مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

الرجال والثعالب

في نهاية مؤثرة، تُوفي زوجان أميركيان مسنان خلال نصف ساعة بعد علاقة دامت (62) عامًا كاملة. وبحسب صحيفة (الإندبندنت) البريطانية، فإن الزوجين توفيا في 21 يوليو (تموز) الماضي، في إحدى دور الرعاية بولاية ساوث داكوتا الأميركية، في الغرفة نفسها، ويد كل منهما تمسك بيد الآخر. توفيت الزوجة (جانيت دي لانغ) أولاً عن عمر (87) عامًا جراء معاناتها من مرض ألزهايمر، وبعد 20 دقيقة من وفاة الزوجة، فارق الزوج (هنري دي لانغ) (86) عامًا الحياة، وهو عسكري سابق قاتل في الحرب الكورية - انتهى.
حقًا إنها نهاية مؤثرة، غير أن ما لفت نظري هو صمودهما معًا في حياتهما الزوجية طيلة 62 عامًا، دون كلل أو ملل، وهذا يجبرني على أن أؤكد أنه ليس هناك أروع من الوفاء، وهناك في بلادنا نماذج كثيرة على هذه الشاكلة، غير أنه بالمقابل هناك نماذج كثيرة ليس لمفردة الوفاء مكان في حياتها.
فبعض الرجال قد تتقبله زوجته بخيره وشره، و«تكرف» طوال حياتها في بيته من أجل إسعاده وإسعاد أبنائه، وما إن يحس هو أن السنوات قد ناءت بكلكلها على زوجته - أي «بوّشت»، حسب مصطلح بعض الرجال من أصحاب العيون الزائغة - حتى يأخذ في البحث عن زوجة أخرى تدق «سلف»، وتولع وتغمز (باستباطها)، حتى يجدد بها فراشه.
وأعرف نماذج من الرجال هم على هذه الشاكلة، بل إن بعضهم بدلاً من أن يتستروا على أفعالهم، يعلنونها على الملأ، ويفاخرون بها في المجالس، ويصفون من لا يجاريهم في «تهورهم» بالجبن والضعف.
وكنت شخصيًا مادة دسمة على الدوام في التهكم عليّ من قبل أحد فرسان «التعدد»، وكلما شاهدني، يفتح معي سيرة الزواج، فيغمرني الكسوف، وألوذ كالعادة بالصمت المطبق، وينهي كلامه دائمًا قائلاً بصوت مرتفع: لا نامت أعين الجبناء.
وبهذه المناسبة، فقد راقني رسم (كاريكاتيري) في جريدة «الرياض»، وهو يتمثل بامرأة جالسة أمام شاشة التلفزيون تأكل «كراث»، وتتفرج على فيلم وثائقي عن الحيوانات.
وكانت تستمع باهتمام للمذيع وهو يقول: يعتبر الثعلب من أخلص الكائنات الحية لزوجته، فهو لا يتزوج في حياته سوى زوجة واحدة. وإذا ماتت، يبقى طوال حياته أعزب لا يتزوج.
عندها، توقفت الزوجة الساذجة عن الأكل وهي تنظر في صورة زوجها المعلقة على الحائط، ثم رفعت يديها للسماء تدعو على زوجها، قائلة:
يا الله، يا ربي، يا حبيبي، في هذا اليوم الفضيل، إنك تقلبه وتحوله إلى ثعلب - انتهى.
ما أكثر الرجال الذين يجب أن يتحولوا جبريًا إلى ثعالب.
وأولهم كاتب هذه السطور الذي هو متحول خلقة.