نصر الله في المشهد الأخير: هكذا قُطع الحبل مع طهران

شهادات عن «حرب الإسناد» في لبنان... وأسرار دُفنت مع «ثلاثة رجال»

TT

نصر الله في المشهد الأخير: هكذا قُطع الحبل مع طهران

أنصار «حزب الله» يشاهدون حسن نصر الله وهو يُلقي خطاباً عبر شاشة عملاقة داخل مسجد في الضاحية الجنوبية بيروت في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)
أنصار «حزب الله» يشاهدون حسن نصر الله وهو يُلقي خطاباً عبر شاشة عملاقة داخل مسجد في الضاحية الجنوبية بيروت في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)

في الأشهر الأخيرة قبل اغتياله، اعتقد الأمين العام السابق لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، أن «حرب الإسناد» ستظل حتى نهايتها تحت سقف «قواعد الاشتباك»، وأن إيران لن تترك 4 عقود من «المقاومة الإسلامية» في لبنان فريسة سهلة، غير أن حسابات خاطئة هي ما أعاقت الحزب عن قرارات حاسمة بشأن الحرب التي أضحت بحلول سبتمبر (أيلول) 2024 دموية وشاملة.

يكشف هذا التحقيق عن أن «أسراراً ميدانية طُمرت مع قادة في الحزب اغتالتهم إسرائيل، ومعها فقد نصر الله الفاعلية مع بدلائهم المجردين من المعرفة الميدانية»، رغم أن رواية مخالفة أفادت بأن مشكلة الحزب لم تكن في القادة، بل في خسارة مشغلي الصواريخ، «العملة النادرة» في الحزب والحرب.

يستند التحقيق إلى مقابلات مع شخصيات لبنانية وعراقية كانت على تماس مع قيادة الحزب عام 2024، أجريت بين أغسطس (آب) وأكتوبر (تشرين الأول) 2025، وتنوعت بين قياديين سابقين ورجال دين وعناصر أمن، حُجبت هويات بعضهم لأسباب أمنية.

ورغم أن حرب الإسناد في لبنان باتت مسرحاً لسرديات متصارعة، فإن الشهادات ملأت جزءاً معقولاً من ثغرات المشهد الأخير الذي سبق اغتيال نصر الله، ما بين يناير (كانون الثاني) وحتى سبتمبر 2024.

خلال تلك الفترة، قُتل نحو 3768 شخصاً، وجرح أكثر من 15 ألفاً وفق السلطات اللبنانية، بينما أفاد تقرير لجامعة تل أبيب بأن «حزب الله» خسر نحو 2500 من عناصره في غارات ضربت أكثر من 12 ألف هدف، كان أكثرهم أهمية حسن نصر الله، وقادة عسكريين من نخبة «الجهادية» للحزب.

شريحة واسعة من اللبنانيين كانوا يترقبون الكلمات المتلفزة للأمين السابق لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ف.ب)

حرب تحت السقف

في الأسابيع الأولى من الحرب، سادت قناعة «حزب الله» بأن «قواعد الاشتباك» ستبقى سارية، وأن الأمر «لن يبلغ حرباً مفتوحة»، وفق شخصية لبنانية كانت على صلة وثيقة مع قادة عسكريين.

نقل الرجل الذي وافق على التحدث لـ«الشرق الأوسط»، شريطة عدم الكشف عن هويته، عن أحد الاجتماعات الخاصة لأفراد متنفذين في الحزب في مرحلة مبكرة من الحرب إن «حسابات نصر الله لم تكن تتعدى مناوشات في نطاق مزارع شبعا».

واستخدام مزارع شبعا مجازاً، وفق الشخصية اللبنانية، إشارة إلى مناوشات كلاسيكية بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي باستخدام مسيَّرات مفخخة أو صواريخ مصنعة محلياً.

ظل الحال داخل ذهنية «حزب الله» في نطاق «معادلة الردع» منذ اتفاق وقف العمليات الواسعة بعد حرب 2006. ورغم أن نصر الله قال في خطاب شهير آنذاك إنه «ذاهب إلى حرب مفتوحة»، لكنه لم يذهب أبعد مما حدث بالفعل.

