برز نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، منذ 2017 بدوره الاجتماعي والسياسي الكبير في تونس وخارجها، باعتباره زعيماً لأقوى نقابات العمال التونسية والعربية، التي فازت بجائزة نوبل للسلام عام 2015، ولعبت ولا تزال تلعب منذ استقلال تونس عن فرنسا عام 1956 دوراً «تعديلياً» بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، وبين رجال الأعمال والحكومة والعمال في البلاد.
ولقد ساهمت الصراعات بين الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد، ثم بين الرئيس قيس سعيّد ورئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي، في مضاعفة الدور السياسي للطبوبي والمركزية النقابية، رغم كل الانتقادات الموجهة إليها. وأوشكت وساطات الطبوبي وجهوده المبذولة منذ أشهر في احتواء الأزمة السياسية بين الرؤساء الثلاثة وكبار صناع القرار الوطني، عبر «مبادرة حوار وطني» أطلقها الطبوبي ورفاقه في اتحاد الشغل، ورحّب بها الرئيس سعيّد وخصومه وقادة معظم الأحزاب، لكن وقع التراجع عن دعمها.
نعم، أوشكت التحركات الماراثونية التي قام بها الطبوبي بين رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان أن تفرز «خريطة طريق توافقية» جديدة، على غرار ما حصل في أزمة 2013. لكن تلك «الوساطات» فشلت في آخر المطاف، وتسارعت الأحداث في اتجاه القطيعة والصدام، ما أدى إلى قرارات 25 يوليو (تموز) الرئاسية، وبينها إسقاط الحكومة وتعليق عمل البرلمان وإلحاق كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية «مؤقتاً» بقصر رئاسة الجمهورية، بحجة «إنقاذ البلاد من خطر داهم».
نوّه نور الدين الطبوبي وقيادة نقابات العمال التونسية بالقرارات الرئاسية الأخيرة، واعتبرها «تفاعلاً مع غضب الشعب على الحكومات المتعاقبة التي فشلت اقتصادياً واجتماعياً». بيد أن القيادي النقابي البارز طالب الرئيس التونسي قيس سعيّد وفريقه بإعداد «خريطة طريق وطنية جديدة لإخراج البلاد من أزمتها»، تساهم في صياغتها «كل الأطراف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية».
الرئيس سعيّد رحّب أول الأمر بالشراكة مع زعيم النقابات العمالية ورفاقه رؤساء نقابات رجال الأعمال والفلاحين والمحامين والصحافيين. غير أنه تراجع عن ذلك، في وقت أورد مقربون منه وقياديون في النقابات أن «مسار التغيير ومحاسبة الفاسدين والمنظومة السياسية القديم» يجب أن يشمل كل الأطراف، بما في ذلك بعض الهيئات النقابية والسياسية «التي كانت جزءاً من المشهد السياسي خلال الأعوام العشرة الماضية وقبل ثورة 2011».
في الواقع، ضعف تأثير نور الدين الطبوبي وزعماء النقابات والأحزاب بعد 25 يوليو بسبب توقف الرئيس قيس سعيّد عن دعوتهم لجلسات الحوار والتفاوض معه أو مع أحد مستشاريه أو مع الوزراء «المؤقتين». بيد أن مكتب زعيم نقابات العمال ظل «قبلة للزوار». إذ توافد عليه البرلمانيون والسياسيون المعارضون والوزراء السابقون ورؤساء البعثات الدبلوماسية الأجنبية، بضمنهم سفراء فرنسا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
ورغم الانتقادات التي وجّهتها عدة أطراف لظاهرة «تدويل الأزمة التونسية» واجتماعات بعض الزعماء السياسيين والنقابيين مع سفراء ومبعوثي دول أجنبية، أورد بيان توضيحي عن مكتب زعيم النقابات التونسية أن «الفرق بين بعض السياسيين وقيادة اتحاد الشغل أن السفراء والضيوف الأجانب يزورون مقر الاتحاد، وليست القيادة النقابية هي التي تنقلت إلى مقراتهم».
