الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ
TT

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

يَنسب الناسُ إلى العقل هويّاتٍ مختلفة، وتعريفاتٍ شتّى، وطبائعَ متنوّعة، وقدراتٍ متباينة. لذلك حين ينظرون في قضايا الحياة الإنسانيّة، يُهملون الاختلاف الأساسيّ هذا، ويمضون فوراً إلى المباحثة في شؤون الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والفنّ. غير أنّ الحكمة تتطلّب أن يفسّر المرءُ أسبابَ اختلاف التصوّرات الفكريّة الكبرى التي تَنشط في الحضارات الإنسانيّة. لماذا يختلف الناسُ في فهم مبادئ الحياة الإنسانيّة، وإدراك مقاصد الوجود التاريخيّ، وتدبّر أحوال المعيّة المتعثّرة في المدينة الإنسانيّة المعاصرة؟
لا بدّ إذن من إعادة النظر في مقام العقل قبل أن يَعمد الناسُ إلى مناقشة اختلافاتهم الخطيرة في معاني الحياة الإنسانيّة. ذلك بأنّ كلّ تعريفٍ للعقل يستتبع تصوّراً معيّناً للوجود والحياة والتاريخ. من المفيد أن نستذكر التعريفات الأساسيّة التي يسوقها الفكرُ الإنسانيّ في تحديد هويّة العقل. تكتفي بعض المذاهب الفلسفيّة بتعريف العقل آلةً محايدةً، أو أداةً بحثيّةً، أو وسيلةً معرفيّةً استقصائيّة تتيح لنا أن نتناول العالم الذي يكتنفنا ونتدبّر أشياءه وكائناته وموجوداته وأحداثه. بعضها الآخر يضيف إلى التعريف الأداتيّ هذا صفة المرجعيّة التمييزيّة التي تتيح لنا أن نحكم على الأمور حكماً مستنداً إلى المبادئ العقليّة الأساسيّة. غير أنّ هذا الحكم لا يستقيم إلّا إذا افترض المرءُ أنّ العقل يحتوي على ضمّةٍ من المبادئ الأصليّة، والأفكار الجوهريّة، والقيَم الهادية، والمعارف الأساسيّة، والمضامين الناظمة. أمّا التعريف الرابع والأخير، فيكتفي بالقول إنّ العقل بمنزلة الحيويّة الاستكشافيّة الإبداعيّة التي تنطوي على قدرةِ دفعٍ ذاتيّةٍ وطاقةِ توثّبٍ وتجدّد.
من الواضح أنّ التعريفَين الثاني والثالث يولّدان الاختلاف الأصليّ بين الحضارات في فهم مسائل الوجود الإنسانيّ. ذلك بأنّنا حين نعلن أنّ العقل يحتوي، في أصل تكوينه، على مبادئ وأفكار وقيَم ومعارف ومضامين تؤهّله للحكم على الأمور حكماً تمييزيّاً حاسماً، ندرك أنّنا في مواجهةِ فرضيّاتٍ مختلفة تعتمدها كلُّ حضارة إنسانيّة تدّعي أنّ محتويات العقل الذهنيّة مرسومةٌ على هذا النحو أو ذاك. فالذين يقولون إنّ العقل الإنسانيّ، بمجرّد إعمال الفكر التحليليّ النقديّ في وقائع الحياة، يحظر الموت الرحيم، على سبيل المثال، لا يرضون بأن يتحقّقوا من المسلّمات المكتومة التي يفترضونها ناشطةً في صميم البنية العقليّة. والذين يقولون إنّ هذا العقل أيضاً يدين الليبراليا الغربيّة، ويميل ميلاً عفويّاً إمّا إلى الشيوعيّة وإمّا إلى الاشتراكيّة وإمّا إلى النظام البيئيّ، لا يقبلون أن يراجعوا الفرضيّات الأصليّة التي تستوطن وعيهم، فتجعلهم يَنسبون إلى العقل الإنسانيّ هذا التعريف أو ذاك.
من المفيد التذكير بما قاله الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596 - 1650) في هذا الصدد، إذ أعلن أنّ العقل الإنسانيّ ينطوي على أفكار فطريّة أو حقائق أصليّة ناشبة في صميم بنيته. من هذه الحقائق التفكّرُ في الذات (الكوجيتو)، أي فعل التفكّر الذي لا يجوز على الإطلاق التشكيك فيه. منها أيضاً فكرة الله التي تضمن صدقيّة عمليّة التفكّر الذاتيّ. ومنها أيضاً المبادئ الرياضيّة الكونيّة. وعليه، فإنّ العقل ينطوي، في نظر دِكارت، على مجموعةٍ من الأفكار الأصليّة الذاتيّة التي لا يمكن إنكارها. استناداً إلى مثل هذا التعريف، يصبح الذين لا يؤمنون بحقيقة الوعي الذاتيّ، أو لا يؤمنون بالله، أو لا يصدّقون المبادئ والقواعد والخلاصات الرياضيّة، بمنزلة الذين يعارضون حقائق العقل، أي في الوضعيّة التي تناقض السويّة العقليّة.