نقلت الشخصية اللبنانية عن قيادي في «حزب الله» أشيع لاحقاً أنه أصيب بجراح بليغة وتوارى عن الأنظار، إن «جزءاً من خطط الحزب بعد (طوفان الأقصى) اعتمد على أن إيران ستنجح يوماً في ضبط الردع ووقف النار من خلال تموضعها في المفاوضات».

وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الحزب انتظر إيران تعيد التوازن إلى الصراع المختل، ما دام (حبل السرة) مضفوراً بين طهران والضاحية، ونصل إلى لحظة وقف النار من دون خسارة كبرى».

طالما صرح مسؤولون إيرانيون، على رأسهم المرشد الإيراني علي خامنئي، أن طهران لن تتخلى عن حلفائها، كما أن نصر الله نفسه كان يرجع الفضل إلى إيران كون حزبه متماسكاً ومدعوماً مالياً وتسليحياً.

ثلاث عيون

في منزله قرب الضاحية ببيروت، تحدث رجل دين شيعي إلى «الشرق الأوسط» عن نقطة تحول لعبت دوراً حاسماً في تأخر «حزب الله» عن إدراك المسار السريع للحرب الشاملة.

رجل الدين، وهو لبناني الجنسية ودرس العلوم الدينية في النجف، كان خسر 4 شباب من عائلته خلال الحرب، منهم اثنان قضوا بغارة إسرائيلية في «العديسة»، إحدى بلدات «مرجعيون»، جنوبي البلاد. يقول إن نصر الله خسر كذلك قياديين قلبوا عليه المعادلات في ساحة المعركة.

يضيف الرجل الذي بدا في منتصف الستينات: «تبين في النهاية، أنه كلما قتل قائد ميداني يخسر نصر الله عيناً تساعده على الرؤية الواضحة. الأمين العام السابق كان شديد التعلق والهوس بالمتابعة الميدانية، لكنه بدأ يفقد أدواته الفاعلة».

وفقاً لهذه الشهادة، فإن أكثر ما أثّر على نصر الله غياب 3 قياديين هم طالب عبد الله، ويلقب بـ«أبو طالب»، إبراهيم عقيل، المعروف أيضاً باسم إبراهيم تحسين، ووسام الطويل الذي يعتقد أن صلة تربطه بالأمين العام السابق، ومن الصعب تأكيدها.

من مراجعة التسلسل الزمني لسقوط الثلاثة، فإن نصر الله بدأ يخسر ما قيل إنهم «العيون الثلاث» على امتداد المراحل المتقلبة لـ«حرب الإسناد».

صورة مركبة لقادة عسكريين في «حزب الله» وهم من اليسار إبراهيم عقيل ووسام الطويل وطالب عبد الله

قُتل الطويل، وهو قائد بارز في قوة «الرضوان» التابعة للحزب، في 8 يناير 2024. وضربت غارة إسرائيلية في 11 يونيو (حزيران) منزلاً في قرية جويا جنوب لبنان، لتقتل طالب عبد الله المعروف بكنية «أبو طالب» المسؤول عن عمليات الحزب في المنطقة الوسطى من الشريط الحدودي الجنوبي مع إسرائيل وحتى نهر الليطاني. قيل يومها إنه اغتياله كان الأقسى على نصر الله.

وفي 20 سبتمبر 2024، خسر نصر الله أيضاً إبراهيم عقيل، قائد المجلس العسكري، الذي خَلَف فؤاد شكر الذي اغتيل في 30 يوليو (تموز) 2024.

في النهاية، «حوصر نصر الله بمعلومات ميدانية مشوشة، ولم يكن يعرف ضباط الحزب في الميدان تفسير ما يحدث كلما انتظرواً قراراً في لحظة حاسمة»، يقول رجل الدين.

شيء من الفوضى عم غرف العمليات خلال فترات معينة. اشتكى قياديون في الميدان «من الارتجال، لأن العناصر كانت تتصرف بدافع القلق والريبة أكثر مما كان يتوجب عليها، بانضباط»، وفق مصادر لبنانية.

