أخبار دولية وعربية
بريطانيا بائسة... لكن البريطانيين يقاومون
بريطانيا بائسة... لكن البريطانيين يقاومون
رسم توضيحي لمئات من الأشخاص يحتشدون سوياً لتعليق منحوتات من رؤوس وقبضات المحتجين. الأشخاص بلون برتقالي، والمنحوتات بلون رمادي، على خلفية صفراء.
بريطانيا تعاني، والإشارات في كل مكان.
التضخم في خانة العشرات، ومن المتوقع للركود - الأسوأ في جميع بلدان مجموعة السبع - الاستمرار حتى عام 2024. الخدمات الصحية الوطنية في أسوأ حالاتها، والنقل العام في حالة يُرثى لها، ونقص العمالة لما بعد «بريكست» منتشر على نطاق واسع. يواجه أصحاب المساكن معدلات مرتفعة من الرهن العقاري، ويتعرض المستأجرون للإخلاء بلَا مَلُوم، ويعجز الملايين عن تحمل تكاليف تدفئة منازلهم. وبنوك الطعام، التي سمعنا عنها بالكاد قبل عقد من الزمان، أوشكت على الانهيار، ودخل 14.5 مليون مواطن حظيرة الفقر. وقد حل الشتاء، وهو قاتم للغاية.
لكن البريطانيين يقاومون. بعد أشهر مما سُمي «صيف الإضراب الساخن»، حيث نظم ما يقرب من 200 ألف من العمال مسيرات الاحتجاج، تشهد بريطانيا فوراناً صناعياً على نطاق لم تشهده منذ عقود - وفي كل أنواع الأماكن غير المتوقعة. فقد نظم موظفو الجامعة مؤخراً أكبر مسيرة لهم، على سبيل المثال، وسوف تتخذ الكلية الملكية للتمريض، التي تمثل ممرضات خدمات الصحة الوطنية، قريباً إجراءات الإضراب للمرة الأولى في تاريخها الممتد 106 سنوات. إن نطاق النزاعات المتسعة مُذهل للغاية. ومن بين الذين يتظاهرون أو على وشك الإضراب، هناك عمال البريد، وموظفو الخدمة المدنية، وعمال الجمعيات الخيرية، وسائقو الحافلات، ورجال الإطفاء، وعمال المصانع.
كانت الإضرابات، المثيرة للجدل في المعتاد، قد استحوذت على المزاج العام بنحو غير متوقع؛ إذ يذهب الناس إلى صفوف الاعتصامات ويتحدثون نيابة عن العمال بالاتصالات الهاتفية المباشرة مع البرامج التلفزيونية والإذاعية. ولا يزال دعم الإضراب صامداً حتى الآن: في أغسطس (آب) الماضي، دعم 3 من كل 5 بالغين بريطانيين الإضراب الصناعي، وأظهر استطلاع للرأي في أكتوبر (تشرين الأول) دعم 65 في المائة من المشاركين لإضراب عمال التمريض. كما أن الإضرابات عن العمل في السكك الحديدية أقل دعماً، لا سيما مع اقتراب أعياد الميلاد الغربية، لكن ميك لينش، زعيم نقابة النقل التي تصدرت زعامة الإضرابات، تحول إلى بطل وطني غير محتمل. ورفضه لقبول الأمور على علاتها، علاوة على صرامته الواضحة مع القائمين بالمقابلات الإعلامية، يعد من قبيل الضرب على وتر بالغ الحساسية.
في مواجهة أولئك الذين يصرون على أنه لا بديل سوى المعاناة، يقول البريطانيون العاديون إنه، في الواقع، هناك بديل - وهو يسمى: التضامن.
ويتناقض تحديهم بشكل صارخ مع المزاج السائد لدى الحكومة. بعد أسابيع من الاقتتال السياسي والفوضى الداخلية، ترسخت لديهم حالة من «الجبرية» المهيبة. ولمواجهة المستويات غير المستدامة من الديون الحكومية، وأزمة الطاقة العالمية، وفقاً لهذا الطرح، يتعين على البلاد اتخاذ قرارات عسيرة. وعلى حد تعبير وزير المالية قبل وضع الميزانية العقابية في الشهر الماضي: «هناك (طريق عسير) أمامنا. وفي هذه الأوقات العصيبة، سوف يتوجب على الجميع بذل التضحيات من أجل صالح البلاد».
