هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
TT

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة. من أسباب اليأس والانتحار أنّ بعض الناس لم يعودوا يستحسنون ما استقرّ عليه باطنُهم ووعيُهم ووجدانُهم وقلبُهم وعقلُهم وجسدُهم ومظهرُهم ومنطقُهم وفكرُهم ومسلكُهم. حين يضجر الإنسان من هذا كلّه، يَعمد إلى إنهاء حياته أو يخضع لمزاجيّة سوداويّة تنغّص عليه وجودَه كلّه.
غير أنّ الحثّ على قبول الذات وقبول الحياة أمرٌ لا علاقة له بالتحريض على امتداح عناصر الهويّة الثقافيّة الشاملة التي استوت عليها حياةُ الناس وشرائعُهم ونواميسُهم ومعاملاتُهم اليوميّة. لا بدّ، والحال هذه، من النظر في المعايير التي ينبغي أن نعتمدها في تقويم امتداح الهويّة الذاتيّة. لا شكّ في أنّ كلّ جماعة إنسانيّة تبتهج بما تعوّدته من أنماط العيش وأساليب الحياة وطرائق التفكير ومناهج السلوك. غير أنّ الإفراط في الامتداح الذاتيّ يدلّ على عيبٍ ناشبٍ في البناء الفكريّ الداخليّ. أعرف أنّه من العسر الشديد أن يميّز الناسُ الخير من الشرّ داخل عماراتهم الثقافيّة، إذ إنّ معايير التمييز مستخرجةٌ من صلب الاقتناعات الصلبة التي يعتصم بها أهلُ الجماعة. مشكلة هذه المعايير أنّها تسوّغ ما لا يسوّغه الآخرون، وتبيح ما لا يبيحونه، وتحظر ما لا يحظرونه. ومن ثمّ، يصعب على الناس أن يخرجوا من ذواتهم حتّى ينظروا نظراً موضوعيّاً في استقامة فكرهم ومسلكهم. ما إنْ يخرج الإنسان من عمارته الثقافيّة حتّى يصبح في العراء. وليس من عراء ثقافيّ على الإطلاق في قرائن الانتساب التاريخيّ الضروريّ. أين يمكننا أن نقيم الإنسان الذي يرغب في إعادة النظر بمسلّمات أنظومته الثقافيّة؟ إذا أراد الإنسان، على سبيل المثال، أن يتدبّر معايير الاستقامة في العمارة المسيحيّة، كان عليه أن يخرج من المسيحيّة ويتحرّر من فضاء أحكامها حتّى ينظر نظراً موضوعيّاً فيما تُذيعه وتُعلّمه. ولكن ما إنْ يخرج الإنسانُ من هذه العمارة حتّى يفقد صلة الانتماء ورباط الائتلاف ويصبح في موضع ثقافيّ آخر لا يخوّله، في نظر أهل الجماعة، أن يحكم على صحّة معتقداتهم وصوابيّة أخلاقيّاتهم واستقامة أفعالهم.
لا يخفى على أحد أنّ مثل هذا الإشكال يقترن بصعوبةٍ بنيويّةٍ أخرى تنشأ من استحالة تعريف الهويّة الموضوعيّ. ذلك أنّ روحيّة التحاور بين الناس المختلفين تقتضي أن أعرّف الآخر بحسب ما يحلو للآخر أن يُفصح عن ذاته. ليس لي، مهما عظم شأني، أن أفرض على الآخر مقولاتي الذاتيّة. الواجب الأخلاقيّ يفرض عليّ أن أصغي إلى خطاب الآخر الراغب في الإفصاح عن هويّته. بيد أنّ هذا الأمر عسيرٌ مربكٌ محفوفٌ بالالتباسات والمخاطر، إذ كيف يمكنني أن أفهم الآخر إلّا بواسطة الكلمات التي أستخدمها داخل الفضاء المعرفيّ الذي أنتمي إليه؟ ثمّة سؤالٌ أخطر: ما الذي يضمن لي استقامة التعريف الذي يسوقه الآخر في هويّته؟ هل يجوز لي أن أدّعي البراءة المعرفيّة وأخلي السبيل لسيلٍ من التعابير المدحيّة والأوصاف التقريظيّة يستخدمها الآخر في تمجيد ذاتيّته الثقافيّة؟
إذا اعتمدتُ اعتماداً مطلقاً على كلمات الآخر في وصف ذاته وقعتُ في العري الذاتيّ، وأوشكتُ أن أنتمي إلى أنظومة الآخر الثقافيّة. وهذا واقعٌ غريبٌ غالباً ما واجهه أهلُ الحوار الصادقون الذين أوغلوا في الانتساب إلى ثقافة الآخر، بحيث كفّوا عن استخدام المفاهيم التي تنبثق من ذاتيّتهم اللصيقة بهويّتهم. ربّ معترضٍ يخالف التحفّظ الذي أفصح عنه في هذه المقالة، ويحبّذ أن يخرج الإنسانُ من ذاتيّته خروجاً كاملاً حتّى يلاقي الآخر في غيريّة هويّته واختلافيّتها وجِدّتها وعصيانها على كلّ ضروب الأخذ الإكراهيّ. لا يربكني هذا التحدّي ولا يزعزع يقيني الحواريّ، شرطَ أن يذهب الناسُ إليه معاً، في الزمنيّة الحضاريّة عينها، على طواعيةٍ متجانسة، في عزمٍ صادقٍ منزّهٍ عن أغراض الهيمنة. حينئذ يحلو لنا أن نشهد خروجاً مشتركاً إلى آفاق جديدة لم يألفها الناسُ من قبل، ولم يتعوّدوا خوضَها في منعزلات هويّاتهم المغلقة. غير أنّ واقع التلاقي الحضاريّ الكونيّ لا يتيح مثل التساوق التناغميّ هذا بين الناس المقبلين على الحوار، إذ غالباً ما نقع على محاورين أفذاذ أفنَوا حياتهم في طلب الاختلاف وأتقنوا فنون الحرص على هويّات الآخرين، في حين أنّ من يواجههم في عمليّة الحوار ما برح قابعاً في زمنيّاتٍ ثقافيّةٍ متشنّجة متصلّبة مستكبرة.
