عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
TT
20

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير.
ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها.
فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً. تتحلل بقدر الله وتتبد أبداً، لتخلق بفوضاها نظاماً دقيقاً معجزاً، ليكون قدر ذاك النظام الدقيق المعجز أن تمضي فيه سنة الاهتراء والإهلاك حتى يفنى».
إذن هو نظام مُحكَمٍ خُلِقَ وكأنه من فوضى، ليهترئ إلى فوضى عارمة - وكأنها لا تفضي إلى نظام - حتى يكون في تحلله واهترائه فناؤه ونهايته نحو «مُفردة» جديدة، ليكون خلقاً جديداً، ليكون بعثاً جديداً، ليكون «البعث الحق» كما نص التنزيل الحكيم، تلك هي قصة الكون كما تتلمسها عقولنا الآن.
خالقُ فرد «واحد» في عدده. متفرد «أحد» في كيفه. «صمد» لا يعتريه تغير ولا يطال كماله نقص، خلق كل الشيء المتعدد على غير تفرد ولا كمال، كل الشيء يهترئ ويتغير ويهلك إلا وجهه، «فكل شيء هالك إلا وجهه».
خلق لكل شيء جَدَلَهُ، وخلق الإنسان الذي هو «أكثر شيء جدلاً».
سابين هوسينفلدر، العالمة الألمانية وصاحبة كتاب «الفيزياء الوجودية»... تتساءل في إطار ما أسمته فيزياء «الوقت والإهلاك والخلود»، لماذا نهرم ونشيخ كلما مرَّ علينا الوقت، لماذا لا نصبح أكثر شباباً أو نبقى على حالنا دونما تغير؟
تتساءل عن ذاك السر الغامض - أو قل التناقض - في أسس علم الفيزياء. تلك التي تقول إنه بالنظر إلى القوانين التي تحكم الأجسام المجهرية المكونة للمادة، كالجزيئات الأولية، فهي قوانين تصح دلالاتها ونتائجها في أي اتجاه للزمن المستقبل كان أو الماضي.
ورغم أننا نحن البشر وكل مخلوق حولنا من نبات وجماد بل وعوالم وأكوان، كل ذلك خلق من ذات الجزيئات الأولية، فإنه لا يصح فيه ذات الحكم لذات القوانين، وتبقى معضلة التزمن حاكمة فينا.
نحن رهينة تيار الزمان الذي يجرفنا ولا نملك منه فكاكاً ولا له مقاومة أو إيقافاً. إننا نسبح في اتجاه واحد للزمان وكأننا مقيدون بسلاسل من زمن تدفعنا نحو المستقبل على سهم من الوقت يسير نحو الأمام وليس أبداً إلى الخلف.
تتغير أماكننا. تتغير قراراتنا ورغباتنا. تبقى أمنياتنا متعلقة بأهداب أمل بالية ترجو ألا نَهرم وألا نشيخ، وألا يطالنا فعل الزمن كما نعيه ونسميه ونقر به، ولكن نبقى رهائنه، مدفوعون به.
نحن لم نَعِ من حياتنا إلا أن ما مضى قد مضى، وأن كل فعل جرى قد انقضى، لا نملك له نسخاً وعَوداً لما كان.
فإن سقط منا حجر في الماء نعلم يقيناً استحالة أن يعود أدراجه من الماء إلى أيدينا. وإن اشتعل عود ثقاب قُدَّ من جذع شجرة اجتثها حطاب في غابة. نعلم أنه من «الجنون» كما نظن أن نرى تداركاً فيزيائياً يسمح لنا أن نلج باباً نخبر فيه عود الثقاب - وبفعل ممارسات إنسانية شبيهة كالتي أتت به مشتعلاً - ينطفئ ملتئماً مستعيداً مادته الأولى وهيئته الأولى، ثم ما يلبث أن يلتحم بجسد الجذع الذي قُدَّ منه مُستعيداً أصل موضعه... ثم ما يلبث ذلك الجذع أن يهتدي لجِذره فينتصب به حياً رياناً في تربة غابته التي كانت.
إذن ما الذي يجري وقوانين الفيزياء التي تحكم جزيئات الطبيعة في كل خلق الله واحدة، ذهاباً وإياباً، ماضٍ ومستقبل، لا تنطبق على ذاك الخلق ذاته.
قال الفيزيائيون إن الإجابة في تراتبية تلك الجزيئات في حال المخلوق الواحد. فالماء هو الماء أكان ثلجاً صلباً. أم رقراقاً يسري. أم بخاراً يحمله السحاب. الفارق أن تراتبية جزيئات الماء في كل حال من صلب لسائل لغاز قد اختلفت وتغيرت. أو كما يقولون تغيرت «الإنتروبيا». تغير الترتيب بين نظام وتراتبية، وبين فوضى وعشوائية. بين تماسك وبين إهلاك.
