الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
TT

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد. فكل الأمم السابقة كان لها صيامها الخاص، فمنهم من يصوم لبلوغ حالة من الشفافية الروحية التي تسمح له بالاتصال بالمعبود، أو للابتعاد عن المحرمات، أو إرضاء الله وطلب بركاته. وهناك من يصوم إثر حدث جلل أو فجيعة أو احتفالاً بذكرى أو حالة حزن.
كان بعض الناس يمتنعون عن تناول الطعام والشراب؛ اعتقاداً منهم بأن الإجابات الصحيحة عمّا يشغلهم لن تأتي من معدة ممتلئة. وكان المنجّمون (المتنبئون) يصومون طويلاً لاستثارة الطاقات الكامنة لاستشراف رؤىً جلية. وقد أجريت دراسات مهمة بهذا الخصوص خلصت إلى أن الصوم أنفع للعقل والبدن. ولذا، فغاية الصوم التقوى، سواءً أكان فردياً أم جماعياً. والوقاية هي حفظ الإنسان مما يؤذيه ويضره.
طابع الصوم يغيّر رتابة الحياة. ويجبر المرء على قطع عاداته اليومية بفرض التزامات مختلفة يحكمها جدول زمني مختلف وصارم. وبهذا، سيجد المرء نفسه يواجه يقينه ويراجع محيطه متسلّحاً بقدرته على التحمل ومتحلياً بالصبر.
طقس الصوم من أقدم الطقوس البشرية الروحية، تمارسه الشعوب بطرق وأشكال مختلفة. ولاحظت غير دراسة أن حمية الإنسان الغذائية تقوم أساساً على الصوم من جانب. ومن جانب آخر فقبل أن يعرف الإنسان الزراعة لم يكن بمقدوره التحكم في أكله ووجباته. ولذا كان الصوم هو الثابت ووفر الطعام هو الطارئ.
يقول «أبو الطب» الإغريقي أبقراط: «إنما نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل»، وقال أيضاً: «إنك حين تمرض وتأكل فإنك بذلك تطعم المرض». والصوم كان العلاج الذي يقدّمه الفيلسوف والمؤرّخ بلوتارخ بدلاً من الدواء. وكان القبول في مدرسة العالِم الجليل فيثاغورس يتطلب الصوم 40 يوماً. أما العرب فكانوا يصومون أيام 13 و14 و15 من كل شهر.
وفي عهد الفراعنة، كان الصوم يبدأ مع طلوع الشمس حتى المغيب. وتراوحت مدّته ما بين ثلاثة أيام و70 يوماً، كان يُمنع خلالها الأكل والشرب والجماع. ويخضع خدّام المعبد لصيام صارم طوال 70 يوماً، تبدأ بأسبوع بلا ماء، ويستمرّ بأكل الخضراوات فقط وشرب الماء.
وعند متبعي الفلسفة الطاوية، هو الامتناع عن السمك واللحم والحليب والبيض، خلال فترات الصلاة والتأمل. وفي مملكة سبأ القديمة باليمن، كان الناس يصومون شهراً في السنة للتقرب من «سين» إله القمر، ويختمون الصيام بالاحتفال والذبائح والصدقات.
عند اليهود، يكون الصوم إلزامياً فقط في يوم كيبور (الغفران) وهو اليوم الذي نزل فيه النبي موسى من سيناء للمرة الثانية ومعه ألواح الشريعة، حين أعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، ويستمر ذلك الصوم 26 ساعة، وهو «أقدس أيام الأعياد والشعائر الدينية اليهودية».
ولديهم أيضاً طقوس أخرى للصيام، منها الصوم 6 أيام منذ شروق الشمس إلى غروبها. وخلالها يتقشفون ويُحجمون عن الأكل والشرب والجماع والاستحمام وتغيير الملابس والتعطر وغسل الأسنان والعمل وارتداء الأحذية. وفي العصر الحديث، أضيف التدخين وسياقة السيارة وألعاب الكومبيوتر على المحرّمات.
وهناك الصوم إحياء لذكرى؛ كصيام «غشت» و«جداليا» و«إستير». وأما في الصيام الأربعيني أو الموسوي فيصوم المتديّنون منهم 40 يوماً. والغايات من تلك الصيامات المتنوّعة التكفير عن الذنوب وطلب الرحمة والشكر على النعمة والتوبة وفك الأحزان التي تصيبهم جرّاء الهزائم في الحروب وغارات الجراد، وغير ذلك.
