الإمبريالية وتجديدا يناقض روح الإسلام (اعتبر حزب التحرير العبارة المألوفة تماما «الدول الشقيقة» معادية لعقائد حزب التحرير). لا يمكن قبول إلا الرابطة الإسلامية الموحدة. لم تحظ الدول الأخرى في العالم الإسلامي، إلا بانتباه ضئيل في الواقع العملي. ولم يكن تركيز الحزب السياسي على العالم العربي ككل، بل على مشكلة فلسطين. فلم تكن فلسطين بلدا إسلاميا عاديا، بل إنها تحتل أهمية خاصة في الإسلام. واعتبر حزب التحرير مجرد وجود حكم أجنبي (وبشكل خاص في القدس) هو بمثابة إهانة. ولن يكون هناك حل عادل إلا بالحرب المقدسة. أما إعادة توطين اللاجئين في مكان آخر، أو إرجاعهم إلى أوطانهم تحت الحكم الإسرائيلي، فيجب ألا يُشجع. ولم يدعم «التحريريون» انبثاق «كيان فلسطيني»، بل أظهروا، على عكس الآخرين، معارضة شديدة ومستمرة، حتى إنهم لم يترددوا في انتقاد منظمة التحرير الفلسطينية بشكل صريح، بسبب دعمها لمبدأ دولة فلسطينية منفصلة. ولم يكن خلق دولة فلسطينية منفصلة يعارض أكثر معتقدات الحزب جوهرية بوحدة إسلامية كاملة، بل إن هذا قد يضع حدا لمشكلة فلسطين. وليس هذا إلا هدف الاستعمار الغربي، وإسرائيل، وبعض القادة العرب الذين يودون التخلص من كل الوضع المتأزم. لهذا يرى حزب التحرير «إن إنشاء كيان فلسطيني ودولة في الضفة الغربية جريمة كبيرة ومحرم تحريما قاطعا».
كان حزب التحرير هو الحزب الوحيد في العالم العربي الذي عارض باستمرار منظمة التحرير الفلسطينية، والمنظمات الأخرى التي تشارك منظمة التحرير أهدافها. ومن الممتع رفض حزب التحرير تطويع مبادئه لتحمّل الاتجاه السائد، حول التساؤل المتعلق بكيان فلسطيني مستقل. وهو التساؤل الذي كان سيصبح مسيطرا على التفكير السياسي لأبناء الشعب الفلسطيني. قاوم الحزب بشدة وباستمرار أي محاولة للهبوط بالمشكلة الفلسطينية إلى مستوى مشكلة لاجئين. كما رفض وبالإصرار نفسه، أن تكون فلسطين مجرد قضية قومية على وجه التخصيص، لا يستحق أي شيء عناية جادة ما لم يؤدّ إلى إعادة تشكيل العالم الإسلامي في دولة موحدة واحدة.
استقطب حزب التحرير عداء المثقفين العرب في رفضه لفكرة الديمقراطية التي اعتبرها نوعا من الكفر، ويخرج من ملة الإسلام من يؤمن بها، أو يمارسها، لأنها بدعة أوروبية تبتعد عن فكر القرآن الكريم القادر على تنظيم الحياة العصرية بصورة شاملة، ضمن الإطار الإسلامي، وهو الخلافة الراشدة القادرة «عند إقامتها»، على حل مشكلات الشعوب الإسلامية قاطبة.
ويهاجم حزب التحرير في أدبياته النظام الرأسمالي الغربي، ويعتبره سببا في إعادة استعباد الشعوب وشقائها. كما اعتبر النظام الاقتصادي الشيوعي بالدرجة نفسها من الفشل في تحقيق الرفاه والسعادة للإنسان. كما لم تستطع الاشتراكية العربية إقناع منظري الحزب بجدواها، إذ اعتبروها كالرأسمالية والشيوعية، من أسباب بؤس الإنسان المعاصر.
وبسبب موقف الحزب المعادي للقومية العربية وتكفيره لمن ينادي بها، فقد جرى إعدام الشيخ عبد العزيز البدري، من قادة الحزب في العراق، في ثمانينات القرن الماضي، كما لم يعرف أحد مصير وفد الحزب إلى ليبيا بعد لقائه الرئيس معمر القذافي لطلب «النصرة».