سمعت بريطانيا الكلام نفسه من قبل. في أعقاب الانهيار المالي عام 2008، عندما توصل الساسة إلى ذرائع مماثلة لتبرير خفض الإنفاق الحكومي. وبالاعتماد على أرقام متطفلي مؤسسة الرعاية الاجتماعية، بمساعدة وسائل الإعلام المُنصاعة، وحزب المعارضة المُمتثل، أقنعت الحكومة الجماهير وقتذاك بأن التقشف كان استجابة معقولة. غير أن المقاربة نفسها لم تُفلح هذه المرة. ووفقاً للمركز الوطني للبحوث الاجتماعية، يعتقد 52 في المائة من الناس الآن أنه ينبغي أن يكون هناك مزيد من الدعم الحكومي، وليس أقل. إضافة إلى ذلك، هناك عدد أقل من الناس الذين يتفقون الآن على أن الرعاية الاجتماعية سخية للغاية وتمنع الناس من الاعتماد الكلي على أنفسهم. على أي حال، من الصعب للغاية إلقاء اللوم على الأفراد في المشاكل المالية المنتشرة على نطاق كبير.
بدلاً من ذلك، بدأت سردية أخرى تترسخ. في هذه النسخة، نستطيع القول إن الآلام الاقتصادية العميقة التي ابتليت بها بريطانيا غير مقبولة أو حتمية. ويصف زعماء النقابات العمالية «أزمة تكاليف المعيشة» بأنها حرب طبقية، وفرصة لتسييل الأموال لصالح الشركات المتربحة، الفرصة التي تيسرها الحكومة. ويعد رفض الحكومة الموافقة لزيادة الضرائب على الأثرياء للغاية - وهو ما يمكن أن يوفر 37 مليار جنيه إسترليني، أو 45 مليار دولار سنوياً، وفقاً لمنظمة العدالة الضريبية الحقوقية في المملكة المتحدة - إشارة إلى زيادات ضريبية خفية تصيب ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، كمثال على ذلك.
الشعب الذي تخلت عنه الحكومة آخذ في التصعيد. يُذكر أن حملة «كفى! قد طَفح الكَيل» بدأت في أغسطس (آب) من جانب نقابات العمال، ومنظمي المجتمع، والمشرعين من يسار حزب العمل، وقد انضم إليها 750 ألف شخص، ونظمت مسيرات حاشدة في كل أرجاء البلاد. وللحملة المذكورة خمسة مطالب رئيسية: زيادة حقيقية في الأجور، وإنهاء الفقر الغذائي، وتخفيض فواتير الطاقة، وتوفير السكن اللائق للجميع، وفرض ضرائب أعلى على أصحاب الدخول المرتفعة. يقول المنظمون إنهم يصلون إلى مناطق غير متوقعة في البلاد، بما في ذلك معاقل المحافظين، وتنقل الحملة مؤيديها إلى صفوف الاعتصامات.
اتخذت المجموعة الشعبية المسماة «لا تدفع للمملكة المتحدة»، التي أنشئت في يونيو (حزيران) الماضي، خطوات أبعد من ذلك. وتعهد 250 ألف شخص، تناصرهم مئات مجموعات الدعم من مختلف أنحاء البلاد، البدء في إضراب وطني مُنسق لعدم سداد فواتير الطاقة بدءاً من 1 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، انضماماً بذلك إلى ما يقدر بثلاثة ملايين مواطن آخرين لا يستطيعون ببساطة سداد فواتيرهم. وفي مواجهة الانتقادات بأن عدم سداد الفواتير سوف يفرض عقوبات بالغة الشدة على الفئات الأكثر ضعفاً، تسعى الحملة إلى توفير الدعم الجماعي للأشخاص الذين غالباً ما تكون أوضاعهم الفردية مزرية في أغلب الأحيان.
إذا نظرنا إلى الأمر بإجماله، فسوف نجده يبدو كأن البريطانيين أكثر استعداداً للتآزر والتضامن معاً. وخلف هذه المعنويات، ربما يبدو وباء «كورونا» من المفارقات. فقد أظهر أنه، بإرادة سياسية قوية، يمكن توفير الأموال التي تُنفق على الخدمات العامة والرواتب. ولسبب آخر، فقد قدم الامتنان الشديد للممرضات والعاملين الرئيسيين الآخرين، بحيث بات من الصعب الآن تجاهل مطالبهم بتحسين أجورهم وظروفهم. الأهم من ذلك، أن تجربة الإغلاق العام، وانتشار الأمراض قد أفرزت الآلاف من مجموعات المساعدة المتبادلة، التي تقوم على أساس الدمج الجماعي وإعادة ربط المجتمعات المجزأة. هذه الروح المدنية هي التي يجري إحياؤها الآن.
قبل أربعة عقود من الزمان، أصرت مارغريت ثاتشر علناً على أنه «لا يوجد ما نستطيع أن نطلق عليه اسم المجتمع». ربما صارت بريطانيا أكثر استعداداً أخيراً لإثبات خطأ مقولتها.