لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
TT

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)
فرنسيون يحملون لافتات كُتب عليها «عار» و«لا مسامحة للمعتدين» أثناء وقفة احتجاجية ضد مواطنهم الممثل جيرار ديبارديو خارج مسرح سيباستوبول... حيث قدم عرضاً في ليل (شمال فرنسا) في 19 أبريل 2023. وكانت عشرات النساء اتهمن الممثل الفرنسي المخضرم بارتكاب أعمال عنف جنسي في حين ترجع بعض المزاعم اعتداءاته الجنسية إلى عقود وفقاً لتقرير صادر عن موقع «ميديابارت» الإخباري الاستقصائي الفرنسي (أ.ف.ب)

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة. كانت الغنيمة التي خرجت بها الفتيات من بيت الضحية 10 دولارات، بالإضافة إلى سرقة سيارتها.
قبضت الشرطة على بولا، وتم التحقيق معها وتقديمها للمحاكمة وسط أجواء مشحونة بالتوتر في المدينة. وكما كان متوقعاً، حكمت المحكمة على بولا بالإعدام، لتصبح أصغر سجين محكوم بالإعدام في الولايات المتحدة. في عام 1986، كان القانون في ولاية إنديانا يسمح بمحاكمة المتهمين بعمر 10 سنوات كبالغين، وبالتالي يمكن أن يواجهوا عقوبة الإعدام. ورغم أن الفتاة قاصر لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وهي طالبة في المرحلة الثانوية، فإن أحداً لم يستنكر الحكم عليها بالإعدام.
لكن بسبب التغطية الإعلامية للقضية، سرعان ما تحولت قضية بولا إلى قضية عالمية. قامت منظمة العفو الدولية بحملة من أجلها، وتم تقديم مليوني التماس إلى المحكمة العليا في ولاية إنديانا، وأرسل البابا يوحنا بولس الثاني مبعوثاً من الفاتيكان للمطالبة بإنقاذ حياتها. لكن السبب الرئيسي في إطلاق الحملة لإنقاذ بولا كان يُدعى بيل بيلك – حفيد الضحية روث بيلك. كان بيل شاباً مسيحياً متديناً ومحارباً قديماً في فيتنام. وكان بيل يعتقد بأن جدته كانت متسامحة وأنها لم تكن لترغب في رؤية هذه الفتاة الصغيرة تُعدم. حاول زيارتها في السجن، لكن لم يُسمح له بذلك - كان السماح للقتلة المدانين برؤية أفراد أسرة ضحيتهم مخالفاً للقانون. لذلك؛ تبادل بيل وبولا الرسائل على مدى سنوات. عندما تم تخفيف عقوبة الإعدام بحق بولا البالغة من العمر 19 عاماً إلى السجن 60 عاماً في يوليو (تموز) 1989، كانت الكلمات الأولى لبيل هي «الحمد لله!» وفي 17 يونيو (حزيران) 2013، تم إطلاق سراحها بسبب السلوك الجيد، وكان عمرها 43 سنة. ولكن بعد سنتين فقط، قررت بولا الانتحار وأنهت حياتها بيدها.
لنعد الآن إلى الفترة التي أعقبت الحكم على بولا بالإعدام لمناقشة الفكرة الأساسية لهذا المقال: التسامح والغفران.
بينما كانت بولا تنتظر تنفيذ حكم الإعدام، أثار مصيرها جدلاً حول قيمة الحياة البشرية: ما الذي نطالب به عندما نطالب بالعدالة؟ هل الغفران عمل يأس أم شجاعة عميقة؟ مع تعمق صداقة بيل وبولا، تتطلب قصتهم منا التفكير في أفعال التسامح والتعاطف القوية التي قد نكون قادرين عليها. إن الغفران ومسامحة من أساء إلينا، سواء كان الدافع لذلك دينياً أم إنسانياً، هو الطريق إلى تحويل الحياة إلى مسار جديد وإعطائها معنى جديداً. في كتاب «سبعون في سبعة: قصة حقيقية عن القتل والرحمة» (بنجوين بريس 2023)، ينسج الكاتب أليكس مار سرداً لا يُنسى عن جريمة بولا العنيفة وعواقبها. الكتاب يقدم قصة عن إرادة الحياة، وحول ما نحن على استعداد لقبوله على أنه عدالة. هذا الكتاب، الذي تم بحثه وكتابته بدقة، يقدم فصلاً مؤلماً في تاريخ نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة، لكن آفاق الكتاب والأفكار والقيم التي يناقشها تتجاوز كل الحدود.
نحن نعاني في مجتمعنا المعاصر ضغوطاً كثيرة ونتعرض لمواقف صعبة ولإساءات أحياناً من أقرب الناس إلينا. ويسعى كثير منا إلى أساليب كثيرة للتعاطي مع هذه المواقف، ونحن هنا لا نتحدث عن الغضب والتفكير بالانتقام، بل عن كيفية السيطرة على الغضب والتسامح. يلجأ الكثيرون إلى الروحانيات والتعاليم التي تحث على التسامح والغفران في جميع الأديان للمساعدة في تجاوز حالات الغضب والإحساس بالظلم، في حين يلجأ آخرون إلى أساليب أخرى، مثل اليوغا والتأمل.
ولكن ماذا يعني الغفران والتسامح أساساً؟
