في تقديمه لكتابه «نهاية المجتمع التقليدي»، كتب دانييل ليرنر، إن المجتمع التقليدي يحتضر في كل القارات، وإنه لا يوجد ركن واحد في العالم يستعصي على الحداثة، التي رغم أنها تاريخياً منتوج غربي، فإنها ذات صلاحية عالمية. لم يكن ليرنر أول من أصدر هذا الحكم، فقد سبقه إليه مفكرون عظام أشهرهم كارل ماركس الذي تحدث قبل ليرنر بمائة عام عن الدور الثوري للاستعمار البريطاني في الهند؛ لما له من أثر في تدمير المجتمع الريفي الراكد، واستبداله برأسمالية ديناميكية تتطور بسرعة.
فكيف يبدو الأمر بعد ما يقرب من مائة عام أخرى، وكيف تبدو العلاقة بين التقليدية والحداثة، وبين النموذج الغربي للحداثة وما يجري في أنحاء العالم الأخرى بعد أن أخذنا وقتاً كافياً لاختبار المقولات القديمة؟
نشر دانييل ليرنر كتابه في خمسينات القرن العشرين، في وقت ساد فيه الاعتقاد بعالمية الحداثة وشمولها، وأن الغرب يمثل مستقبل العوالم غير الغربية. شاع هذا الاعتقاد في الوقت الذي فرض فيه التراجع على الغرب الكولونيالي، وانتصرت حركات الاستقلال في المستعمرات، فوصل إلى الحكم في البلاد حديثة الاستقلال نخب سياسية سعت لتحديث بلادها بسرعة، مسترشدة بالنموذج الغربي، فبدا الأمر كما لو أن الأمم الجديدة لو تركت لحالها دون قهر خارجي فإنها تختار الحداثة، وأن الأخيرة لها قوة دفع خاصة بها، وليست في حاجة إلى بندقية الاستعمار الأوروبي. فقد كان الغرب يتراجع سياسياً، بينما الحكام الجدد في المستعمرات حديثة الاستقلال يتبنون برامج للبناء الوطني مستمدة من الحداثة غربية المنشأ، بحيث إن الهزيمة السياسية لقوى الاستعمار الغربي لم تخصم من الهيمنة العالمية للحداثة غربية المنشأ. فيكف يبدو الأمر بعد أكثر من نصف قرن، وهل ما زال الاعتقاد في شمول الحداثة وعالميتها قائماً، وهل أمكن إعادة إنتاجها خارج الغرب الجغرافي والتاريخي.
لم يعد العالم التقليدي القديم قائماً، فقد ظهر محله في كل مكان في العالم واقع جديد. لم يعد هناك في عالم اليوم قبائل لم تمسها الحداثة مثل تلك التي درسها الأنثروبولوجيين العظام الأوائل لويس هنري مورجان وإدوارد تايلور وجيمس فريزر وبرونيسلاو مالينوسكي. حدث التغير في كل مكان في العالم، ومسّت الحداثة كل شيء، فانتهت المجتمعات التقليدية التي كانت موجودة فيما يشبه الجمود لقرون طويلة. انتهى العالم التقليدي القديم كما تنبأ دانييل ليرنر، ولكن هل حل محله مجتمع حديث على الطريقة الغربية كما تقول بقية النبوءة؟
المؤكد هو أن مجتمعات العوالم غير الغربية لم تعد تقليدية كما كانت قبل أن تمسها الحداثة. المؤكد أيضاً أن هناك بين قوى المجتمع والدولة في المجتمعات غير الغربية أطراف تسعى لاستنساخ النموذج الغربي للحداثة في بلادها. بعض هذه البلاد أنتج حداثة فيها كثير شبه بالحداثة الغربية، فيما أنتج أغلبها تركيبات فيها درجات متفاوتة الشبه بالحداثة الغربية.
لفترة ليست قصيرة صنف منظّرو الحداثة هذه المجتمعات كمجتمعات انتقالية، غادرت التقليدية لكنها ما زالت في مرحلة الانتقال نحو الحداثة. انطلق هؤلاء من أن الحداثة تأتي في طبعة واحدة هي الطبعة الغربية، وأن المجتمعات التي لم تصل أو تقترب من الحداثة الغربية ستظل في حالة سيولة وعدم استقرار ناتجة عن طبيعة الانتقال كعملية تغير متواصل.
ساد هذا الرأي لفترة ليست قصيرة كان فيها الاعتقاد قوياً بحتمية الحداثة الغربية. غير أن الانتظار قد طال دون أن يكتمل التحول للحداثة الغربية، حتى أيقنا أن ما ظنناه تطوراً انتقالياً هو أقرب لتركيبة اجتماعية راسخة تعيد إنتاج نفسها، وأن ما نشاهده في المجتمعات غير الغربية ليس انتقالاً في اتجاه أي صورة مسبقة رسمتها الحداثة الغربية، ولكنه هو نفسه صيغة ما بعد المجتمع التقليدي في هذه المجتمعات. ولكن هل هناك بعد التقليدية سوى الحداثة، وأليس ما نشهده في المجتمعات غير الغربية هو الحداثة الخاصة بهذه المجتمعات، وأن هناك نماذج عدة للحداثة، وليس فقط حداثة غربية واحدة، وأن كل مجتمع ينتج الحداثة التي يطيقها والمتناسبة مع تاريخه واقتصاده وثقافته.