لدى المسيحيين يُعَد الصوم مناسبة فرح؛ لأن الإنسان فيه ينتصر على الشهوات والخطيئة، ويتقرب إلى الله طلباً للمغفرة وتحقيق الأماني، وإيماناً بيوم الحساب. وفي ممارسته فعل إماتة للنفس في سبيل بلوغ التواضع.
لا مواعيد ثابتة لصيام المسيحيين، كل كنيسة تحدد أوقاتها لرعاياها. ويعود هذا الاختلاف إلى الخلافات القديمة بين الكنائس، إلا أن ثمة صومين أساسيين، هما الصوم الصغير (نحو 40 يوماً) قبل عيد الميلاد، والصوم الكبير (نحو 50 يوماً) قبل عيد الفصح أو القيامة.
يمارَس الصوم لدى غالبية الطوائف المسيحية بالامتناع عن الطعام منذ منتصف الليل وحتى بعد منتصف النهار. وعند الإفطار لا يُسمح بتناول الطعام الدسم والأطعمة الحيوانية ومنتجاتها كالألبان ومشتقاتها، ولحوم الطيور وبيضها. وثمّة من يتّبع حمية قاسية فلا يتناول الصائمون سوى الخضار والحشائش المشوية.
وهناك جهات تسمح بأكل السمك. ومن الصائمين من يكتفي بالإحجام عن المأكولات التي يشتهونها عادة كما عن الإساءة إلى الآخرين. وعليه، لا قوانين صارمة للصيام في المسيحية، فكل حسب نواياه، وهو ما أجازته فيما بعد الكنيسة البروتستانتية. وهناك صيام السيدة (العذراء) في منتصف شهر أغسطس (آب). وهناك بعض الأفراد ممن يمسكون يومين في الأسبوع، كالأربعاء والجمعة، للتكفير عن الذنوب وإراحة الجسد من أوساخ الأطعمة الدسمة.
تجاوز الصوم في البوذية الإمساك عن الأكل والشرب إلى الصوم عن العمل، فالصوم هو جوهر التعبد. وقد اشتهر به بوذا الذي قال: «إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد». وتفرض التعاليم البوذية صوم «اليوبوزاتا»، وهو 4 أيام من كل شهر قمري، 1 و9 و15 و22 بالتوافق مع منازل القمر الأربع. ويُمنع خلالها أي عمل ما عدا التأمل.
ويقع أهم يوم للصوم في عيد «فيساخ»، بأول يوم يكتمل فيه القمر في شهر مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، وفي هذا اليوم، يحتفلون بذكرى ميلاد بوذا وتنويره ووفاته. وأما شعائره فتتراوح بين الراحة التأملية والصوم والكرنفالات. ويبقى الجنس والكحول وأكل اللحوم من المحظورات.
ويهدف البوذيون من خلاله إلى خلق نوع من الانضباط للمساعدة على التأمل واكتساب صحة جيدة؛ إذ إنه يساعد على كبح جماح الشهوة الجسدية التي تدفع إلى الملذات الدنيا وترمي بالبشر في مهاوي أمراض الجسد.
ويوجد في الهندوسية تقاليد زهد شديد، وأشهرها ما يمارسه «السادو» الذين يصومون حتى يصبحوا كالهياكل العظمية. وكان المهاتما غاندي من أنصار هذا النوع من الصوم. وقد قال: «لا أستطيع الاستغناء عن الصيام، كما لا أستطيع الاستغناء عن عيني. وكما ترى بالعين العالم الخارجي، ترى بالصيام العالم الداخلي».
ولدى أتباع هذه الديانة طقوس عدة في الصيام تختلف باختلاف الإله المتّبع واختلاف المناطق الجغرافية. ففي جنوب الهند يصومون من شروق الشمس إلى مغربها. ويُسمح بشرب السوائل. أما المناطق الشمالية فالمسموح فيها تناول الفاكهة والحليب فقط. وهناك ما يسمّى «صيام الفصول» وفيه يمتنعون عن تناول الطعام من غروب الشمس إلى شروقها لمدة 9 أيام في بداية كل فصل. وثمة من يصوم حسب الإله، فأتباع الإله «شيفا» يصومون الاثنين، وأتباع الإله «فيشنو» يصومون الخميس.
الإيزيديون يصومون 3 أيام، من الثلاثاء حتى الخميس. ويبدأ الصوم بالامتناع عن الطعام عند شروق الشمس ويأكلون بعد المغيب. وكان رجال الدين القدماء يمسكون ثلاثة أيام متتالية ولا يفطرون إلا في يوم العيد الذي يسمى «عيد ئيزي». وأما «صوم خودان» فهو خاص بالأولياء والنسّاك، ومن أراد ذلك من العامة وبعض الفقراء من أصحاب النذور. والصوم عند الإيزيديين نوعان: صوم عامة الناس، وصوم النخبة (رجال الدين)، ويعفى منه الأطفال والمعوّقون عقلياً والمرضى. ويستمرّ صوم النخبة، وهو اختياري، أغلب أيام السنة بما فيها أربعينيتَي الشتاء والصيف.