وتلك «الإنتروبيا»... تلك الفوضى والعشوائية ومغادرة النظام والتراتبية، في زيادة لا تنتهي أبداً. كسهم الوقت وسريانه لا نملك لها منعاً ولا تحولاً. وإن قد نملك لها إبطاءً!
إذن هكذا ستنتهي الأكوان. إنتروبيا الكون في زيادة أبدية. إذن هو إهلاك وشيخوخة وفقدان قدرة وفقدان طاقة حتى يتحلل كل شيء وتنطفئ كل جذوة طاقة في كل كون. ليكون هناك خلق جديد. بعث جديد. بعث حق. لا هلاك بعده ولا تحلل فيه.
هل استسلم الإنسان لذلك؟ أكاد أقول إن علماء الأحياء ما زالوا يعملون بجد في أبحاث ترجو تأجيل الشيخوخة أو منعها. علماء الفيزياء يقولون تلك مهمة مستحيلة.
علماء الأحياء يجادلون، نستطيع أن نقهر الشيخوخة، أن نؤخرها كثيراً على الأقل. أي نستطيع أن نبطئ الإنتروبيا، وأن نخفف الاهتراء وإن لم نوقفهما، وعلماء الفيزياء يقولون، في الكون سيبقى الإهلاك أمضى، حتى وإن قلَّ في خلق سيزيد حتماً في غيره.
حتى الأدب... حينما أراد أن يقرأ في هذا السؤال بفلسفة خيال الأديب، وقف منه موقف الحائر العاجز لا تسعفه شطحات الخيال... فها هو إسحق أزيموف في روايته الخيالية «السؤال الأخير»، يضع بطل روايته أمام حاسوب ليسأله: «هل هناك وسيلة لنوقف التحلل والإهلاك وفوضى الجزيئات في الكون؟ هل ممكن أن نوقف الإنتروبيا في الكون الكبير كي لا يشيخ؟»، وعلى مدار مليارات السنين - كما يصفها خيال الأديب - تأتي إجابة الحاسوب، أن ليست لديه معلومات كافية للإجابة عن السؤال.
يبقى الحال في خيال الأديب هكذا إلى أن تحلل كل شيء وخمدت كل طاقة، وفني كل نجم وبقي في الكون ظلام بلا حياة... فتأتي إجابة الحاسوب «فليكن خلقاً جديداً».
إذن التحلل والشيخوخة والنقص والاهتراء والهلاك. قَدَرُ كل خلق متزمن. قَدَرٌ لا فكاك منه... قدرٌ هو في حقيقته «جدل». صراع ومجالدة ومجادلة بين البقاء أو الهلاك.
هو قَدَرُ صراع المتناقضات في الشيء الواحد. ألم يأتِ في التنزيل الحكيم القول الحق عن «مضغة مخلقة وغير مخلقة» في أطوار خلق الإنسان. وكذلك عن حي يُخلَق من ميتٍ ومَيَّتٍ يُخلَق من حي في الحديث عن أطوار خلق النبات. «إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون».
وهنا نظن الوحي ينتصر لمقاربة الفيزيائيين. بتأكيد صراع المتناقضات في الشيء الواحد، أو قل جدل الطبيعة بين بقاء وهلاك في الشيء الواحد، وبالإقرار بالإنتروبيا حقيقة حاكمة.
ما ذاك الصراع في جُلِ مخلوقات الحق سبحانه، وجدلها السرمدي بين البقاء والهلاك، وما سمي اهتراءً أو تحللاً أو إنتروبيا، إلا عينُ «تسبيح» المخلوق - الهالك المتزمن - للخالق الحق السرمدي المنزه عن كل نقص وكل هلاك.
وهو ذات الصراع وذات الجدل وذات التسبيح، الذي يعطي للزمن معناه وحقيقة وجوده.
ولأن الله فوق الزمن، وسبحانه أن يتزمَّن والسموات والأراضين يتزمَّنّ.
ولأنه سبحانه سرمدي منزه عن النقص وعن الهلاك، وكل شيء هالك إلا وجهه.
والأكوان بما فيها ومن فيها - السماوات السبع والأرض ومن فيهن تهترئ وتتحلل وتفنى بفعل الإنتروبيا. إلا هو سبحانه.
ففي عين تنزههه عما يُلِمُ بخلقه عينُ تنزيههم له. «عين تسبيحهم له». وإن لم نفقهه.
«تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً»
سبحانه من خلقنا إنساناً يُسبحِه فطرة... حين أمضى فينا جدل الطبيعة، شيخوخة واهتراءً وتزمناً.
ويسبحه عقلاً. حين قدرت حِكمَته أن نقارب بعقولنا الحق قبولاً وإعراضاً، فكان لنا فوق جدل المخلوقات جدل ليس لغير الإنسان منه حظ التكريم... وليكون «الإنسان أكثر شيء جدلاً».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

