أن تزور دمشق بعد عام على سقوط نظام الأسدين، وعشية استعداد البلاد لإحياء الذكرى الأولى لـ«التحرير» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2025، فأنت تعايش أياماً أقرب إلى «وقفة عيد»، وتمشي حاملاً مجهراً يغرقك في تفاصيل ومقارنات لا تنتهي. مقارنات لا تقتصر على ما عاينته وشهدته بعين خارجية قبل عام فحسب، بل بما تختزنه 15 عاماً من أثقال وأهوال، وما تتفتح عنه ذاكرة محدثيك من تجارب شخصية وعامة و«تروما» متراكمة باختلاف الأجيال.
«وقفة عيد» عبارة قد تختصر المشهد العام في وسط العاصمة السورية في الأيام القليلة الماضية، بكل ما تحمله من تجهيزات وزينة وفرح، كما وغصّة وتعطيل للعمل وتسيير الأمور، حيث يقابل أي ترتيب بسيط بعبارة «إن شالله لبعد الاحتفالات».

حقبة سوداء انتهت
وأجواء الاحتفالات تلك تبدأ منذ نقطة العبور الحدودية من لبنان لجهة معبر المصنع؛ لافتات كبيرة على طول الطريق المؤدي إلى دمشق ترفع شعارات «انتهت الحقبة السوداء... وأشرق وجه البلاد» و«كتف بكتف، يد بيد، نبني الوطن»، و«وطن واحد... شعب واحد» وغيرها من الملصقات الحديثة التي صممت كلها بحسب «الهوية البصرية» الجديدة ذات العقاب الذهبي.
تلك الشعارات والعلم الجديد كما وشعار النسر، خطّت على أسوار المواقع العسكرية التي أخلاها النظام السابق، وعند مدخل البلدات ومركز الفرقة الرابعة على طريق بيروت - دمشق فحلّت محل شعارات «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» و«قائدنا إلى الأبد» وغير ذلك من صور وعبارات انطبعت في اللاوعي الجمعي السوري.
ولئن لاقت الهوية البصرية الجديدة التي أعلن عنها صيف 2024 انتقادات واسعة لجهة أنها «ليست من الأولويات» في بلد منهك ومدمر، لكن الواقع على الأرض يجانب تلك الحقيقة وقد لا يصيبها تماماً. ذاك أن «الهوية البصرية» في النظام السابق كانت عملاً ممنهجاً ودؤوباً وجزءاً أساسياً من تركيز النفوذ وتثبيته في النفوس، يبدأ من دفاتر تلامذة الروضات وصبورات الصفوف المدرسية ولا ينتهي عند صور وتماثيل هائلة احتلت الساحات والفضاءات العامة.
لذا ليس من قبيل الصدفة أن يكون أول ما بدأ تهشيمه وتكسيره وتمزيقه لحظة سقوط النظام السابق هو «أيقوناته» ورموزه البصرية، فكان لا بد من إشغال ذلك الفراغ البصري بما يعكس طبيعة السلطة الجديدة عوضاً عن تركه عرضة لعشوائية فصائلية ومناطقية كانت بدأت تظهر مطلع العام الماضي. وبشيء من السخرية يقول قائل إنه لولا الحاجة للتعامل بالأوراق النقدية والعملة السابقة لعمد كثيرون إلى إحراق الأموال التي تحمل رموز النظام السابق.
لكن، وفي سياق نبذ كل ما له صلة بما مضى وتجذير ما حضر، ذهب كثيرون خطوات أبعد في تبني «الهوية البصرية» الجديدة في الملبس والمظهر والسلوك الاجتماعي. ففي حين «تشذبت» اللحى وقصر طولها وخف إلى حد بعيد مظهر مقاتلي «هيئة تحرير الشام» بشعورهم الطويلة وأزيائهم الغريبة، كما كان الحال قبل عام من اليوم في دمشق، باتت اللحية عموماً خفيفة منمقة أو شبه محفوفة الشوارب، هي السمة الطاغية للشباب والرجال.
وتحوّل النسر الذهبي إلى أزرار تعلق على الأكمام والياقات لألبسة رسمية تغلب عليها التصاميم التركية، ولا تقتصر على الموظفين الحكوميين، وإنما امتدت إلى أي شاب مدني يعمل في القطاع الخاص وراغب بأن يشبه عصره.
وإذ صهرت أجهزة الدولة الناشئة المقاتلين السابقين في قنواتها الرسمية وأبرزها جهازي الشرطة والأمن العام، تبدلت أزياء العسكريين السابقين أيضاً من قميص وشروال أو بزّات مموهة بحسب الفصيل العسكري، وانسحبت من المشهد العام ليحل محلها لباس أسود موحد وأوجه مكشوفة وسلاح غير ظاهر ولا محتفى به. وهؤلاء هم «موضة» المراهقين واليافعين الذين شاع بينهم اللون الأسود، وباتوا غير صابرين على نمو لحاهم، تطبعاً بنموذج رجل السلطة الجديد.
هذا التغيير المشهدي، البسيط ربما في سياق التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا اليوم، امتص جزءاً كبيراً من غضب الدمشقيين المكبوت وتوجسهم حيال حكامهم الجدد القادمين من أرياف ومحافظات بعيدة. فمعلوم أنه في بلد شديد المركزية كسوريا، لا نجاح في امتحان عام قبل اجتياز اختبار دمشق. ودمشق اليوم، وعلى رغم التحديات والانتظارات الكثيرة... في وقفة عيد.