إلى جانب القياديين الثلاثة، كان نصر الله خسر قائد وحدة «عزيز» محمد نعمة ناصر في 3 يوليو. لم يبق سوى علي كركي الذي اغتيل مع الأمين العام السابق في الغارة التي استهدفت حي ماضي بالضاحية يوم 27 سبتمبر 2024.

رغم فقدان القادة الثلاثة، وعلى مدار ثمانية أشهر، بقي نصر الله ومحيطه يفكرون داخل صندوق «قواعد الاشتباك»، ومواقفه كانت تستبعد «الحرب الشاملة».

بعد اغتيال الطويل، قال نصر الله إن «تصرفات المقاومة تُدار بروية، وليس من منطلق انفعال». وفي إثر اغتيال أبو طالب، نقلت وسائل إعلام لبنانية عن مصادر الحزب أن «الرد سيكون ضمن الحدود، وليس حرباً شاملة على الفور». وخلال تشييع إبراهيم عقيل، ألقى نعيم قاسم كلمة مطوّلة، ملخصها أن الحزب «دخل في مرحلة جديدة عنوانها معركة الحساب المفتوح». بعد أيام معدودة، اغتيل نصر الله.

يقول علي الأمين، وهو ناشر وكاتب لبناني، إن نصر الله «كان يعتقد أن الحزب قادر عسكرياً على ردع إسرائيل ومنع نشوب حرب شاملة، غير أن هذا التقدير تبين لاحقاً أنه خاطئ».

لبنانية تمشي أمام مكتب «حماس» المدمر بعد هجوم إسرائيلي أسفر عن مقتل صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في 2 يناير 2024 (د.ب.أ)

«الدرون» يعرف الحزب جيداً

تكمن مشكلة «حزب الله» في «حزب الله» نفسه؛ في طريقة تكوينه القادة وتعويضهم.

بحسب مصادر لبنانية، فإن القادة الميدانيين الذين اغتيلوا منذ يناير وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 كانوا أفراداً ضمن سلسلة منقطعة من القيادة. ليسوا جزءاً من جسم مؤسساتي أو تراتبية تنقل الخبرة والمعلومات بسلاسة.

تقول المصادر، إن «القائد البديل لم يتمكن من الإحاطة بكامل أسرار القائد الذي اغتيل؛ ثمة تفاصيل عملياتية بقيت طيّ الكتمان. كان ذلك أحدَ مشكلات نصر الله في التعاطي مع الحرب وإدامة الحزب».

فُهم من مقابلات أجرتها «الشرق الأوسط»، أن كل قائد في «حزب الله» يبني منظومته الخاصة من العلاقات والمعلومات والأساليب بناءً على خبرته الشخصية بشكل منفرد، وعندما يُقتل، تُدفن خبرته معه، بما في ذلك خرائطه الحزبية التي أضحت في النهاية مقتنيات شخصية، حتى لو كانت عن مخازن السلاح أو خطط الانتشار، توارى الثرى مع صاحبها.

«في مرحلةٍ ما من الحرب، بات «الدرون» الإسرائيلي حين يحلق فوق وحدة لـ«حزب الله» أكثر معرفةً بالحزب من القائد الميداني الذي تسلّم مهامه حديثاً»، يقول رجل الدين اللبناني.

إسرائيل من ثقب إبرة

تسرب الشك إلى دائرة حسن نصر الله، للمرة الأولى، بعد اغتيال صالح العاروري، النائب السابق لرئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في 2 يناير 2024.

يقول رجل الدين اللبناني إن الأسبوع الأول من ذلك العام كان قاسياً، إذ انتهى باغتيال وسام الطويل أيضاً. سُمِع على نطاق محدود داخل الحزب إن «نصر الله لم يتوقع ما حدث (...) ظل صامتاً لفترة بعد الاغتيالين».

اختار نصر الله الدفاع بدل الهجوم. يقول علي الأمين، إنه في إثر اغتيال العاروري ترشح من مطبخ الحزب القيادي أن عسكريين وميدانيين، التقوا نصر الله بشكل عاجل، «طلبوا فتح الحرب إلى أقصاها، بسبب ما تقوم به إسرائيل من اصطياد للكوادر والعناصر»، لكن رد نصر الله عليهم كان: «إياكم أن نذهب إلى هناك».