إيران خارج مطبخ الانتخابات العراقية... «لكنها في المنزل»

رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
TT
20

إيران خارج مطبخ الانتخابات العراقية... «لكنها في المنزل»

رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)

تسمح إيران بحلبة مفتوحة لنزالات القوى الشيعية قبل أشهر من الانتخابات العراقية، وفي حين لا تتدخل كثيراً في التفاصيل بسبب انكفاء محورها، فإنها تتأهب بـ«الخطة ب» عن بُعد، لمنع اقتتال بين جماعاتها وتحسباً لعودة التيار الصدري، إذ تحاول قدر الإمكان عدم الظهور بوضوح أمام أعين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في دوائر بغداد.

ومنذ إعلان تحالف «الإطار التنسيقي» قراره بالتفرق إلى قوائم في الانتخابات المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدا أن قطبين رئيسيين يتنافسان على أصوات الجمهور الشيعي، وهما رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني والأسبق نوري المالكي، في معركة تقليدية «قد تخرج عن السيطرة»، كما يقول قيادي بارز في «حزب الدعوة الإسلامية».

ويقول أشخاص يعملون في «مطابخ انتخابية» لقوى كبيرة في التحالف الشيعي، إنهم يلمسون تراجع إيران في مكاتبهم، إذ لا يشعرون «للمرة الأولى» بضغطها في رسم التحالفات، لكنهم موجودون فعلاً لحماية الحلبة من الاقتلاع «لو هبّت رياح عاتية».

الحال أنها المرة الأولى في كل شيء؛ إذ يتسرّب إلى بغداد أن إيران قد تقدم المزيد من الأضاحي لحماية النظام، وقد تكون فصائل عراقية من بينها بعد تداعي «الحوثيين» في اليمن، بينما يصل إلى طهران عن الجماعات الموالية أنها تريد حماية مصالحها بالانخراط أكثر داخل المؤسسات الحكومية «حتى لو تطلّب ذلك التخلي عن السلاح مؤقتاً».

وثمة اشتباك عراقي - إيراني «بارد» حول الانتخابات ربطاً بمصير مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، لكن الطرفين متفقان على أن «كل ما يجري وسيجري أمر مؤقت للضرورة».

في 25 أبريل (نيسان) 2025، وصف المرشد الإيراني علي خامنئي المحادثات بين بلاده والولايات المتحدة بـ«الوضع المؤقت». وقال، خلال مجلس عزاء في طهران، إن «هذا التسلّط للنفاق ليس قدراً دائماً، بل هو مؤقت ضمن تقدير إلهي».