الصوم في القرآن الكريم مكتوبٌ على الأمم من قبل أمة الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ويمتد الصوم طوال شهر رمضان بين استبانتي نشوء هلال القمر. ويبدأ الإمساك كل يوم مع الفجر والإفطار بعد مغيب الشمس. ولا يُحرّم أي نوع من أنواع الطعام الحلال. وينتظر المسلمون حلول رمضان كل سنة كضيف عزيز بسرور وشوق، ويتجهزون له. حيث لسيد الشهور عاداته وتقاليده وطقوسه وآدابه وفنونه. وهذه تختلف وتتشابه على امتداد العالم الإسلامي.
ففي مصر تنتشر الفوانيس، وهي عادة تعود للعصر الفاطمي، حيث كان العسكر يحملون الشموع لإضاءة الطريق للخليفة المعز لدين الله في أول رمضان. وفي السودان حين يثبت هلال رمضان تبدأ احتفالية «الزفة». وخلاله يجددون أواني المطبخ ويتبادل النساء إفطار البيوت، بينما يتناول معظم الرجال وجبة الإفطار أمام البيوت لمشاركتها مع عابري السبيل.
وفي دول الخليج العربي تُمَدّ موائد الرحمن حول المساجد، وينتشر الشباب في الطرقات لتوزيع الإفطار على العابرين عند الأذان. وفي أذربيجان، تنتشر «حقائب البركات» التي تحتوي على مبالغ مالية يضعها أهل الخير. ويحرص المسلمون في الكاميرون على عدم غلق أبواب البيوت طوال الشهر استعداداً لاستقبال أي صائم أدركه الأذان قبل الوصول إلى بيته، فيدخل للإفطار والتعارف مع إخوانه. وفي تايلاند، يقدّم طعام الإفطار للغرباء المحتاجين، ولا يقتصر تقديمه على أفراد العائلة.
وفي العراق، يدرج في شهر رمضان لعب «المحيبس»، وهي لعبة شعبية تراثية يعود تاريخها إلى الدولة العباسية.
وتركيا تستقبل شهر رمضان بفرح، فتعج شوارع مدنها بالناس، وتضيء المساجد مآذنها فيما يسمى بـ«المحيا» الذي يمتد من صلاة المغرب وحتى بزوغ الشمس. ويكون إفطار اليوم الأول في بيوت الجدات.
في المغرب، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان الذي تحلّ فيه «ليلة القدر»، يبدأ صيام الأطفال وتتخلّله تقاليد لتشجيع النشء الجديد على تحمّل الصوم. وفي إندونيسيا، تبدأ مراسم رمضان بقرع «البدوق». وتمنح الحكومة إجازة للطلاب في أول أسبوع. ويعود الإندونيسيون لممارسة طقس الاستحمام «بادوسان»، بغية الاستعداد للصوم والصلاة. وهي عادة كرّسها المبشّرون الأوائل بتعاليم الإسلام في جاوة.
في الهند، يرتدون الطاقية ويحيون تقليداً تراثياً يعود لأيام الإمبراطورية المغولية المسلمة، ويجوبون الأحياء فجراً لإيقاظ المسلمين على السحور. وفيما بعد أصبحت ممارسة هذا التقليد منوطة بـ«المسحراتي» في كثير من الدول. وفي ماليزيا تقوم الحكومات بتنظيف الشوارع. وفي الشيشان يزورون قبور أحبتهم. وفي اليمن يطلون المنازل، وفي سوريا عادة «التكريزة» لوداع شهر شعبان. وفي بلاد كثيرة يسمونها «الشعبنة». وأما وداع رمضان في الأردن فيُعرف بـ«التوحيش»، وفي موريتانيا يحلقون شعورهم.
إن شعيرة الصوم تحمل في مضامينها الكثير؛ فهي عبادة، وتجربة روحية وجسدية وفكرية تُكسب المؤمن سمواً وصفاءً وضبطاً للنفس، من خلال الامتناع الذي يطهّرها والإمساك الذي يعلو بالجسد. فالصوم يهذّب الروح بحرمانها مدة من الزمن من بعض ملذات الحياة، للارتقاء بها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
TT