رد فعل الحزب كان الانكماش والغرق في الشك العميق. يقول رجل الدين اللبناني إن هذه عادة «الحركات الإسلامية، الشيعية خصوصاً، هو الانعزال بداعي مراجعة النفس». مع ذلك، أفادت مصادر أمنية أن الحزب نفض شبكات اتصالاته عله يعثر على ثقب الإبرة الذي تتسرب منه المعلومات إلى «العدو».

في شهادة لقيادي شيعي عراقي كان نقطة اتصال مع «حزب الله» اللبناني منذ عام 2015، قال إن «قنوات التواصل مع الحزب تغيرت مراراً مع تصاعد الاغتيالات في بيروت». وتابع: «كنا نتعرف على أشخاص جدد في كل مرة نحتاج إلى شيء من الضاحية».

تفهّمت فصائل عراقية «المحاذير التي طغت سلوك أشخاص في الحزب، ممن كانوا معتادين على تغذية مجموعات عراقية بتقديرات سياسية وميدانية». قال القيادي العراقي، إن «حزب الله كان مرجعاً ليس فقط لتحركاتنا الميدانية، بل نعود إليه في تفاعلاتنا السياسية المحلية، لذلك تحمس كثيرون في بغداد لتقديم المساعدة».

في مرحلة ما من أغسطس 2024، طلب الإيرانيون من فصائل عراقية إسناد «حزب الله». قال القيادي العراقي: «سألناهم كيف ذلك. قالوا: في هذه المرحلة اضغطوا في الإعلام أنكم جاهزون للحرب».

بعد فترة، عاد إلى الإيرانيين برسالة من فصائل عراقية مسلحة أظهرت استعداداً للقتال دفاعاً عن «حزب الله»، مفادها: «قالوا لنا: لا، حتى نصر الله لا يريد ذلك».

وفي 20 سبتمبر 2024، تعهّد فصيل «كتائب سيد الشهداء» العراقي، بإرسال 100 ألف مقاتل إلى حدود لبنان، ولم يذهب أحد.

وجهت إسرائيل ضربات لـ«حزب الله» من خلال تصفية عدد من كبار قادتها مما أضعف بشكل كبير البنية العسكرية للحركة (أ.ف.ب)

البحث عن التسريب

فاحت رائحة «خيانة» من مكان ما. يلمح إلى ذلك القيادي العراقي، الذي قال إنه ظل يتردد على بيروت حتى سبتمبر 2024، يقول إن «وسطاء أُبلِغوا في مناسبات مختلفة بإيقافهم عن مهام نقل الرسائل. كان الحزب في الحقيقة يجرب طرقاً أخرى».

لدى رجل الدين اللبناني تفسير لهذا. لقد «اختبر الحزب طرقاً مختلفة في التواصل، في محاولة لاكتشاف أين يكمن الاختراق. من أي شق خفي تسربت إسرائيل إلى جدار الأمن المشيد حول قيادات الحزب».

لكن تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية المعروفة باسم «البيجر» عصف بالحزب وعزل القيادات عن بعضها وعن شبكاتها الميدانية ودخلت المنظومة في حالة تشبه الإطفاء التام. وفي مرحلة ما، توقفت محاولات من تبقى في القيادة رأب صدع استخباري رافق نشاط الحزب منذ أكتوبر 2023.

قال رجل الدين اللبناني إن وحدات ميدانية تابعة للحزب لم تسمع شيئاً في الأيام التي تلت تفجير «البيجر». واستغرقت القيادة وقتاً طويلاً قبل أن تعود إلى تغذية «ضباط الوحدات بالأوامر الروتينية، ولم تكن تجدي».

في تلك المرحلة، سأل قيادي عسكري في «حزب الله» نصر الله عما إذا كانت قواعد الاشتباك لا تزال سارية. «كان من غير المعتاد عدم سماع جواب محدد»، وفق شهادة حصلت عليها «الشرق الأوسط».