يشير العديد من الفلاسفة الغربيين إلى أن مفهوم التسامح يعني التغلب على الاستياء، والذي يتحقق من خلال السيطرة على الذات والتسامح مع الآخرين. لكن هذا التفسير يترك مجالاً للنقاش العلمي: هل الغفران فعل أم شعور؟ هل يتطلب منا أن ننظر إلى المسيء بمحبة، أم أن مجرد التغلب على رغبتنا في الانتقام كافٍ؟
نحن أناس غير كاملين نعيش في عالم غير كامل، ومع ذلك، فإننا نتوقع علاقات مثالية. عندما يخفت ضوء الحب، تصبح النزاعات أمراً لا مفر منه. الغفران هو المرهم الذي يشفي من خيانة الحب، لكن قلة من الناس يعرفون ما يعنيه التسامح، ناهيك عن معرفة كيفية التسامح. الغفران يتطلب الانضباط وقوة الشخصية. تحدث الخيانة عندما نتوقع من الناس أن يتصرفوا بطريقة معينة وهم لا يفعلون ذلك. لا يمكن أن تحدث الخيانة إلا عندما توجد علاقة ثقة، فلا يمكن للأشخاص الذين لا نثق بهم أن يخونونا لأنه ليس لدينا توقعات سلوكية. من دون توقعات، المسامحة ليست ضرورية. لا تقتصر الخيانة على الصداقة ومصالح الحب، حيث تكون التوقعات السلوكية متأصلة في تلك العلاقات. نحن نشكل علاقات ثقة مع المجتمع ككل. نتوقع من الناس، حتى لو لم نعرفهم، أن يتصرفوا باحترام. عندما نصبح ضحايا لجرائم شخصية، نشعر بالخيانة لأن توقعاتنا من السلوك البشري قد انتهكت. الغفران مطلوب فقط عندما يفشل الأشخاص في الارتقاء إلى مستوى توقعاتنا. تخلق الخيانة حاجزاً بيننا وبين أعز الناس إلينا لا يمكن تجاوزه إلا بالمغفرة.
إن الغفران ليس شعوراً. الغفران عمل. يجب أن نقرر بوعي أن نغفر لمن لم يرقَ إلى مستوى توقعاتنا. يجب علينا أن نتصرف لكي نغفر ولا ننتظر حتى يخفف النسيان من آلام خيبة الأمل. التسامح هو عملية نشطة نتخذ من خلالها قرارات واعية لمتابعة فعل التسامح، بغض النظر عن مشاعرنا. إذا اعتمد التسامح على المشاعر، فلن يغفر إلا القليل من الناس.
باختصار، يمكن القول إن الغفران هو اختيار مؤلم بتناسي الإساءة. يصعب أحياناً نسيان الإساءة، خاصة إذا كانت خطيرة. يحدث الغفران الحقيقي عندما نتخذ قراراً متعمداً بعدم التفكير في الأخطاء، أو تناسي الأخطاء. غالباً ما يؤدي التفكير في الإساءة إلى إعادة إشعال الألم العاطفي المرتبط بالخيانة. في كل مرة نركز فيها على فعل الخيانة، نعيد بوعي أو بغير وعي بناء حاجز الخيانة بالتفكير.
عندما نختلف مع شخص ما، نميل في جدالنا معه إلى استخدام عبارة «تذكر عندما...»، ونكرر الحديث عن الإساءة التي تعرضنا لها يوماً من الأيام من ذلك الشخص. قد يؤدي إحياء الأخطاء السلوكية التي تم التغاضي عنها مرة واحدة إلى الفوز بالجدل، ولكنه سيكون انتصاراً آنيّاً. الشخص الذي أطلق القنبلة العاطفية يخسر لأنه يعيد إشعال ألم الخيانة. يتحول الألم العاطفي المتبقي إلى غضب إذا تُرك لتتفاقم، ولا يمكن تهدئة هذا النوع من الغضب إلا بالانتقام. إن كسب حجة باستخدام التسامح سلاحاً هو عمل انتقامي يمكن استخدامه مراراً وتكراراً ما دام أن الغضب يزعج قلب الإنسان. سيشعر المتلقي للانفجار العاطفي بالخيانة لأنه كان يعتقد أنه قد تم العفو عن الإساءة. المسامحة تبني علاقات المحبة ولا تدمرها.
كما أن المسامحة الحقيقية لا تسمح باللجوء للتشهير. التشهير شكل خفي من أشكال الانتقام لأن المعتدي يتعرض للتشهير ويصبح هدفاً للإذلال العلني. قد تساعد استشارة صديق موثوق به في عملية التعافي من الغضب. لكن التشهير يؤدي بالتأكيد إلى نتائج عكسية.
المسامحة تتطلب الانضباط. يجب ألا يتحمل الشخص الذي يسامح آلام الخيانة فحسب، بل يجب عليه أيضاً أن يتخذ قراراً مستمراً بعدم تذكر الإساءة، وعدم استخدام التسامح سلاحاً، ويجب عليه الامتناع عن التشهير. في جميع العلاقات، سوف نفشل، في وقت ما، في الارتقاء إلى مستوى توقعات الآخرين. يتم تقليل وطأة الخيانة بمجرد أن ندرك أنه في عالم غير كامل يسكنه أشخاص غير كاملين، لا توجد علاقة مثالية. المسامحة تمنع استمرار حاجز الخيانة وتسمح لنا بالاستمرار في تقوية علاقاتنا. المسامحة جزء أساسي من الحياة. يجب أن نتعلم أن نغفر للآخرين لأننا في وقت ما سنحتاج إلى أن يغفر لنا الآخرون.
- باحث ومترجم سوري


مقالات ذات صلة

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