قبل ذلك، كانت مصادر عراقية أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن فصائل عراقية حصلت على «فتوى»، من المرشد الإيراني علي خامنئي، تُجيز مناورة ضغوط يفرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وأظهرت مقابلات حديثة أجرتها «الشرق الأوسط» مع سياسيين عراقيين أن «حرية الحركة» تسمح الآن بوضع يشبه «المصارعة الحرة»، وقد يتفاقم إلى سيناريو يشبه اشتباكات المنطقة الخضراء في سبتمبر (أيلول) 2022، حين اقتحم أنصار مقتدى الصدر المنطقة المحصّنة، احتجاجاً على منعهم من تشكيل حكومة أغلبية بعيداً عن «الإطار التنسيقي». وأفادت تلك المقابلات بأن «إيران خرجت من مطبخ الانتخابات مؤقتاً لكنها موجودة في المنزل».

أنصار الصدر داخل البرلمان العراقي في يوليو 2022 (رويترز)
أنصار الصدر داخل البرلمان العراقي في يوليو 2022 (رويترز)

خريطة «سيّالة»

في 10 أبريل (نيسان) 2025، كشفت «الشرق الأوسط» أن قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري»، الجنرال إسماعيل قاآني، ترك في العاصمة بغداد فريقاً مصغّراً لإدارة ملفات سياسية، من بينها الإشراف على تحضيرات القوى الشيعية للانتخابات البرلمانية.

بعد أسبوعين، قرر «الإطار التنسيقي» خوض الانتخابات متفرقاً إلى قوائم، وهذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها التحالف الحاكم إلى هذا التكتيك، محكوماً بقانون انتخابي يقسم البلاد إلى دوائر، فضلاً عن تضارب مصالح بين القوى المتنافسة.

بحسب سياسيين كلفتهم أحزابهم وضع خطط أولية للانتخابات، فإن الفريق الإيراني لم يظهر كثيراً في مطابخ «الإطار التنسيقي». يقول القيادي في حزب الدعوة إن «طهران التي تمرّ بلحظة حساسة، تنشغل بحماية نظامها وتاريخها السياسي»، لهذا «تكاد تختفي من المشهد في بغداد».

ساعد هذا «الاختفاء»، كما يزعم القيادي الشيعي، قوى «الإطار التنسيقي» على التصرف بحرية أكبر في صياغة التحالفات، رغم إقراره بأن «العمل في غياب المشرف له مخاطره».

يتحرك «الإطار التنسيقي» في خريطة سيّالة. في الأسبوعين الماضيين، عقد ممثلو أحزاب شيعية اجتماعات لرسم التحالفات، فشل كثير منها في تشكيل قوائم تجمع حزبين أو أكثر بعد مدٍّ وجزر.

اقترب محسن المندلاوي، النائب الأول لرئيس البرلمان، من نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون»، ثم ابتعد. كذلك، وجد هادي العامري، وهو رئيس منظمة «بدر»، نفسه قريباً من رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، قبل أن يتصادما ويتفقا على الافتراق، وقد يعودان.

بهذه الطريقة، تسيل القوائم دون إقفال حاسم حتى الآن. يقول هشام داود، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، إن «المجتمع السياسي الشيعي في العراق عرف أول انقسام كبير له عام 2009. حينما عبّر المالكي عن رغبته في خوض الانتخابات بمفرده لفرض قيادته على الحلفاء، ثم عاد التحالف الشيعي تحت ضغوط إيرانية وتزايد الخطر الذي مثله وقتها تحالف «العراقية» بقيادة إياد علاوي.

من الطبيعي أن يتعرض «الإطار التنسيقي»، اليوم، إلى عملية تفكك أخرى، يراها هشام داود متزامنة مع ضغوط إقليمية ودولية، وتغييرات أكثر عمقاً في المنطقة، منها حرب غزة، وتلقي «حزب الله»، في لبنان، ضربة موجعة، والانهيار المدوي لنظام الأسد في سوريا، وتعرض الحوثيين للمزيد من الهجمات في اليمن.