هدنة 10 سنوات والتخلي عن حكم غزة... عرض حماس «الملحّ» بعد حرب 7 أكتوبر

أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)
أطفال مع أهليهم يُلوِّحون بعد سريان اتفاق الهدنة في مخيم النصيرات (أ.ف.ب)

لم تكن مجرد مزاعم أو بالونات اختبار أطلقها في مقابلات مع وسائل إعلام عبرية مطلع الشهر الحالي تلك التصريحات المفاجئة التي صدرت عن المفاوض الأميركي السابق لشؤون الرهائن آدم بوهلر، إذ قال إن حركة «حماس» اقترحت تبادل جميع الأسرى وهدنة من 5 إلى 10 سنوات تتخلى فيها عن سلاحها، وتكون الولايات المتحدة ودول أخرى ضامنة ألا تشكل الحركة تهديداً عسكرياً لإسرائيل، وألا تشارك في السياسة مستقبلاً، وضامنة أيضاً لعدم وجود أنفاق.

فقد أكدت مصادر داخل حركة «حماس» لـ«الشرق الأوسط» أن قيادة الحركة طرحت بالفعل هذه الفكرة، وليس لعشر سنوات فحسب، بل مع احتمال تمديدها أكثر من ذلك.

وشرح مصدر مسؤول أن الحركة منفتحة على هذا الخيار منذ قبل الحرب، وليس بعدها، لا بل إن الفكرة كانت مطروحة في سنوات سابقة، لكن إسرائيل هي من كانت ترفضها.

وأعادت المصادر التأكيد على أن قيادة الحركة لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وعدت هذا الأمر شأناً فلسطينياً، وأنه فقط يمكن ذلك في حالة واحدة، ضمن مسار سياسي واضح يسمح بإقامة دولة فلسطينية.

موقف تاريخي متكرّر

قبل نحو عام ونصف العام من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، في الثاني والعشرين من مارس (آذار) 2004، ظهر ياسين أمام منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، مؤكداً أن حركته منفتحة على هدنة لمدة 10 سنوات أو أكثر، شريطة انسحاب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، وعدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.

مسلحو «حماس» يسلمون رهينة إسرائيلية إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمن اتفاق الهدنة (رويترز)

جاءت تصريحات ياسين لتؤكد جدلاً حول تصريحات سابقة له، تعود إلى عام 1997، عندما عاد إلى قطاع غزة عام بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية إلى الأردن، وأكد خلالها استعداد حركته لهدنة تستمر عدة سنوات مع إسرائيل بعد هجمات «انتحارية» نفذتها حركته في داخل المدن الإسرائيلية.