أسوق مثالاً واحداً من أجل الإيضاح النافع. يُجمع أغلب المسيحيّين اليوم على دينونة حروب الإفرنجة أو ما يُدعى خطأً بالحروب الصليبيّة، ويُقرّون بأنّ إذاعة رسالة المحبّة في بشرى الخلاص تناقض مبدأ العنف. ولكن ما الذي جرى حتّى استطاع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يبلغ الخلاصة الفكريّة الناضجة السلاميّة الواعدة هذه؟ أعتقد أنّ التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي أصابت مجتمعات الغرب في عصر النهضة الأُوروبّيّة وزمن الأنوار وحقبة الحداثة العلميّة جعلت الفكر الدِّينيّ المسيحيّ يعيد النظر في بعضٍ من مُسلّماته اللاهوتيّة العتيقة.
ثمّة أمرٌ آخر ينبغي إلقاء البال إليه، عنيتُ به التمييز الحصيف بين الجوهر الفكريّ والأعراض التاريخيّة. ذلك أنّ كلّ أنظومة ثقافيّة تنطوي على قدرةٍ استصفائيّة تنقيحيّة تطهيريّة تفرز الحقائق الأساسيّة من الانحرافات الطارئة. في إثر المجمع الڤاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) واجتهادات الكنائس الأرثوذوكسيّة والبروتستانتيّة في مجلس الكنائس العالميّ، استطاع الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر أن يعتمد الخطّة الإصلاحيّة هذه من غير أن يُبطل جوهر الإيمان المسيحيّ. ولكنّ مثل هذا التمييز لا يستقيم على الدوام، سواءٌ في المسيحيّة أو في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة الأخرى. لذلك لا بدّ من معياريّة موضوعيّة محايدة منزّهة تجعلنا نقبل في هويّة الآخر ما هو صالحٌ ومفيدٌ ومُغنٍ، ونرفض فيها ما هو فاسدٌ ومضرٌّ ومُجحف.
قبل أن أستجلي بعض المعايير الهادية هذه، لا بدّ من السؤال الفلسفيّ الخطير الذي يستفسر عن أصل الانحراف التاريخيّ في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة على اختلاف منابتها الفكريّة وقرائنها التاريخيّة. هل يكون الانحراف ناشباً في أصل الهويّة أم طارئاً عليها؟ لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، سواءٌ داخل جماعته أو خارجها، من غير أن يتعرّض للنقد والتهجّم والاضطهاد. أعود إلى حروب الإفرنجة لأسأل: هل خرجت الطاقة العنفيّة هذه من صميم رسالة المسيح أم ابتُليت بها الكنيسة المسيحيّة من جرّاء ضلال بعض أبنائها المسؤولين المهيمنين على مقاليد السلطة فيها؟ يصحّ السؤال عينه في الماركسيّة: هل أتت انحرافاتُ النظام الشيوعيّ من صلب العقيدة الماركسيّة في جوهر بنيانها ومطلبها أم أصابتها بسببٍ من فساد العقول السياسيّة التي هيمنت على مصائر فكرة المساواة المنصفة والتوزيع العادل وواجب النضال التغييريّ البنيويّ؟ لا أخفي على القارئ أنّي أميل إلى بعضٍ من الارتباط الانتقائيّ الاصطفائيّ الطارئيّ الذي ينعقد بين عنصرٍ من عناصر الحقيقة، وضربٍ من ضروب الانحراف المسلكيّ في حياة الجماعة المعتصمة بهذه الحقيقة. بعض الحقائق الصلبة يستجلب العنف استجلاباً!
في جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نجتهد حتّى نستخرج بعض المعايير الهادية التي تساعدنا في تقويم الخطاب المدحيّ الذي يحمله إلينا أصحابُ كلّ أنظومة وأهلُ كلّ جماعة. أعرف أنّ ما سأقوله منبثقٌ من خلاصات الحداثة التي تغلغلت في خلايا دماغنا وسرَت في شرايين أفكارنا. بيد أنّ موضوعيّة القول وحياديّته ونزاهته تشفع في استنقاذه من ردود المستائين من مثال الانفتاح الثقافيّ المستنير هذا. يقيني أنّ الناس يمكنهم أن يقبلوا ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم الجماعيّة شرطَ أن يأتي خطابُ الامتداح مَبنيّاً على ثلاثة أصول جوهريّة: أوّلاً، التزام الإنسيّة الأخلاقيّة الجامعة التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وتستثمرها في تعزيز كرامة الشخص الإنسانيّ، وتحريره من جميع ألوان العبوديّات، ودفعه إلى تجاوز ذاتيّته التاريخيّة؛ ثانياً، الأمانة على جوهر الأنظومة الثقافيّة أو الدِّينيّة الذاتيّة في أبهى ما انطوت عليه من مثُل رفيعة سامية؛ ثالثاً، الانفتاحيّة النقديّة البنّاءة التي تجعل كلَّ إنسانٍ مُنتمٍ مقتنعٍ يقبل طوعاً إعادة النظر في تطوّر عمارته الفكريّة، وتقويم أدائها، وانتقاد التواءاتها، وتصويب اعوجاجاتها.