وللعلم، انتقد الرئيس التونسي خلال اجتماعه بوفد من الكونغرس الأميركي أخيراً مقابلات بعض الزعماء النقابيين والسياسيين مع شخصيات أجنبية، من دون تسميتهم، واتهمهم بـ«تشويه صورة وطنهم وصورة رئيسهم». لكن مكتب الطبوبي بقي يستقطب الزوار من كل التيارات السياسية والنقابية التي تلتقي معه ومع مساعديه في مطالبة رئيس الجمهورية بالتعجيل في تشكيل حكومة جديدة تتفاوض مع النقابات والقوى الوطنية حول «خريطة طريق» المرحلة المقبلة.
في المقابل، ردّ سعيّد على الطبوبي والقيادات النقابية والسياسية، متهكماً: «مَن يبحث عن الخرائط فليبحث عنها في كتب الجغرافيا»، وتابع القول إن أولويته المطلقة مواصلة «الحرب على الفساد» والضغط على الأسعار وتحسين ظروف عيش الشعب. ومن ثم، اتهم النخب السياسية و«مسؤولين في كل المواقع» بالانقلاب على ثورته ووصفهم بـ«الخطر الداهم» و«الخطر الجاثم» فوق صدور الشعب. وهنا، ردّ بعض مساعدي الطبوبي، بينهم الزعيم اليساري سامي الطاهري، على تصريحات رئيس الجمهورية، فأعلن الطاهري أن المركزية النقابية تطالب رئيس الدولة بـ«خريطة طريق سياسية، وليس خريطة بمفهوم كتب الجغرافيا».
حق المعارضة
ومن جانبه، عاد الطبوبي عند إشرافه على مؤتمر نقابة عمال قطاع التربية والتعليم خلال الأسبوعين الأخيرين إلى مطالبة رئاسة الجمهورية بـ«الكشف عن برنامج عملها الإصلاحي». واعتبر الأمين العام أن من حقه ومن حق كل الأطراف النقابية والسياسية أن تسانده أو أن تعارضه أو تقترح تعديلات. كذلك شدد الطبوبي على علوية صناديق الاقتراع وواجب احترام الرأي والرأي المخالف وحق المعارضة في التعبير عن رأيها والمطالبة بحرية التعبير والتنقل والتظاهر، بما يكشف إصراراً منه على لعب دور وطني أكبر في المرحلة المقبلة أيضاً.
ومن ناحية ثانية، ذهب محمد المسلمي، أحد نواب الطبوبي في المركزية النقابية، بعيداً، إذ أعلن في مؤتمر نقابة قطاع الكهرباء والغاز، فقال: «(الرئيس) قيس سعيّد يعتبر القيادة النقابية والمنظمات العمالية جزءاً من المنظومة القديمة» التي يجب تغييرها، وهو لا يكتفي بنقد الأحزاب والبرلمان والحكومات السابقة.
حوار وخلافات قديمة
في أي حال، إذ نجح الزعيم النقابي نور الدين الطبوبي في تصدر المشهد السياسي والاجتماعي على غرار أغلب زعماء اتحاد الشغل منذ محمد الفاضل بن عاشور وفرحات حشاد قبل 1952، ثم أحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور في عهد الحبيب بورقيبة، فإن مؤشرات كثيرة توحي بأن قصر قرطاج يسعى للحد من التأثير المباشر لزعيم «أقوى النقابات التونسية والعربية منذ 75 سنة» في قرارات الدولة.
هنا، نشير إلى أن الرئيس سعيّد كان قد حافظ منذ دخوله قصر قرطاج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 على تقليد ورثه عن الرئيس الباجي قائد السبسي، يتمثل في عقد جلسات حوار وتفاوض دورية مع أمين عام نقابات العمال. ثم إنه استقبل في بداية دورته كل أعضاء المركزية النقابية، وفتح بالمناسبة حواراً مفتوحاً مع رموزها «اليسارية والقومية» التي كان بعضها انتقد مواقف سعيد السابقة المعارضة للمساواة في الإرث بين الجنسين ولحقوق المثليين وللاجتهاد فيما فيه نص قرآني واضح.