وطرح ياسين لم يكن رأياً شخصياً، فقد تبنى عبد العزيز الرنتيسي الذي قاد «حماس» لنحو شهر بعد اغتيال ياسين، قبل أن تغتاله إسرائيل في أبريل (نيسان) 2004، النهج نفسه، وأكد موافقة حركته على هدنة طويلة الأمد تمتد لعشر سنوات، حتى أنه صرح بذلك لوكالة «رويترز» في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2004، أي قبل اغتياله، واغتيال أحمد ياسين، وفي خضم سلسلة هجمات كانت تقودها الحركة من جانب، وأخرى تنفذها إسرائيل ضد قيادات الحركة في الضفة وغزة من جانب آخر.

ولم تتخل «حماس» عن الفكرة حتى بعدما تغيرت واشتد عودها وحكمت قطاع غزة الذي سيطرت عليه في عام 2007 بعد اشتباكات داخلية دامية مع السلطة الفلسطينية.

وتظهر تصريحات لقادة الحركة، بينهم رئيسا المكتب السياسي السابقان، خالد مشعل، وإسماعيل هنية، موافقة حركتهم على هدنة طويلة الأمد، تقابلها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وعدم الاعتراف بإسرائيل.

لم تكن إقامة الدولة الفلسطينية ضمن رؤية «حماس» التي كانت تطرح على الدوام تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتهاجم السلطة الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلو «الخيانية»، قبل أن تحول الحركة الأقوال إلى أفعال، وتغير عام 2017 ميثاقها الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1948، معلنةً التزامها بإقامة دولة على حدود 1967. وأكد الميثاق على التخلي عن باقي الأراضي الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين للأراضي التي هجروا منها، وأنه لا تخلٍ عن المقاومة المسلّحة واعتبارها مشروعة، إلى جانب التأكيد على عدم اعتراف الحركة بإسرائيل، وهو الموقف الذي عاد وتبناه إسماعيل هنية بشكل أكبر خلال توليه منصب رئيس وزراء حكومة «حماس» ورئاسة مكتبها السياسي لسنوات.

 

فلسطينيون في سوق أُقيمت في الهواء الطلق قرب أنقاض المباني التي دمرتها الضربات الإسرائيلية وسط هدنة مؤقتة في مخيم النصيرات بقطاع غزة (رويترز)

براغماتية العرض

حسب مصادر في الحركة، فإن البراغماتية التي أظهرتها «حماس» عندما غيّرت الميثاق وقبلت بدولة فلسطينية كانت جزءاً من رؤية الحركة ضرورة إقامة هدنة طويلة.

ولكن على الرغم من أن أي جولة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس لم تصل إلى هدنة طويلة، ولكن إلى هدن مفتوحة، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المسألة كانت على طاولة المفاوضات فعلاً.

وكان ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي كشف لـ«القناة 13» العبرية، في ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلال برنامج تناول الكواليس التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» آنذاك، في الأردن عام 1997، وهي التي أفضت في النهاية للإفراج عن الشيخ ياسين، أنه التقى بصفته مسؤولاً عن العلاقات مع الأردن، العاهل الأردني حينها الملك حسين، الذي نقل له طرحاً من «حماس» بالتوصل لهدنة طويلة الأمد تستمر 10 سنوات، توقف فيها الحركة هجماتها التفجيرية العنيفة في تلك الحقبة داخل المدن الإسرائيلية، لكن تل أبيب لم تأخذ ذلك على محمل الجد، وتجاهلت الرسالة التي علم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك، بعد أيام من مصادقته على قرار تنفيذ العملية ضد مشعل.

وحسب الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي، أفرايم هليفي، في مقابلة سابقة مع «القناة 12»، فإن إسرائيل رفضت، قبل 7 سنوات من اغتيال ياسين، اقتراحاً بإعلان هدنة مع الحركة لمدة 30 عاماً، كان عرضه ياسين بنفسه عبر وساطة الأردن وجهات أخرى، وهو ما لم تؤكده الحركة أو أي مصادر أخرى.