ومن ثمّ، فإنّ أخطر القضايا المعرفيّة أن يدّعي بعضُ الناس أنّهم قادرون على تعريف العقل تعريفاً يلائم التحسّسات والتذوّقات والاستحسانات التي تستوطن وعيَهم من غير استئذان، والتي يرثونها من آبائهم ويرتاحون إليها في تراثاتهم. لا ريب في أنّ المشكلة الفكريّة الأخطر تتجلّى في هذا السؤال: هل تفرض التصوّراتُ الآيديولوجيّة على العقل أن يُعرّف ذاتَه تعريفاً يناسب ما تعتمده هذه التصوّرات القبْليّة من حقائق؟ أم إنّ العقل يستولد الآيديولوجيات وفقاً لحيويّته الذاتيّة التفكّريّة النقديّة؟ ما العلاقة بين العقل والآيديولوجيا؟ وأيّهما أسبق إلى المبادرة وإخضاع الآخر والناس والمجتمعات؟
في هذا السياق، لا بدّ لي من أن أستحضر أيضاً الفيلسوف الألمانيّ غادَمر (1900 - 2002) الذي رسم أنّ مجموع اللغة التي يستخدمها قومٌ من الأقوام هي بعينها العقل. جميلٌ هذا الكلام، ولو أنّه خطيرُ الأثر. ذلك بأنّ العقل يضحي متماهياً بالكلمات والمفردات والاصطلاحات والعبارات التي تختزنها اللغة. إذا كان لكلّ لغةٍ عقلٌ يناسبها، فإنّ لكلّ حضارة عقلاً يُعبّر عن هويّتها وذاتيّتها.
لذلك يمكننا أن نصوغ المعادلة البليغة هذه: قلْ لي كيف تُعرّف العقلَ وبماذا تُزيّنه، أقلْ لك ما التصوّر الفكريّ الأرحب الذي تركن إليه وتعتمده! بيد أنّ الناس لا يحبّون أن يذهبوا مذهباً بعيداً في التحرّي عن عمليّات العقل. فلا أراهم يستحسنون أن يُعرّوا عقولهم من الألبسة المعرفيّة والالتحافات الانتمائيّة والمبايعات الآيديولوجيّة التي تضمن لهم الانتظام الهنيّ في مسالك الوجود المربكة. من الثابت، والحال هذه، أنّ الإجماع على تعريف العقل ينشئ الوحدة الحضاريّة، ويوطّد اللحمة القوميّة، ويعزّز الوئام الاجتماعيّ. وفوق هذا كلّه، يريح مثلُ هذا الإجماع الإنسانَ من إرباكات القلق التي تعتصر وعيه، وتزعزع مداركه، وتُضعف منعته الكيانيّة.
خلاصة القول أنّ المجتمعات الإنسانيّة، قبل أن تقتحم ميدان الحوار الفكريّ الحضاريّ، ينبغي أن تنظر نظراً جريئاً مجرّداً موضوعيّاً في الهويّة التي تُلصقها بالعقل، وفي الطبيعة التي تَنسبها إليه، وفي القدرات التي تمنحه إيّاها، وفي الحقائق الثابتة التي تفترضها فيه. وحده مثل العمل النقديّ الصريح هذا يُعفي حوار الحضارات من مشقّات الالتباس والاضطراب ومحَن التورية والتمويه والمواربة والمخادعة والنفاق. وعلاوةً على هذا كلّه، لا بدّ من النظر النقديّ في استغلال العقل استغلالاً آيديولوجيّاً يَستعبده ويُكبّله بسلاسل المصالح والمنافع. فالعقل يجب أن يبقى عنوان الحرّيّة في الكائن الإنسانيّ يستخدمه من أجل تعزيز انسجامه الوجدانيّ الأشمل، وتوثيق المعيّة الإنسانيّة المبنيّة على الإقرار بشرعة حقوق الإنسان الكونيّة والاعتراف بالاختلاف سبيلًا إلى التقابس والتلاقح والتطوّر الذاتيّ، وضبط مسار الانفتاح على العالم ووقائعه ومتطلّباته وتحدّياته.
هل يمكننا، في نهاية المطاف، أن نتّفق على ما ينبغي أن يحتويه العقلُ في الحدّ الأدنى من المسلّمات الضروريّة النافعة في صون كرامة الإنسان ورعاية المساواة الكيانيّة وتعزيز الأخوّة والعدالة والتضامن الكونيّ؟ الحقيقة أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اجتهدت في استخراج مضامين المعنى الإنسانيّ واستودعتها في تراثها الأدبيّ والفلسفيّ والفنّيّ. غير أنّ خصوصيّة شرعة حقوق الإنسان العالميّة تتيح لنا أن نستصفي الحدَّ الأدنى من المضامين الإنسانيّة العليا التي يجدر الإجماع عليها حتّى ينعتق العقل الإنسانيّ من الإضافات المغرضة، والإحالات الملتبسة، والاستزادات النفعيّة. فلنَضعْ في صميم العقل مبادئَ الشرعة الكونيّة هذه، ولنجتهد في نصرتها، من غير أن نفني طاقتنا وحياتنا من أجل إخضاع الآخرين لحقائقَ ندّعي أنّها من صلب البنية العقليّة، في حين يعرف العقلاءُ أنّها من صناعة الهوى الآيديولوجي المهيمن.
- كاتب ومفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!