ويتساءل الباحث العراقي عما يعنيه ذلك إيرانياً من إعادة طرح العديد من الأسئلة ذات الطبيعة الاستراتيجية: كيف يمكن الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية في العراق؟

«ربما لا تريد هذه المرة»، يقول القيادي في «الدعوة» المقرب من المالكي، إن «إيران تحاول إيصال رسائل بأنها لا تتدخل في الشأن العراقي، وأنها منهمكة في حماية النظام، وفي إدارة تحوّل جديد بالسياسة الخارجية». ويقول قيادي شيعي آخر: «إيران تترك حلفاءها يتنازعون قبل الانتخابات، لأنها متأكدة من عودتهم إليها؛ إذ إنها الوحيدة القادرة على (مسك النهايات)».

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

العراق بوصفه من «أضاحي إيران»

يعتقد القيادي في «الدعوة» أن إيران «في سبيل منع إسقاط نظامها السياسي مستعدة لتقديم الأضاحي بعد سوريا ولبنان واليمن، حتى لو كانت الأضحية الجديدة في العراق، وذلك لدفع ضرر كبير»، لكنه يشدد على أن «الإيرانيين لا يتغيرون، ولن يقتنعوا يوماً بالانكفاء عن المنطقة، وسيعودون يوماً».

يشكك كثيرون بهذا الغياب. ثمة مصالح في العراق يجب أن يبقى أحد «من إيران» لرعايتها. يقول أشخاص من «الإطار التنسيقي» تحدثت معهم «الشرق الأوسط»، بشرط عدم الكشف عن أسمائهم، إن لإيران دوائر مختلفة تتعاطى مع الملف العراقي: «هناك (قوة القدس)، و(الحرس الثوري)، وجهاز (الاستخبارات)، إلى جانب مكتب المرشد علي خامنئي، وحتى شخصيات في عائلته، كلها دوائر معنية بالانتخابات العراقية»، وكل «طرف لديه تفضيلات ومصالح».

يقول الباحث هشام داود إن «العراق بالنسبة لإيران ليس سوريا ولا حتى لبنان؛ هو السوق التجارية الأوسع لإيران، والممر الجغرافي نحو البحر المتوسط».

بالفعل، ثمة لقاءات عقدها أعضاء في فريق قاآني مع سياسيين شيعة للتأكد من أن «كل شيء تحت السيطرة». يقول مفاوضون عن أحزاب شيعية تعمل على تشكيل التحالفات إن «الإيرانيين مَوجودون بالفعل، لكنهم يراقبون الانتخابات عن بُعد، ولديهم تفضيلات تتعلق بأمرين: تقليل عدد القوائم لتجنب التشظي، وإدراج الفصائل المسلحة الأساسية في التحالفات الكبيرة».

سألت «الشرق الأوسط» ممثلي فصائل ما إذا كانوا يشاركون في الانتخابات، كانت الإجابة أنهم لم يقرروا بعد، أو أنهم غير معنيين بها. يقول كاظم الفرطوسي، القيادي في «كتائب سيد الشهداء»، إنهم «لا يسلمون بالاشتراك في الانتخابات رغم قناعتهم بأنها أساس النظام السياسي في البلاد».

استعراض لعناصر من فصيل «النجباء» في بغداد (موقع الحركة)
استعراض لعناصر من فصيل «النجباء» في بغداد (موقع الحركة)

«كَبُر الأولاد»

لا يتراجع حجم التأثير الإيراني بسبب تراجع محور المقاومة فقط، بل لأن «الأولاد كَبُروا»، كما يصف الباحث هشام داود الميليشيات والفصائل؛ إذ «باتت لهم قواعد زبائنية ومصالح محلية ضاغطة داخل العراق، لا يمكن ضمانها فقط بالتبعية المطلقة لإيران».

يقول داود، المتخصص في الأنثروبولوجيا السياسية: «حتى الأمس القريب، كانت الفصائل والأحزاب الموالية لإيران أكثر استجابة لضغوط طهران. كان هناك تناغم بين المصلحة الإيرانية وواقع الفصائل العراقية، التي لم تمتلك وقتها قاعدة اجتماعية، ولا مصادر مالية، ولا خبرة عسكرية كافية».