من الواضح أنّ المعايير الهادية هذه تضمن لجميع الناس التحاور السليم الشفّاف النزيه الرامي إلى تعزيز إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها الكيانيّة. إذا كان المعيار الأوّل (الإنسيّة الأخلاقيّة) والمعيار الثالث (الانفتاحيّة النقديّة) على وضوحٍ في المعنى، فإنّ المعيار الثاني (الأمانة على الجوهر) قد يلتبس على القارئ، إذ إنّ الأديان والأنظومات الثقافيّة والعمارات الفكريّة تختلف في استخراج الجواهر المنطوية في تراثاتها الأثيلة. غير أنّ الأمر ليس على هذا الإرباك. أعتقد أنّ الناس يدركون فطريّاً أنّ جوهر المسيحيّة المحبّة، وكلّ فكر مسيحيّ يخالف المحبّة يجب نبذه؛ وأنّ جوهر الإسلام الرحمة، وكلّ فكر إسلاميّ يناقض الرحمة يجب نقضه؛ وأنّ جوهر اليهوديّة الاستضافة الكيانيّة المجّانيّة، وكلّ فكر يهوديّ يعطّل هذه الاستضافة يجب إبطاله؛ وأنّ جوهر الهندوسيّة الانسيابيّة الكونيّة الفنائيّة، وأنّ جوهر البوذيّة اليقظة الوجدانيّة، وجوهر الماركسيّة المساواة، وجوهر الاشتراكيّة الإنصاف، وجوهر الليبرالية الحرّيّة، وجوهر النضال البيئيّ صون الطبيعة الأمّ. وعليه، فإنّ جوهر الجواهر في جميع الأنظومات، على ما كان يذهب إليه فيلسوفُ الدِّين اللاهوتيُّ البريطانيُّ جون هيك (1922-2012)، أن يخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة (self-centeredness) إلى رحابة الحقّ الكونيّ (Reality-centeredness).
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

TT

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

سجن صيدنايا رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.

مدخل الفرع 215 «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري السوري كما بدا منتصف ديسمبر 2024 (الشرق الأوسط)

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» يزور سجنه بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».

وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.

وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».

وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

وثائق وأوراق ثبوتية ومقتنيات معتقلين مبعثرة ومنهوبة بقاعة المحفوظات في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

مهجع في معتقل الفرع 215 بدمشق

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

زنزانة منفردة في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.

وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.

عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

كتاب «الاستخبارات المركزية الأميركية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» ضمن أمانات المعتقلين بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

«قسم الرضوض»... وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.

ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

صور مفقودين عُلقت على جدران مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق (الشرق الأوسط)

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.

خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

لافتة الاستقبال عند مدخل مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق حيث جرت عمليات تعذيب وتصفية (الشرق الأوسط)