الحداثة... واحدة أم متعددة؟

TT

الحداثة... واحدة أم متعددة؟

في تقديمه لكتابه «نهاية المجتمع التقليدي»، كتب دانييل ليرنر، إن المجتمع التقليدي يحتضر في كل القارات، وإنه لا يوجد ركن واحد في العالم يستعصي على الحداثة، التي رغم أنها تاريخياً منتوج غربي، فإنها ذات صلاحية عالمية. لم يكن ليرنر أول من أصدر هذا الحكم، فقد سبقه إليه مفكرون عظام أشهرهم كارل ماركس الذي تحدث قبل ليرنر بمائة عام عن الدور الثوري للاستعمار البريطاني في الهند؛ لما له من أثر في تدمير المجتمع الريفي الراكد، واستبداله برأسمالية ديناميكية تتطور بسرعة.
فكيف يبدو الأمر بعد ما يقرب من مائة عام أخرى، وكيف تبدو العلاقة بين التقليدية والحداثة، وبين النموذج الغربي للحداثة وما يجري في أنحاء العالم الأخرى بعد أن أخذنا وقتاً كافياً لاختبار المقولات القديمة؟
نشر دانييل ليرنر كتابه في خمسينات القرن العشرين، في وقت ساد فيه الاعتقاد بعالمية الحداثة وشمولها، وأن الغرب يمثل مستقبل العوالم غير الغربية. شاع هذا الاعتقاد في الوقت الذي فرض فيه التراجع على الغرب الكولونيالي، وانتصرت حركات الاستقلال في المستعمرات، فوصل إلى الحكم في البلاد حديثة الاستقلال نخب سياسية سعت لتحديث بلادها بسرعة، مسترشدة بالنموذج الغربي، فبدا الأمر كما لو أن الأمم الجديدة لو تركت لحالها دون قهر خارجي فإنها تختار الحداثة، وأن الأخيرة لها قوة دفع خاصة بها، وليست في حاجة إلى بندقية الاستعمار الأوروبي. فقد كان الغرب يتراجع سياسياً، بينما الحكام الجدد في المستعمرات حديثة الاستقلال يتبنون برامج للبناء الوطني مستمدة من الحداثة غربية المنشأ، بحيث إن الهزيمة السياسية لقوى الاستعمار الغربي لم تخصم من الهيمنة العالمية للحداثة غربية المنشأ. فيكف يبدو الأمر بعد أكثر من نصف قرن، وهل ما زال الاعتقاد في شمول الحداثة وعالميتها قائماً، وهل أمكن إعادة إنتاجها خارج الغرب الجغرافي والتاريخي.
لم يعد العالم التقليدي القديم قائماً، فقد ظهر محله في كل مكان في العالم واقع جديد. لم يعد هناك في عالم اليوم قبائل لم تمسها الحداثة مثل تلك التي درسها الأنثروبولوجيين العظام الأوائل لويس هنري مورجان وإدوارد تايلور وجيمس فريزر وبرونيسلاو مالينوسكي. حدث التغير في كل مكان في العالم، ومسّت الحداثة كل شيء، فانتهت المجتمعات التقليدية التي كانت موجودة فيما يشبه الجمود لقرون طويلة. انتهى العالم التقليدي القديم كما تنبأ دانييل ليرنر، ولكن هل حل محله مجتمع حديث على الطريقة الغربية كما تقول بقية النبوءة؟
المؤكد هو أن مجتمعات العوالم غير الغربية لم تعد تقليدية كما كانت قبل أن تمسها الحداثة. المؤكد أيضاً أن هناك بين قوى المجتمع والدولة في المجتمعات غير الغربية أطراف تسعى لاستنساخ النموذج الغربي للحداثة في بلادها. بعض هذه البلاد أنتج حداثة فيها كثير شبه بالحداثة الغربية، فيما أنتج أغلبها تركيبات فيها درجات متفاوتة الشبه بالحداثة الغربية.
لفترة ليست قصيرة صنف منظّرو الحداثة هذه المجتمعات كمجتمعات انتقالية، غادرت التقليدية لكنها ما زالت في مرحلة الانتقال نحو الحداثة. انطلق هؤلاء من أن الحداثة تأتي في طبعة واحدة هي الطبعة الغربية، وأن المجتمعات التي لم تصل أو تقترب من الحداثة الغربية ستظل في حالة سيولة وعدم استقرار ناتجة عن طبيعة الانتقال كعملية تغير متواصل.
ساد هذا الرأي لفترة ليست قصيرة كان فيها الاعتقاد قوياً بحتمية الحداثة الغربية. غير أن الانتظار قد طال دون أن يكتمل التحول للحداثة الغربية، حتى أيقنا أن ما ظنناه تطوراً انتقالياً هو أقرب لتركيبة اجتماعية راسخة تعيد إنتاج نفسها، وأن ما نشاهده في المجتمعات غير الغربية ليس انتقالاً في اتجاه أي صورة مسبقة رسمتها الحداثة الغربية، ولكنه هو نفسه صيغة ما بعد المجتمع التقليدي في هذه المجتمعات. ولكن هل هناك بعد التقليدية سوى الحداثة، وأليس ما نشهده في المجتمعات غير الغربية هو الحداثة الخاصة بهذه المجتمعات، وأن هناك نماذج عدة للحداثة، وليس فقط حداثة غربية واحدة، وأن كل مجتمع ينتج الحداثة التي يطيقها والمتناسبة مع تاريخه واقتصاده وثقافته.