وأدرك نصر الله أنه بات في قلب حرب مفتوحة لم يكن يرغب فيها، لكن الوقت كان متأخراً، كما تنقل مصادر عن قياديين حضروا اجتماعات مفصلية.

يقدّم علي محمد أحمد، وهو أستاذ الإعلام السياسي، قراءة قريبة إلى حد ما من سردية يتبناها تيار المقاومة، على نطاق واسع. يقول إن بقاء قواعد الاشتباك التقليدية كان سيجعل الكفة تميل ضد إسرائيل، لكن ما غيّر المعادلة فعلياً هو التفوق التقني والمعلوماتي الذي لم يضعه الحزب في الحسبان. ذلك كان هو المعطى الناقص.

مقاتلو «حزب الله» يؤدون القسم خلال تدريب عسكري مُنظم في معسكر بقرية عرمتى جنوب لبنان (أرشيفية - د.ب.أ)

المشهد الأخير

على نطاق واسع، قيل إن نصر الله حضر يوم 27 سبتمبر تشييع محمد سرور، قائد وحدة مسيّرات الحزب، قبل أن يتوجه إلى حارة حريك في الضاحية، برفقة نائب قائد «فيلق القدس» في لبنان، عباس نيلفوروشان.

ما دار بينهما بقي طي الكتمان. لا أحد يعرف ما إذا كانا قد راجعا، للمرة الأخيرة، أين وصلت بهما «حرب الإسناد». وصلا في النهاية إلى مخبأ تحت الأرض، وهو مقر مركزي للحزب، وهناك انتهت رحلتهما. قضيا في هجوم تقول إسرائيل إنها استخدمت فيه أطناناً من متفجرات خارقة للتحصينات. في اليوم التالي، تفجّرت أطنان من الأسئلة في الضاحية، وفي كل مكان.

يقول رجل الدين اللبناني، الذي كان يتحدث وعيناه ترصدان صور القتلى من عائلته، إن «كثيرين من بيئة (المقاومة) استغرقوا وقتاً طويلاً تحت الصدمة، لكنهم في النهاية كانوا يسألون: من خذل الآخر؟ الحزب أم إيران؟ المقاومة أم ولاية الفقيه؟».

يرى علي محمد أحمد أن «العقل الكامن في الحزب كان يعمل بطريقة واحدة وأساسية، وهي أنه لم يكن يستطيع مغادرة حرب تُفرض عليه. لذلك، استمر فيها».

لا يتخيل علي الأمين أن نصر الله كان قد أعلن قيام «وحدة الساحات» لولا استناده إلى دور إيراني، وقناعته بأن إسرائيل «تحسب حساباً لقوة الأذرع في لبنان والعراق واليمن»، لكن تلقيه صدمات أمنية وعسكرية جعله وطهران في حالة من الارتباك، فقطع الحبل بينهما. وبسبب «جهلهما بخطط الحرب الإسرائيلية في حرب الإسناد» اكتشفا أنهما وقعا في الفخ.

لحظة ضرب مقر «حزب الله» في الضاحية الجنوبية ببيروت واغتيال نصر الله يوم 27 سبتمبر 2024 (د.ب.أ)

غير أن علي محمد أحمد، يقول إن «الحزب منظومة قيادة جماعية. لكن إسرائيل تفوقت في مرحلة مبكرة من الحرب عندما حيّدت مشغلي الصواريخ الاستراتيجية». يرى محمد أحمد أن المشغّلين «عملة نادرة» من الصعب تعويضهم. ومشكلة «حزب الله» ليست خسارة القيادات الميدانية، بل المشغلين.

«حين أطلق الحزب مئات الصواريخ في اليوم الأخير قبل وقف النار، عرفنا أنه تمكن من ضخ دم جديد، بمشغلي صواريخ جدد»، يقول محمد علي.

«لم يخذل أحد الآخر». المشكلة تكمن في أن الطرفين، إيران و«حزب الله»، كانا يعيشان في لحظة ما قبل السابع من أكتوبر 2023، ولم تتحرك الساعة في يد أيٍّ منهما.