رايات بيض
ازدحامات خانقة تحيل الوصول إلى أي مكان أشبه بمعجزة، ومواكب جوالة بالأعلام ورايات التوحيد البيضاء، وشوارع تغلق عصراً في محيط ساحة الأمويين، فتزيد اختناق الشوارع الداخلية. شبكة الهاتف مثقلة. الفنادق متخمة. حجوزاتها مغلقة بأسعار صاروخية حتى تلك التي كانت عريقة وفاخرة ذات يوم وتوقف بها الزمن في نهاية الثمانينيات فبقيت اليوم مجرد أطلال شاهدة على العصر.
رواد الفنادق يتراوحون بين مغتربين سوريين، ومشاركين في ندوات وورشات عمل لناشطين في المجتمع المدني، ووفود أجنبية ودبلوماسية على أرفع المستويات، وصحافة محلية وعالمية، وتجار ومقاولون وعناصر أمن وفدوا من المحافظات والمناطق البعيدة، ومجرد فضوليين يتسكعون في البهو ما أتيح لهم ذلك.
أحد القواسم المشتركة بين هؤلاء كلهم وغيرهم ممن غصّت بهم دمشق، أنهم كانوا قطعوا الأمل بالعودة يوماً إلى بلدهم، واليوم يغرفون منها ما استطاعوا. عائلات بأكملها أتيح لها خلال العام الماضي احتضان أبناء وبنات منفيين منذ أكثر من عقد، ولقاء أحفاد لم يشهد الأجداد على ولادتهم، وفي أحسن الأحوال تعرفوا إليهم عبر شاشات الهواتف. شباب وشابات غادروا يافعين هرباً من اعتقال وموت محتم، وعادوا اليوم رجالاً ونساء في منتصف العمر يحاولون حشر أجسادهم الكهلة في أسرّة الصبا.
وكما في وقفة كل عيد، فإن مشاعر البهجة والحبور لا تطرق بعض الأبواب إلا محمّلة بدمع كثير. ولعل سكان المناطق المدمرة سواء في المخيمات البعيدة أو في الأحياء المحاذية لمنصة الاحتفالات في ساحة الأمويين، وأهالي المفقودين والمخفيين قسراً أكثر من تبتلع الغصة فرحتهم اليوم وهم مدركون أن طريقهم طويل وعسير. إنهم أبرز الحاضرين في هذه الذكرى، إذ لا تخلو عائلة من فقيد أو مفقود لا تزال تبحث له عن أثر أو رفاة لإتمام مراسم الدفن والعزاء.
لكن أيضاً فإن تجمعات الأهلية سواء لأهالي المفقودين أو المنظمات الحقوقية كما وأصحاب الأعمال وغيرهم من التجمعات، عادوا ونقلوا نشاطهم إلى داخل بلدهم وعقدوا اللقاءات ورفعوا المطالب من وسط عاصمتهم. وفي ذلك لا شك كسب كبير.

غلبني الشوق
أكثر من أي شيء، هو احتفاء بـ«حق العودة» الذي حرم منه السوريون لعقود مضت وسبقت أحياناً ثورة 2011. يقول رجل أربعيني عاد واستقر في دمشق بعد 13 عاماً قضاها في إسطنبول: «أنا عائد لأنني ببساطة مشتاق. مشتاق لأهلي وحارتي وحياتي التي وإن كرهتها آنذاك، تركتها مرغماً ومطروداً».
وفي معرض حديثه عن بعض من يحاولون تأطير خيارات الأفراد في سياقات سياسية عامة كـ«المساهمة في بناء سوريا الجديدة» وغيره من عناوين برّاقة يقول: «أعتقد أنني كنت أساعد بلدي وناسي بأشكال كثيرة حتى وأنا في الخارج. ولكني اليوم عدت لأنه غلبني الحنين. ويجب أن يكون الحق بالشوق حجة كافية للعودة. الحق في أن أختار عودتي بمعزل عن درجة الرضا أو عدم الرضا عن شكل الحكم وأداء السلطة الوليدة».
تلك عبارة تختصر الكثير من حال السوريين اليوم، داخل دمشق وخارجها ممن التقيناهم حتى في المحافظات البعيدة. كأن الناس يحتفلون عملياً باستعادة حقهم في تقرير مصائرهم.
وفيما يبدو أنه ليس للسياسة حيّز كبير اليوم، غير أن الفيل الحاضر في كل مجلس قرارات الحكومة والأداء الإعلامي والحقوقي وسلوك الشرطة وأحداث الساحل والسويداء والعلاقة بـ«قسد» وارتفاع الأسعار وتجاور الفقر والثروة وإغفال ملفات المغيبين والمخفيين في السجون، ذلك كله وغيره الكثير يجري تشريحه ويوضع تحت المجهر بصوت عالٍ، في الشارع والمقهى والمطعم كما لو أنه فعلاً لم يعد للجدران آذاناً. يضحك محدثي من هذا التشبيه ويقول: «بالفعل، لم يعد للجدران آذان... ولكن لغير الجدران أيضاً. كل يفعل ما يشاء. الأفراد والجمعيات والوزارات والمحافظون ورجل الشرطة في سوق الحميدية... كأن الجميع استعاد لسانه وقطع أذنيه».