تشكل هذه الفصائل اليوم الجزء الأساسي من حكومة السوداني: «بدلاً من أن تكون خارجها أو موازية لها»، بحسب الباحث داود الذي يرجح أن «تضع التغييرات ذات الطبيعة البنيوية العميقة الفصائل العسكرية العراقية أمام خيارات حادّة: إما الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية مقابل تسريح مجاميعها المسلحة ودمجهم كموظفين وعاملين في آليات الدولة، أو تعرضهم لتهديدات إقليمية ودولية، خصوصاً بعد الزلازل في سوريا».

لهذه الفرضية انعكاس واقعي داخل «الإطار التنسيقي»، حين تظهر أحزاب شيعية في حلبة مفتوحة بقواعد اشتباك أقل تحفظاً، وفقاً لسياسيين شيعة أكدوا أن «النزالات تخضع لرقابة إيرانية عن بُعد».

محمد شياع السوداني يتوسط نوري المالكي ومسعود بارزاني في بغداد (إعلام حكومي)
محمد شياع السوداني يتوسط نوري المالكي ومسعود بارزاني في بغداد (إعلام حكومي)

نزال المالكي – السوداني

لم يحتمل «الإطار التنسيقي» إخفاء النار التي تغلي تحت مكاتبه. وفي مطلع يناير (كانون الثاني) 2025، منح زعيم «تيار الحكمة»، عمار الحكيم، سياقاً للصراع الشيعي - الشيعي.

قال الحكيم إن قادة أحزاب شيعية يرون أن السوداني، الذي كان يملك مقعده اليتيم، صار رئيساً للحكومة بفضل اختيار «الإطار التنسيقي»، وأن هذا الأخير هو الذي «أخذه إلى هذه الإنجازات».

بحسب الحكيم، الذي يروّج تياره لفكرة «الاعتدال الشيعي»، فإن قادة «الإطار» الناقمين على السوداني يرفضون نزوله من السفينة لقطع تذكرة في رحلة منفردة. يتساءل هؤلاء: «لماذا نأتي بشخص حتى يكبر علينا؟».

من الواضح أنها «عقدة رئيس الحكومة» المتأصلة في المجتمع السياسي الشيعي، كما يصفها مستشار سياسي كان يعمل في حكومات ما قبل 2019. ونوري المالكي أحد المتأثرين بها، الذي يريد الآن «وصاعداً» منع رئيس الحكومة من استثمار هذا المنصب، ربما لأنه أدرك تأثيره وسحره الذي يؤثر في كل مرة على نتائج الانتخابات.

يقول المستشار (الذي طلب عدم الكشف عن اسمه بسبب حساسية سياسية) إن السوداني يستنسخ المالكي الأول (حكومة 2006 - 2010)، إذ كان الأخير يستثمر في دولة مركزية وقطاع عام يقدم ولاءات حصرية للمنصب.

إلا أن السوداني عمّق قلق الإطاريين. يقول القيادي في حزب «الدعوة الإسلامية»، إن المالكي مثلاً «لا يشعر بالارتياح منذ فترة لطريقة تعامل السوداني مع مجلس الوزراء، الذي يحتاج إلى إشراكه في آليات إصدار القرار، حتى وصلنا اليوم إلى أن نعيش مع رئيس حكومة «مطلق اليدين».

يعتقد القيادي المنتمي إلى حزب المالكي أن السوداني تجاوز الخطوط التقليدية المتفق عليها داخل «الإطار التنسيقي» في إدارة الحكومة. لقد «سافر إلى قطر والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، دون أن ينسق مع التحالف الحاكم، متحولاً إلى نقطة التقاء إقليمية».

يرجح القيادي في «الدعوة»، بلهجة «أعرف ما سيحدث»، أن تنفجر بوجه السوداني ألغام «سيحتاج إلى كثير من القوة لعبورها بسلام قبل الانتخابات».

الحياة السياسية العراقية معتادة على الألغام. ثمة خبرات متراكمة في زرعها أو إزالتها قبل التفجير، لكن السوداني يجرب الأمر للمرة الأولى، وفي رأسه خطط متضادة ومزدحمة، كما يصف سياسي مطلع.

