هل تعرف نينا ديلون؟

ولأن كل الأخبار الآتية من روسيا تحمل رائحة البارود، لا بأس من حكاية لتلطيف الأجواء. وهي تبدأ بالتهجير وتنتهي إلى غير ذلك.
أرسل لي الأديب والسينمائي بولص آدم، المقيم في النمسا، معلومات برقية عن نينا ديلون. يقول إن العرب لا يعرفون عنها شيئاً. يظنّ آدم، أو يتوهم، أنني متخصصة في (الطشّار) العراقي. أي مواطنينا الذين تفرقوا في جهات الأرض الأربع. فمن تكون الست نينا يا صديقي الباحث المتواري وراء الثلوج؟ أجاب أنها مغنية آشورية من أصل عراقي تغني على مسارح موسكو. تحرص في كل حفل لها على التذكير بأن جذورها تمتد في بلاد النهرين.
ولو أراد روائي أن يلتقط الخيط فإنه سيخرج بكتاب جميل عنوانه «آدم ونينا». ففي ثمانينات القرن الماضي عرض في بغداد فيلم «هؤلاء وأولئك» للمخرج الفرنسي كلود ليلوش. وهو يتضمن أغنية للفنانة الاستعراضية نيكول كروازي. وبمناسبة الفيلم دعيت كروازي للغناء في العاصمة العراقية. وكان بولص آدم بين الحضور. وكما هي العادة مع الممسوسين بالفن، ذهب بعد الحفل لتحيتها في الكواليس. وهناك سمع أحد الموسيقيين المرافقين لها يتحدث عن سيدة عراقية تقيم في مرسيليا وتبرع في أداء أغنيات إديت بياف. هل كانت تلك نينا أم والدتها؟
وقع آدم، في العام الماضي، على برنامج روسي لاكتشاف المواهب الغنائية. استهواه البرنامج لأنه مخصص لمن تجاوز الستين. استعان بمن يترجم له ما يجري على الشاشة. وكانت الفائزة تدعى نينا ديلون. سيدة تشبه شقيقته الكبرى المقيمة في كندا. ذلك هو قانون (الطشّار) العراقي. تتبعثر العائلات بين القارات. شعر بأن هناك ما يربطه بالمغنية الروسية. بحث عنها في دهاليز الإنترنت وخفق قلبه حين وقع على مقابلة لها تلفظت فيها بعبارات باللغة الآشورية. قالت إن أصلها من قرية جيلو، شمال العراق. من يعرف جيلو أكثر من آدم؟
هذا هو الجانب المضيء من الحكاية. أما المعتم فهو أن قرية جيلو الواقعة على أحد روافد دجلة، كانت من المناطق التي تعرضت لبطش العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وقائع حملت اسم مذبحة الآشوريين. وكان أن هربت جدة نينا مع من هربوا من القرية المنكوبة وافترقت مرغمة عن زوجها. لم يجتمعا إلا بعد خمسة عشر عاماً في مرسيليا. وهناك رأت والدتها النور. حملت الطفلة اسم «خمي» أي الحزن. كان خال الطفلة قد نزح إلى روسيا. أرسل بطلب شقيقته. وفي موسكو ولدت نينا التي ورثت عن أمها عذوبة الصوت. تغني بالروسية والفرنسية. ولعلها تولعت بالممثل ألان ديلون فاستعارت اسمه.
جاء في سيرة نينا أنها تزوجت أرمنياً أخذها إلى عاصمته يريفان. تلقت هناك طلبات للغناء في الإذاعة لكن زوجها رفض استمرارها في الفن. انكفأت وركزت على تربية طفليها. ثم انفصلت عن زوجها وعادت إلى موسكو. كانت في الخامسة والأربعين يوم انتسبت إلى أكاديمية للغناء وانطلقت تغني على المسارح. اشتهرت نينا ديلون بأنها خير من يقلد حنجرة المغنية الفرنسية إديت بياف. أما آدم الذي ما زال يتابعها في حواراتها فقد سمعها تغني بالآشورية «يا أمي» للمطربة ليندا جورج. وهذه بغدادية أخرى أخذها (الطشّار) إلى أميركا.
زارت نينا ديلون باريس عدة مرات وغنت مع شارل أزنافور. ولما عرض فيلم عن إديت بياف في افتتاح المهرجان السينمائي للاتحاد الأوروبي في كالينينغراد، دعيت لأداء أغنية «الحياة باللون الوردي». هناك دائماً ما يدفع الكائن البسيط للتمسك بالوردي، لا سيما في أزمنة الرماد.