لكن ألا تقود هذه النظرة إلى إهدار القيمة التحليلية لمفهوم الحداثة، بتحويله إلى مفهوم شديد الاتساع، يجمع بين مجتمعات ثرية وديمقراطية، وأخرى فقيرة وسلطوية؟ يعيدنا هذا الاعتراض إلى نقطة بداية ضرورية تتعلق بما هو جوهري في المجتمع الحديث، وهذا يعيدنا إلى دانييل ليرنر مرة أخرى؛ فالحداثة في رأيه هي حالة ثقافية نفسية تزيد فيها تطلعات الناس وتوقعاتهم بمعدلات سريعة. المجتمع الحديث، إذن، هو مجتمع تتسارع فيه التطلعات والتوقعات، وهذا أمر تشترك فيه كل المجتمعات. غير أن المجتمعات تختلف في أمرين مهمين، الأول هو الآليات المؤدية لرفع التوقعات، والآخر هو المؤسسات والسياسات التي يتم تطويرها من أجل التعامل مع التوقعات المتزايدة. وباختلاف التوليفات المختلفة من الأليات والمؤسسات تتكون نماذج مختلفة للحداثة.
تحولات ثلاث كبرى صنعت الحداثة الغربية: تحول فكري تمثل في التنوير، تحول سياسي مثلته الثورة الفرنسية، وتحول اقتصادي مثلته الرأسمالية والثورة الصناعية. الانتصار للعقل ضد الميتافيزيقا هو أهم ما ميز التنوير، وعنه تفرعت مبادئ حرية الفكر والاعتقاد من أجل تحرير العقل من القيود، وعنه أيضاً تفرع اعتقاد بأن المجتمع قابل للتشكل، وأنه من الممكن بناء المؤسسات التي تحقق رفاهية وحرية الفرد، وأن قوة العقل والعلم قادرة على تحويل المجتمع.
بعد هذا جاءت الثورة الفرنسية. فبينما كان التنوير تمرداً ضد الميتافيزيقا والمؤسسات والطبقة اللاهوتية، كانت الثورة الفرنسية تمرداً ضد الأوتوقراطية والأرستقراطية، من أجل تقريب السلطة من الشعب، بل وجعله مصدر السيادة. حروب نابليون الأوروبية هي أوضح تعبير عن العلاقة بين التنوير والثورة الفرنسية، فالأوتوقراطيون الأوروبيون الذين اجتمعوا في الحلف المقدس ضد نابليون لم يكونوا أقل إيماناً من الفرنسيين بمركزية العقل، فلقد انتشر التنوير بين الطبقات الحاكمة والمتعلمين في بلاد القارة الأوروبية وأصبح موضة العصر الفكرية حتى قبل الثورة الفرنسية، أما الحرية والمساواة ونقل السيادة للشعب فهذه قضية أخرى، لم تصل إلى أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية، رغم خسارة نابليون حروبه الأوروبية.
التنوير صاغ العقل الأوروبي الحديث، والثورة الفرنسية شكّلت مؤسساته السياسية، أما الرأسمالية والصناعة فقد صنعتا له قاعدة لإنتاج ثروة مادية وفيرة أتاحت إمكانية الاستجابة للتطلعات المتزايدة.
هذه هي القوى التي صنعت الحداثة الغربية، فما هي القوى التي صنعت الحداثة في الخبرات غير الغربية؟ وكيف أثر اختلاف القوى الصانعة للحداثة غير الغربية في المنتج النهائي لهذه الحداثة. لدينا حداثة غربية تطورت إلى الديمقراطية الليبرالية. لدينا حداثة آسيوية جاء التغيير والمبادرة فيها علوياً من السلطة. ولدينا حداثة عالم ثالثة كان مصدر التغيير فيها خارجياً. في نموذج الحداثة الغربية تم تحرير الفلاحين من العمل في الأرض، فذهبوا إلى المدينة وعملوا في المصنع، فنشأت طبقات عاملة. في نموذج آخر للحداثة ترك المتعلمون من أبناء الفلاحين الريف، وانتقلوا للمدينة، ليصبحوا موظفين إداريين في الجهاز الإداري للدولة، فنشأت طبقة بيروقراطية. أنتج عمال المصانع آيديولوجيا الاشتراكية لتدافع عن مصالح العمال وحرية التنظيم النقابي والحزبي والعمل السياسي. أنتج البيروقراطيون عقيدة دولتية، تضع الدولة فوق المجتمع، والاستقرار قبل الحرية. نقاط بداية مختلفة، ومسارات متباينة، ونماذج متعددة للحداثة.
أنتجت الحداثة في كل نماذجها ثلاثة منتجات رئيسية، كل منها هو مجال للاعتقاد والفعل الاجتماعي. هناك أولاً اتجاهات الأفراد وقيمهم، وهناك أيضاً مؤسسات سياسية تتولى التنظيم الاجتماعي وإدارة السلطة والرفاه المشترك، وهناك أخيراً نظام لإنتاج الثروة المادية وتوزيعها. مقارنة هذه المكونات/المجالات بين المجتمعات المختلفة، والطريقة التي تتمفصل بها هذه المجالات مع القوى المحددة الصانعة للحادثة في كل تجربة يتيح لنا منهجاً لتصنيف النماذج المختلفة للحداثة.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.