يقول السياسي لـ«الشرق الأوسط»، إن إيران المتراجعة تلعب أدواراً دقيقة للغاية في التأثير على التحالفات؛ إذ تفرض على السوداني قوى مسلحة لضمان حمايتها، إذ إن طهران تتعامل مع رئيس الحكومة بوصفه رقماً صعباً فلماذا تخسره؟

رفض أعضاء في «تيار الفراتين» الذي يتزعمه السوداني التعليق على خططه الانتخابية، إلا أن مصادر مطلعة على مفاوضات تشكيل التحالفات قالت إن رئيس الحكومة اصطدم مع رئيس منظمة بدر، هادي العامري، حول زعامة التحالف المفترض بينهما.

وفق المصادر، فإن السوداني اشترط زعامة التحالف على حساب العامري المخضرم، وأن يقر بدعم ولاية حكومية ثانية.

شيء تعجيزي ينبض في هذه الشروط. يعتقد سياسيون ضالعون في المفاوضات الانتخابية أن السوداني يريد التخلص من الجيل الأول من قادة «الإطار التنسيقي»، لا سيما الذين تفوح من مكاتبهم رائحة «طوفان الأقصى»، لكن المصادر تقول إن رئيس الحكومة يدرك الألغام فيجذب إليه حلفاء يقدمون الحماية.

عادل عبد المهدي خلال جنازة سليماني في بغداد - 4 يناير 2020 (أرشيفية - رويترز)
عادل عبد المهدي خلال جنازة سليماني في بغداد - 4 يناير 2020 (أرشيفية - رويترز)

«ليس مهماً لون القطة»

تعلمت إيران درساً من ولاية عادل عبد المهدي (2018 - 2019)، التي يراها تيار احتجاجي ومدني عراقي «مأساوية». يومها كانت طهران في ذروة شعورها بالغرور وتريد السيطرة على غرب آسيا بعد تصفير المصالح الأميركية، كما يقول المستشار العراقي السابق.

في الفترة التي تولى فيها عبد المهدي، القيادي المخضرم المتحدر من «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي تشكل في إيران عام 1982، كانت طهران تجني ثمار إعادة تموضع الفصائل الموالية لنظام «ولاية الفقيه». لقد تمددت الكيانات الموازية على الكيانات الأصيلة، لولا احتقان الشارع، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الذي أحدث اختلالاً نسبياً في علاقات النظام السياسي العراقي، رغم مقتل أكثر من 600 شاب عراقي.

لاحقاً، بدا أن إيران أدركت خطأها في التفرُّد التام بمسرح العراق، وأن عليها العودة إلى الصيغة القديمة. يقول الباحث العراقي هشام داود، إن «طهران أفلحت، منذ 20 عاماً، بإقناع أو إجبار واشنطن بأنه من الأفضل للطرفين أن يديرا معاً الشأن العراقي، وأن هذه الثنائية لإدارة الشأن العراقي هي التي تكون مسؤولة عادة عن إدخال بعض التغييرات والتموضعات في الحياة السياسية العراقية».

يصف المستشار السابق الأمر بالنسبة للإيرانيين مع الوضع الحساس مع النفوذ الأميركي بأنهم «لا يكترثون بلون القطة، المهم أنها تعرف كيف تمسك بالفأر»، ويضرب الحرب على «داعش» مثالاً على ذلك. ويتذكر المستشار حدثاً مماثلاً حين أفتت إيران لفصائل عراقية قبل عام 2003 بأن «أميركا شيطان أكبر، وستبقى كذلك، لكن لا بأس من التعاون مع هذا الشيطان لإسقاط نظام صدام حسين». قطعت هذه الفتوى تذاكر سفر لمعارضين شيعة نحو واشنطن تحضيراً لحرب الخليج الثانية.

في الضفة الاخرى، يتشجع كثيرون من السياسيين المحسوبين على الشيعة العلمانيين للقول إنها «لحظة يفرضها ترمب». أحد هؤلاء يقول لـ«الشرق الاوسط» إنه زار واشنطن مرتين قبل تنصيب الرئيس الأميركي وبعده في يناير (كانون الثاني) 2025، إن «الانتخابات المقبلة يجب أن تتأثر بتحولات المنطقة، وإلا فسيخرج العراق من مسرح الشرق الأوسط الجديد».