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مرفأ الصيادين بدير البلح وسط قطاع غزة يوم السبت (أ.ف.ب)

ويبدو أن طرح «حماس» الذي لم يلق قبولاً جعل الحركة تطمع في تثبيته عبر مفاوضات مباشرة، وهو ما يفسر تصريح موسى أبو مرزوق حين كان نائباً لمشعل في رئاسة المكتب السياسي لحركة «حماس»، بعد حرب عام 2014 مقترحاً إجراء مفاوضات مع إسرائيل.

وظهر أبو مرزوق، وهو يقول في تصريحات متلفزة لفضائية «القدس» رداً على سؤال حول إمكانية إجراء «حماس» مفاوضات مع إسرائيل: «من الناحية الشرعية، لا غبار على مفاوضة الاحتلال، فكما تفاوضه بالسلاح تفاوضه بالكلام. أعتقد إذا بقي الحال على ما هو عليه فلا مانع من ذلك، لأنه أصبح شبه مطلب شعبي عند كل الناس، وقد تجد (حماس) نفسها مضطرة لهذا السلوك».

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن هذا الطرح، أي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل حول اتفاق هدنة طويلة، كثيراً ما نُوقش داخل أطر الحركة المختلفة. وأشارت المصادر إلى أنه في بعض الفترات كان يتم طرح ذلك من قبل الوسطاء، كما في مفاوضات وقف إطلاق النار عام 2005، وعام 2014 بعد الحرب الإسرائيلية، ثم أعيد طرحه عام 2016، لكن من دون التوصل إلى أي نتائج.

وحسب المصادر، فإن سياسات الحركة وأفكارها ليست منغلقةً بل منفتحة وتطورت كثيراً مع الوقت.

فلسطينيون نازحون يسيرون عبر طريق موحل وسط الدمار في جباليا شمال قطاع غزة خلال الهدنة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

الهدنة التي أصبحت ملحَّة

لكن إذا كانت رؤية الحركة تجاه هدنة طويلة ثبتت على ما هي عليه منذ عقود، فإن أسباب الهدنة ومسببات المطالبة بها تغيرت بعد السابع من أكتوبر 2023، فلا يمكن إخفاء حجم الضرر الذي تعرضت له الحركة في الحرب الحالية على قطاع غزة، وليس سراً أنها تلقت أكبر ضربة قاسية منذ تأسيسها على جميع الصعد.

وقال الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن حركة «حماس» تتميز بأنها حركة فتية ومتجددة في أفكارها، وقد غيَّرت سياساتها خلال حقبات زمنية مختلفة.

ويرى إبراهيم أن ذلك ميَّز «حماس» وجعلها متفوقة، لكن ذلك بقي صحيحاً حتى السابع من أكتوبر، عندما تغير كل شيء.

يؤكد إبراهيم على أن نتائج هجوم السابع من أكتوبر على الحركة نفسها وشعبيتها شكّلت عاملاً مهماً في قرارات الحركة المستقبلية على كافة الأصعدة.

وحسب إبراهيم، يمكن تلمس أول تأثير مهم في الحركة حتى الآن، وهو تنازلها عن حكم القطاع.

ولا تخفي «حماس»، وبشكل واضح، أنها ترغب في التخلي عن حكم غزة، في إطار المفاوضات الجارية حالياً، لكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن وفاق وطني، وأن يتم إجراء انتخابات عامة فلسطينية في غضون عام، وهو أمر تنص عليه المبادرة المصرية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة.

وإلى جانب التخلّي عن الحكم أعادت «حماس» طرح هدنة طويلة الأمد.

 

استراحة محارب ورصّ صفوف

قالت مصادر من داخل «حماس» إنه منذ طرح الشيخ أحمد ياسين هذه الفكرة، كانت تقوم بالأساس على وقف القتل، لكن اليوم هناك الكثير من الأهداف الأخرى وراء هذا الطرح، من بينها «أخذ نفس لإعادة ترتيب أوضاع الحركة بعد الحرب الحالية، وإجراء مراجعة شاملة، بما في ذلك العلاقة مع السلطة والفصائل وإسرائيل».