لقد تعاقب على رئاسة الحزب ثلاثة حتى الآن، يحمل كل منهم لقب أمير: المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني، والشيخ عبد القديم زلوم، والمهندس عطا أبو الرشتا، الأمير الحالي. وقد مارسوا جميعا القبضة الفولاذية ضد الأجيال الجديدة التي رفضت تشدد القيادة، وعدم تكيفها مع مقتضيات العصر الحديث، وعدم مرونتها في تفسير النصوص التراثية.
ونتيجة لذلك، فقد جرى فصل السوري الشيخ عمر بكري محمد، من «ولاية» بريطانيا عام 1996، فأسس جماعة «المهاجرون» التي تضم في عضويتها بضعة آلاف من الشباب المقيم في المملكة المتحدة، قبل أن ينتقل الشيخ ويستقر في لبنان.
كما تأسست عام 1997، جماعة الإصلاح، من أعضاء الحزب الذين رفضوا التزمت والجمود، وعدم التدرج في الوصول إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية. وكان نصيبهم الفصل أيضا، ويحملون اسم «الناكثون»، كنوع من الازدراء بهم.
وقام جماعة من شباب الحزب المتعلم، المثقف، بتأسيس تنظيم حزبي تقدمي جديد ليلم شملهم في الولايات المتحدة، سموه «حزب التحرير - أميركا».
وقد أدت استراتيجية الحزب في استخدام أسلوب الإقناع والاستدلال بالحجج القرآنية، إلى انتشاره الواسع في إندونيسيا وماليزيا، على أيدي الطلبة الخريجين من الجامعات البريطانية، ممن تأثروا بأفكار الحزب. كما ذكرت الأنباء الصحافية، أن سجون أوزبكستان، تضم أكثر من ألف من أعضاء حزب التحرير المحظور هناك.
وعلى الرغم من تركيز أدبيات الحزب على إقامة دولة الخلافة الإسلامية من خلال المراحل السلمية الثلاث، وهي مرحلة إعداد الأفراد فكريا وعقائديا، ومرحلة التفاعل مع المجتمع بخلق وعي عام شامل كامل يؤمن بضرورة التغيير وحتمية الانتصار، ومرحلة تعقب ذلك بطلب النصرة من أصحاب القرار الذين انخرطوا في «الحلقات» السرية للحزب. فإن ممارسات الحزب العملية، أوضحت أنهم حاولوا القيام بانقلاب في الأردن، في ستينات القرن الماضي، وفي تونس، في السبعينات، وفشلوا. كما خططوا لانقلاب مماثل فاشل في القاهرة، فيما عُرف باسم «الكلية الفنية العسكرية» في أبريل (نيسان) 1974 وأُعدم نتيجته الدكتور صالح عبد الله سرية، وهو من قرية «اجزم» الفلسطينية نفسها التي ينتمي إليها الشيخ النبهاني، والتي تعرضت نساؤها عام 1948، إلى مجازر وانتهاكات شبيهة بمذابح دير ياسين.
وقد ذاق أعضاء الحزب في ليبيا والعراق، من صنوف التعذيب والتنكيل والإعدام، ما لم يمر به أي تنظيم حزبي آخر.
لقد تشظى حزب التحرير حاليا إلى ست مجموعات، بسبب فقدانه المرونة السياسية، وعدم أخذه بأحكام التدرج في الوصول إلى الغايات، وعدم تكيفه مع مقتضيات العصر الحديث. ويوجد الآن في فلسطين والأردن، «الناكثون» بزعامة «الشيخ أبو رامي». ويوجد المهاجرون في سوريا ولبنان. ويوجد حزبان في بريطانيا، يحمل كل منهما اسم حزب التحرير. كما يوجد في الولايات المتحدة «حزب التحرير - أميركا». وتوجد المجموعة السادسة في شرق آسيا وماليزيا وإندونيسيا.
وتأخذ هذه المجموعات الست على قيادة الحزب عدم تأقلمها مع المتغيرات العالمية أو استيعاب متطلبات القرن الحادي والعشرين وفهمها.
* كاتب من الاردن



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.