يقول عقيل عباس، الباحث العراقي المتخصص في الشأن الأميركي، إن الحزب وإيران لم يفهما بشكل دقيق حجم التغير الكبير، رغم أن إسرائيل وبنيامين نتنياهو كانا يكرّران أن ما حدث يشبه أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. «الجميع فهم أن القواعد القديمة لم تعد سارية، وأن هناك قواعد جديدة تُفرض بالقوة».

ما عمّق الأزمة على إيران والحزب أن الوسطاء الدوليين اختفوا من الساحة. «في حروب سابقة، كان الأوروبيون، مثلاً، مهتمين بوقف الحرب، إلا هذه الحرب»، وفق عباس.

مهما يكن، فإن سرعة إسرائيل لعبت دوراً حاسماً في صنع الفارق. «لم تكن إيران قادرة على فعل شيء حيال ذلك. الأحداث كانت أكبر من قدرتها على الاستجابة، إذ تحتاج وقتاً للإعداد لمواجهة بهذا الحجم».

مع ذلك، حاولت إيران في وقت متأخر أن تتواصل مع نصر الله وتحثه على التهدئة، وربما الانسحاب، بعد أن أدركت أن طريقة التفكير القديمة لم تعد صالحة، لكنها لم تكن قادرة على إجبار نصر الله على فعل شيء. يقول الباحث العراقي إن طهران كانت ترى نصر الله «صاحب الميدان».

بعد نحو عام من وقف النار في لبنان، فإن نهاية الحرب في لبنان تعتمد على الجمر الذي لا يزال يلمع تحت الأنقاض، كما يصفه رجل الدين اللبناني. يقول إن «لبنان الذي يُكتب له السلام، يُكتب عليه في نفس الصفحة، جبهات وخطوط تماس جديدة».


مقالات ذات صلة

الجيش الإسرائيلي يستهدف عنصراً من «حزب الله» في جنوب لبنان

المشرق العربي جنود من الجيش اللبناني يقفون بجوار حطام سيارة استُهدفت في غارة إسرائيلية على جنوب لبنان في 22 ديسمبر الحالي (أ.ف.ب)

الجيش الإسرائيلي يستهدف عنصراً من «حزب الله» في جنوب لبنان

أعلن الجيش الإسرائيلي اليوم الخميس إنه استهدف عنصراً ينتمي إلى جماعة «حزب الله» اللبنانية في منطقة الجميجمة بجنوب لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جنود من الجيش اللبناني يقفون بجوار حطام سيارة استُهدفت في غارة إسرائيلية على جنوب لبنان (أ.ف.ب)

الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف عنصر بـ«حزب الله» في جنوب لبنان

قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، مساء الأربعاء، إن الجيش استهدف عنصراً من جماعة «حزب الله» في منطقة «جناتا» بجنوب لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي الرئيس اللبناني جوزيف عون مستقبلاً الوفد العراقي برئاسة إحسان العوادي، مدير مكتب ئيس الوزراء العراقي (الرئاسة اللبنانية)

عون: عودة سكان جنوب لبنان إلى ديارهم أولوية

أكّد الرئيس جوزيف عون أن «عودة الجنوبيين إلى بلداتهم وقراهم هي الأولوية بالنسبة إلى لبنان، للمحافظة على كرامتهم ووضع حد لمعاناتهم المستمرة حتى اليوم».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي عنصر من الجيش اللبناني يقف قرب سيارة مستهدفة في بلدة عقتنيت بقضاء الزهراني استهدفتها غارة إسرائيلية الثلاثاء (إ.ب.أ)

إسرائيل تدشن مرحلة جديدة من القصف بجنوب لبنان

دشّنت إسرائيل مرحلة جديدة من القصف في جنوب لبنان، تتركز بمنطقة شمال الليطاني، قبل نحو أسبوع على إعلان الجيش اللبناني الانتهاء من المرحلة الأولى لـ«حصرية السلاح»

«الشرق الأوسط» (لبنان)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

إسرائيل ستستثمر خلال العقد المقبل 110 مليارات دولار في تصنيع الأسلحة

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأربعاء إن بلاده ستستثمر 350 مليار شيقل (أي ما يوازي 110 مليارات دولار) على مدى السنوات العشر المقبلة.

«الشرق الأوسط» (القدس)

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.