أفراد من حركة «حماس» في مخيم النصيرات مع بدء الهدنة مع إسرائيل (أ.ف.ب)

وأضافت المصادر: «ستحاول الحركة خلال ذلك التوصل لاتفاق وطني جامع مع جميع الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني وانضمام الحركة إليهما».

وأقرت المصادر بأن «حماس» بعد الحرب الحالية بحاجة لتجديد دماء القيادة فيها، وكذلك العناصر المقاتلة، بعد أن فقدت الآلاف منهم في قطاع غزة.

وأوضحت المصادر: «خلال الحرب استمرت الحركة في سد الفراغات، وفق الظروف الميدانية، وضمن عمل منظم اتبعته وفق ما تنص عليه اللوائح الداخلية في تولي المناصب، لكن ما زلنا بحاجة لضبط الوضع».

وتابعت: «الحركة تأثرت بشدة، وهي بحاجة حالياً لهدنة طويلة الأمد من أجل إعادة بناء نفسها».

وخلال فترة وقف إطلاق النار التي امتدت في مرحلتها الأولى لـ58 يوماً فعلياً قبل أن تستأنف إسرائيل ضرباتها بقوة، استغلت الحركة وقف إطلاق النار المؤقت لإعادة ترتيب صفوفها ومحاولة إعادة هيكلة التنظيم سياسياً وحكومياً وعسكرياً.

وكانت الحركة حاولت إظهار قوتها أثناء إجراء صفقات التبادل، وأرسلت رسائل تحدٍ لإسرائيل.

لكن إسرائيل ردت بضربات متتالية باغتيال القيادات القائمة على محاولة إعادة ترتيب صفوفها، منهم أعضاء مكتب سياسي مثل محمد الجماصي، وياسر حرب، أو شخصيات حكومية مثل عصام الدعاليس، أو عسكرية مثل أحمد شمالي نائب قائد «لواء غزة» في «كتائب القسام» الذي كان يقود إعادة هيكلة الكتائب، علماً بأن «حماس» تعتبر «القسام» درة التاج.

 

مقاتلون جدد

خلال سنوات مضت عملت الحركة على تخريج جيل جديد من المقاتلين وضمهم لصفوفها، خصوصاً الجيل الفلسطيني الصاعد من الشباب الذين كانت تسعى دوماً لاستقطابهم وتعمل على تدريبهم عسكرياً، وشارك عدد منهم في هجوم السابع من أكتوبر، فيما استخدم آخرون لسد الفراغ وقد أعيد تنشيطهم لكي يشاركوا في هجمات ضد القوات الإسرائيلية البرية، وهو ما حصل في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون في الأشهر الأربعة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.

وكانت «الشرق الأوسط» انفردت بتقرير خاص عن نجاح «حماس» في تجنيد أولئك، ونشرت صوراً لمطوية وكتيب حول تعليمات إطلاق القذائف المضادة للدروع تجاه الآليات الإسرائيلية.

صورة ملتقطة 15 فبراير 2025 في خان يونس بقطاع غزة تُظهر مقاتلين من حركة «الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون خلال تسليم 3 رهائن إسرائيليين لممثلي الصليب الأحمر (د.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «بالتأكيد تسعى (حماس) بعد هذه الحرب الإسرائيلية الطاحنة لتجديد الدماء فيها بعدما فقدت الآلاف من قياداتها وعناصرها، وهذا سيكون أحد أهم أهداف الهدنة طويلة الأمد في حال تم التوصل لاتفاق بشأنها».

وفي حال نجحت الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق نار دائم، وربما لسنوات طويلة، وهو أمر تنخرط به الولايات المتحدة، فإن السؤال الذي سيبقى مطروحاً، حول قدرة «حماس» على البقاء وعلى إعادة تشكيل نفسها في مواجهة إصرار إسرائيلي وقناعة فلسطينية رسمية وعربية على إخراج الحركة من المشهد.

لم تستطع إسرائيل بعد عقود من المواجهة وحرب دموية طاحنة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام هزيمة الفكرة، وتريد هزيمة التنظيم نفسه، وهو أمر لن يحصل أغلب الظن بإعطاء الحركة سنوات طويلة من الراحة.