المرشد الإيراني علي خامنئي قال إن ما يجري «أمر مؤقت بتقدير إلهي» (موقع المرشد)
المرشد الإيراني علي خامنئي قال إن ما يجري «أمر مؤقت بتقدير إلهي» (موقع المرشد)

إيران: «الخطة ب»

ثمة تفسيران لدور إيران في العراق هذه الأيام، يفيد الأول بأنها «لا تظهر أمام أعين الإدارة الأميركية في بغداد لإقناعها بأن الساحة لها، وأنها تركز على المفاوضات»، بينما يقول الثاني إن «إيران منهكة ولديها داخلياً ما يكفيها، لكنها ستعود».

لكن فريق قاآني «يضبط حسابات (الخطة ب) في بغداد»، كما يقول سياسيون شيعة. وتفيد إشارات محدودة تسربت من اجتماعات نخبة شيعية في بغداد بأن طهران تريد الآن 3 أمور أساسية قبل الذهاب إلى الانتخابات: «أن تمنع في لحظة ارتخاء الحبل بروز تيار شيعي قد يتحول مستقبلاً إلى خصم، وهذا محكوم بتاريخ طويل من الحساسيات، وأن تحمي المساحة المصممة والمحددة للتنافس الانتخابي بين القوى الشيعية في العراق، وأن تحافظ على حيوية السوداني والمالكي معاً حتى لو تصارعا؛ إذ سيكون الأول خياراً استراتيجياً في حال نجحت المفاوضات مع الأميركيين، والثاني سيكون مهماً في حال فشلت».

يقول القيادي في حزب الدعوة إن «إيران تحول دون انتقال التنافس الشيعي - الشيعي إلى الاقتتال، لكنها في (الخطة ب) ستنحاز حتماً إلى أحد القطبين لو عاد التيار الصدري إلى الانتخابات».

يقول مطلعون على خطط التيار الصدري إن التيار يتعمّد تأجيل إعلان قراره بشأن العودة إلى الانتخابات حتى اللحظات الأخيرة، بهدف تقليل فرص خصومه السياسيين في التحشّد ضده أو الاستعداد لمواجهته.

«ملتقى روّاد الانتخابات»

تتحوّل الانتخابات في العراق إلى ما يشبه «ملتقى روّاد الأعمال»، إذ يشارك الجميع «لزيادة أسهم النفوذ، وبالنسبة لكثيرين جدد فإنها فرصة لدخول نادي الكبار»، وفقاً لتعبير مرشح شيعي شارك في أول دورتين انتخابيتين بعد عام 2003.

يقول المرشح، الذي تقاعد عن العمل السياسي وفضّل مراقبة الأحداث عن بُعد، إن الإيرانيين يواجهون «أولادهم الذين اشتدّ عودهم داخل المؤسسات الحكومية التي توفّر لهم عقوداً وموارد». يقول إن «بعضهم يستطيع اليوم التبرع لـ(الحرس الثوري)، وليس العكس».

هذه الدينامية المعقّدة تُقلق الباحث هشام داود؛ يقول إن «حصيلة 20 عاماً من حاكميّة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي جاءت أكثر من محبطة: اقتصاد ريعي وحيد المورد بالمطلق، غياب تام لرؤية اقتصادية، جهل بفنّ إدارة المجتمعات المركّبة، وعدم معرفة حتى بآليات السوق، بالإضافة إلى صعوبة التواصل مع المحيط الإقليمي والعالمي، والخلط حتى بين سياسة خارجية ودبلوماسية، وتحوّل الفساد إلى منظومة».

وفي الطريق إلى الانتخابات المقبلة، يرى داود أن مسارين متوازيين يتحرّكان معاً نحو موعد الاقتراع المقرّر في نوفمبر 2025: «الفشل في بناء نموذج دولة بإدارة عقلانية، وضغوط إقليمية ودولية لا تتوقّف».