لكن ألا تقود هذه النظرة إلى إهدار القيمة التحليلية لمفهوم الحداثة، بتحويله إلى مفهوم شديد الاتساع، يجمع بين مجتمعات ثرية وديمقراطية، وأخرى فقيرة وسلطوية؟ يعيدنا هذا الاعتراض إلى نقطة بداية ضرورية تتعلق بما هو جوهري في المجتمع الحديث، وهذا يعيدنا إلى دانييل ليرنر مرة أخرى؛ فالحداثة في رأيه هي حالة ثقافية نفسية تزيد فيها تطلعات الناس وتوقعاتهم بمعدلات سريعة. المجتمع الحديث، إذن، هو مجتمع تتسارع فيه التطلعات والتوقعات، وهذا أمر تشترك فيه كل المجتمعات. غير أن المجتمعات تختلف في أمرين مهمين، الأول هو الآليات المؤدية لرفع التوقعات، والآخر هو المؤسسات والسياسات التي يتم تطويرها من أجل التعامل مع التوقعات المتزايدة. وباختلاف التوليفات المختلفة من الأليات والمؤسسات تتكون نماذج مختلفة للحداثة.
تحولات ثلاث كبرى صنعت الحداثة الغربية: تحول فكري تمثل في التنوير، تحول سياسي مثلته الثورة الفرنسية، وتحول اقتصادي مثلته الرأسمالية والثورة الصناعية. الانتصار للعقل ضد الميتافيزيقا هو أهم ما ميز التنوير، وعنه تفرعت مبادئ حرية الفكر والاعتقاد من أجل تحرير العقل من القيود، وعنه أيضاً تفرع اعتقاد بأن المجتمع قابل للتشكل، وأنه من الممكن بناء المؤسسات التي تحقق رفاهية وحرية الفرد، وأن قوة العقل والعلم قادرة على تحويل المجتمع.
بعد هذا جاءت الثورة الفرنسية. فبينما كان التنوير تمرداً ضد الميتافيزيقا والمؤسسات والطبقة اللاهوتية، كانت الثورة الفرنسية تمرداً ضد الأوتوقراطية والأرستقراطية، من أجل تقريب السلطة من الشعب، بل وجعله مصدر السيادة. حروب نابليون الأوروبية هي أوضح تعبير عن العلاقة بين التنوير والثورة الفرنسية، فالأوتوقراطيون الأوروبيون الذين اجتمعوا في الحلف المقدس ضد نابليون لم يكونوا أقل إيماناً من الفرنسيين بمركزية العقل، فلقد انتشر التنوير بين الطبقات الحاكمة والمتعلمين في بلاد القارة الأوروبية وأصبح موضة العصر الفكرية حتى قبل الثورة الفرنسية، أما الحرية والمساواة ونقل السيادة للشعب فهذه قضية أخرى، لم تصل إلى أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية، رغم خسارة نابليون حروبه الأوروبية.
التنوير صاغ العقل الأوروبي الحديث، والثورة الفرنسية شكّلت مؤسساته السياسية، أما الرأسمالية والصناعة فقد صنعتا له قاعدة لإنتاج ثروة مادية وفيرة أتاحت إمكانية الاستجابة للتطلعات المتزايدة.
هذه هي القوى التي صنعت الحداثة الغربية، فما هي القوى التي صنعت الحداثة في الخبرات غير الغربية؟ وكيف أثر اختلاف القوى الصانعة للحداثة غير الغربية في المنتج النهائي لهذه الحداثة. لدينا حداثة غربية تطورت إلى الديمقراطية الليبرالية. لدينا حداثة آسيوية جاء التغيير والمبادرة فيها علوياً من السلطة. ولدينا حداثة عالم ثالثة كان مصدر التغيير فيها خارجياً. في نموذج الحداثة الغربية تم تحرير الفلاحين من العمل في الأرض، فذهبوا إلى المدينة وعملوا في المصنع، فنشأت طبقات عاملة. في نموذج آخر للحداثة ترك المتعلمون من أبناء الفلاحين الريف، وانتقلوا للمدينة، ليصبحوا موظفين إداريين في الجهاز الإداري للدولة، فنشأت طبقة بيروقراطية. أنتج عمال المصانع آيديولوجيا الاشتراكية لتدافع عن مصالح العمال وحرية التنظيم النقابي والحزبي والعمل السياسي. أنتج البيروقراطيون عقيدة دولتية، تضع الدولة فوق المجتمع، والاستقرار قبل الحرية. نقاط بداية مختلفة، ومسارات متباينة، ونماذج متعددة للحداثة.
أنتجت الحداثة في كل نماذجها ثلاثة منتجات رئيسية، كل منها هو مجال للاعتقاد والفعل الاجتماعي. هناك أولاً اتجاهات الأفراد وقيمهم، وهناك أيضاً مؤسسات سياسية تتولى التنظيم الاجتماعي وإدارة السلطة والرفاه المشترك، وهناك أخيراً نظام لإنتاج الثروة المادية وتوزيعها. مقارنة هذه المكونات/المجالات بين المجتمعات المختلفة، والطريقة التي تتمفصل بها هذه المجالات مع القوى المحددة الصانعة للحادثة في كل تجربة يتيح لنا منهجاً لتصنيف النماذج المختلفة للحداثة.
- باحث مصري
الحداثة... واحدة أم متعددة؟
الحداثة... واحدة أم متعددة؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة