الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ
TT

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

يَنسب الناسُ إلى العقل هويّاتٍ مختلفة، وتعريفاتٍ شتّى، وطبائعَ متنوّعة، وقدراتٍ متباينة. لذلك حين ينظرون في قضايا الحياة الإنسانيّة، يُهملون الاختلاف الأساسيّ هذا، ويمضون فوراً إلى المباحثة في شؤون الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والفنّ. غير أنّ الحكمة تتطلّب أن يفسّر المرءُ أسبابَ اختلاف التصوّرات الفكريّة الكبرى التي تَنشط في الحضارات الإنسانيّة. لماذا يختلف الناسُ في فهم مبادئ الحياة الإنسانيّة، وإدراك مقاصد الوجود التاريخيّ، وتدبّر أحوال المعيّة المتعثّرة في المدينة الإنسانيّة المعاصرة؟
لا بدّ إذن من إعادة النظر في مقام العقل قبل أن يَعمد الناسُ إلى مناقشة اختلافاتهم الخطيرة في معاني الحياة الإنسانيّة. ذلك بأنّ كلّ تعريفٍ للعقل يستتبع تصوّراً معيّناً للوجود والحياة والتاريخ. من المفيد أن نستذكر التعريفات الأساسيّة التي يسوقها الفكرُ الإنسانيّ في تحديد هويّة العقل. تكتفي بعض المذاهب الفلسفيّة بتعريف العقل آلةً محايدةً، أو أداةً بحثيّةً، أو وسيلةً معرفيّةً استقصائيّة تتيح لنا أن نتناول العالم الذي يكتنفنا ونتدبّر أشياءه وكائناته وموجوداته وأحداثه. بعضها الآخر يضيف إلى التعريف الأداتيّ هذا صفة المرجعيّة التمييزيّة التي تتيح لنا أن نحكم على الأمور حكماً مستنداً إلى المبادئ العقليّة الأساسيّة. غير أنّ هذا الحكم لا يستقيم إلّا إذا افترض المرءُ أنّ العقل يحتوي على ضمّةٍ من المبادئ الأصليّة، والأفكار الجوهريّة، والقيَم الهادية، والمعارف الأساسيّة، والمضامين الناظمة. أمّا التعريف الرابع والأخير، فيكتفي بالقول إنّ العقل بمنزلة الحيويّة الاستكشافيّة الإبداعيّة التي تنطوي على قدرةِ دفعٍ ذاتيّةٍ وطاقةِ توثّبٍ وتجدّد.
من الواضح أنّ التعريفَين الثاني والثالث يولّدان الاختلاف الأصليّ بين الحضارات في فهم مسائل الوجود الإنسانيّ. ذلك بأنّنا حين نعلن أنّ العقل يحتوي، في أصل تكوينه، على مبادئ وأفكار وقيَم ومعارف ومضامين تؤهّله للحكم على الأمور حكماً تمييزيّاً حاسماً، ندرك أنّنا في مواجهةِ فرضيّاتٍ مختلفة تعتمدها كلُّ حضارة إنسانيّة تدّعي أنّ محتويات العقل الذهنيّة مرسومةٌ على هذا النحو أو ذاك. فالذين يقولون إنّ العقل الإنسانيّ، بمجرّد إعمال الفكر التحليليّ النقديّ في وقائع الحياة، يحظر الموت الرحيم، على سبيل المثال، لا يرضون بأن يتحقّقوا من المسلّمات المكتومة التي يفترضونها ناشطةً في صميم البنية العقليّة. والذين يقولون إنّ هذا العقل أيضاً يدين الليبراليا الغربيّة، ويميل ميلاً عفويّاً إمّا إلى الشيوعيّة وإمّا إلى الاشتراكيّة وإمّا إلى النظام البيئيّ، لا يقبلون أن يراجعوا الفرضيّات الأصليّة التي تستوطن وعيهم، فتجعلهم يَنسبون إلى العقل الإنسانيّ هذا التعريف أو ذاك.
من المفيد التذكير بما قاله الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596 - 1650) في هذا الصدد، إذ أعلن أنّ العقل الإنسانيّ ينطوي على أفكار فطريّة أو حقائق أصليّة ناشبة في صميم بنيته. من هذه الحقائق التفكّرُ في الذات (الكوجيتو)، أي فعل التفكّر الذي لا يجوز على الإطلاق التشكيك فيه. منها أيضاً فكرة الله التي تضمن صدقيّة عمليّة التفكّر الذاتيّ. ومنها أيضاً المبادئ الرياضيّة الكونيّة. وعليه، فإنّ العقل ينطوي، في نظر دِكارت، على مجموعةٍ من الأفكار الأصليّة الذاتيّة التي لا يمكن إنكارها. استناداً إلى مثل هذا التعريف، يصبح الذين لا يؤمنون بحقيقة الوعي الذاتيّ، أو لا يؤمنون بالله، أو لا يصدّقون المبادئ والقواعد والخلاصات الرياضيّة، بمنزلة الذين يعارضون حقائق العقل، أي في الوضعيّة التي تناقض السويّة العقليّة.
ومن ثمّ، فإنّ أخطر القضايا المعرفيّة أن يدّعي بعضُ الناس أنّهم قادرون على تعريف العقل تعريفاً يلائم التحسّسات والتذوّقات والاستحسانات التي تستوطن وعيَهم من غير استئذان، والتي يرثونها من آبائهم ويرتاحون إليها في تراثاتهم. لا ريب في أنّ المشكلة الفكريّة الأخطر تتجلّى في هذا السؤال: هل تفرض التصوّراتُ الآيديولوجيّة على العقل أن يُعرّف ذاتَه تعريفاً يناسب ما تعتمده هذه التصوّرات القبْليّة من حقائق؟ أم إنّ العقل يستولد الآيديولوجيات وفقاً لحيويّته الذاتيّة التفكّريّة النقديّة؟ ما العلاقة بين العقل والآيديولوجيا؟ وأيّهما أسبق إلى المبادرة وإخضاع الآخر والناس والمجتمعات؟
في هذا السياق، لا بدّ لي من أن أستحضر أيضاً الفيلسوف الألمانيّ غادَمر (1900 - 2002) الذي رسم أنّ مجموع اللغة التي يستخدمها قومٌ من الأقوام هي بعينها العقل. جميلٌ هذا الكلام، ولو أنّه خطيرُ الأثر. ذلك بأنّ العقل يضحي متماهياً بالكلمات والمفردات والاصطلاحات والعبارات التي تختزنها اللغة. إذا كان لكلّ لغةٍ عقلٌ يناسبها، فإنّ لكلّ حضارة عقلاً يُعبّر عن هويّتها وذاتيّتها.
لذلك يمكننا أن نصوغ المعادلة البليغة هذه: قلْ لي كيف تُعرّف العقلَ وبماذا تُزيّنه، أقلْ لك ما التصوّر الفكريّ الأرحب الذي تركن إليه وتعتمده! بيد أنّ الناس لا يحبّون أن يذهبوا مذهباً بعيداً في التحرّي عن عمليّات العقل. فلا أراهم يستحسنون أن يُعرّوا عقولهم من الألبسة المعرفيّة والالتحافات الانتمائيّة والمبايعات الآيديولوجيّة التي تضمن لهم الانتظام الهنيّ في مسالك الوجود المربكة. من الثابت، والحال هذه، أنّ الإجماع على تعريف العقل ينشئ الوحدة الحضاريّة، ويوطّد اللحمة القوميّة، ويعزّز الوئام الاجتماعيّ. وفوق هذا كلّه، يريح مثلُ هذا الإجماع الإنسانَ من إرباكات القلق التي تعتصر وعيه، وتزعزع مداركه، وتُضعف منعته الكيانيّة.
خلاصة القول أنّ المجتمعات الإنسانيّة، قبل أن تقتحم ميدان الحوار الفكريّ الحضاريّ، ينبغي أن تنظر نظراً جريئاً مجرّداً موضوعيّاً في الهويّة التي تُلصقها بالعقل، وفي الطبيعة التي تَنسبها إليه، وفي القدرات التي تمنحه إيّاها، وفي الحقائق الثابتة التي تفترضها فيه. وحده مثل العمل النقديّ الصريح هذا يُعفي حوار الحضارات من مشقّات الالتباس والاضطراب ومحَن التورية والتمويه والمواربة والمخادعة والنفاق. وعلاوةً على هذا كلّه، لا بدّ من النظر النقديّ في استغلال العقل استغلالاً آيديولوجيّاً يَستعبده ويُكبّله بسلاسل المصالح والمنافع. فالعقل يجب أن يبقى عنوان الحرّيّة في الكائن الإنسانيّ يستخدمه من أجل تعزيز انسجامه الوجدانيّ الأشمل، وتوثيق المعيّة الإنسانيّة المبنيّة على الإقرار بشرعة حقوق الإنسان الكونيّة والاعتراف بالاختلاف سبيلًا إلى التقابس والتلاقح والتطوّر الذاتيّ، وضبط مسار الانفتاح على العالم ووقائعه ومتطلّباته وتحدّياته.
هل يمكننا، في نهاية المطاف، أن نتّفق على ما ينبغي أن يحتويه العقلُ في الحدّ الأدنى من المسلّمات الضروريّة النافعة في صون كرامة الإنسان ورعاية المساواة الكيانيّة وتعزيز الأخوّة والعدالة والتضامن الكونيّ؟ الحقيقة أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اجتهدت في استخراج مضامين المعنى الإنسانيّ واستودعتها في تراثها الأدبيّ والفلسفيّ والفنّيّ. غير أنّ خصوصيّة شرعة حقوق الإنسان العالميّة تتيح لنا أن نستصفي الحدَّ الأدنى من المضامين الإنسانيّة العليا التي يجدر الإجماع عليها حتّى ينعتق العقل الإنسانيّ من الإضافات المغرضة، والإحالات الملتبسة، والاستزادات النفعيّة. فلنَضعْ في صميم العقل مبادئَ الشرعة الكونيّة هذه، ولنجتهد في نصرتها، من غير أن نفني طاقتنا وحياتنا من أجل إخضاع الآخرين لحقائقَ ندّعي أنّها من صلب البنية العقليّة، في حين يعرف العقلاءُ أنّها من صناعة الهوى الآيديولوجي المهيمن.
- كاتب ومفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».