أيضاً، نجح سعيّد، على غرار سلفه قائد السبسي، في توظيف علاقته بزعيم النقابات لإضعاف بعض خصومه، وخاصة رئيسي البرلمان والحكومة راشد الغنوشي وهشام المشيشي. ثم سعى إلى توظيفها لإضعاف «حزامهما السياسي»، وخاصة حزب «حركة النهضة» والكتل البرلمانية المتحالفة معه، بينها حزب «تحيا تونس» بزعامة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد وحزب «ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. لكن يبدو أن المقرّبين من الرئيس سعيّد لم يغفروا للطبوبي وبعض القريبين منه، وبينهم نائبه الأول كمال سعد، الأمين العام المساعد المكلف بالهياكل، والناطق الرسمي سامي الطاهري، انتقاداتهم للرئيس قبل أسابيع لـ«تعطيله» مشروع الحوار الوطني الذي اقترحته المركزية النقابية منذ أواخر العام الماضي. كذلك، لم يغفروا لهم تلويحهم بـ«تنظيم حوار وطني مستقل» عن رئاسة الجمهورية أو «موازٍ» له.
وبلغت أزمة الثقة أقصاها عندما أعلن مساعدا الطبوبي «سحب مشروع الحوار الوطني من رئاسة الجمهورية»، ثم عندما دعا الطبوبي نفسه في يونيو (حزيران) الرئيس التونسي ورئيسي الحكومة والبرلمان إلى الاستقالة و«إرجاع الأمانة إلى الناخبين» بحجة عجزهم عن معالجة مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتراكمة. وبينما يعتقد بعض الخبراء والمتابعين أن أزمة الثقة تعمقت بين الرئيس سعيّد وزعيم نقابات العمال منذ أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي ومصادقة البرلمان على حكومة هشام المشيشي الثانية، رفض الطبوبي الانخراط في مسار دعوة سعيّد لإسقاطها... وطالب بعقد عدة جلسات عمل في قصر قرطاج وفي قصري الحكومة والبرلمان لدعمها، مقابل تعويض 4 وزراء اتهمهم الرئيس والمقربون منه بـ«شبهات فساد».
سيرة شخصية
ولد نور الدين الطبوبي يوم 8 فبراير (شباط) 1961، في محافظة باجة بريف الشمال الغربي التونسي (100 كيلومتر غرب العاصمة تونس). وهو متزوج وله 4 أولاد.
بعدما تجاوز الـ30 من عمره، خاض الطبوبي عدة تجارب في نقابة العمال، وترأس لأول مرة نقابة أساسية محلية في شركة اللحوم الحكومية بضاحية الوردية، جنوب غربي العاصمة. وعلى الرغم من استقلاليته الحزبية، فإنه ساند خلال عقد التسعينات مَن تبقى من القيادات النقابية الوفية للزعيم النقابي الحبيب عاشور. وكان عاشور قد سُجن مراراً إبان حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بعدما اتهمه بالمشاركة في «معركة خلافته» مع عدد من كبار الوزراء ومع زوجته وسيلة بن عمار والزعيم الليبي معمر القذافي ومعارضين للحكم.
هذا الانحياز لـ«النقابيين العاشوريين» و«اليسار الوسطي المعتدل»، بزعامة علي رمضان، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل والمسؤول السابق عن قطاع الفلاحة والصيد البحري، ساعد الطبوبي على تحمل مسؤوليات في النقابة العامة لقطاع الفلاحة.
ومع أن الطبوبي بقي لبعض الوقت في الصف الثاني للمسؤوليات النقابية، فإنه تلقى الدعم من عدد من القياديين المحسوبين على الحبيب عاشور الذين دعموه، لعل أبرزهم عبد النور المداحي الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، وعبد الجليل البدوي، وكمال سعد، وعلي رمضان (الزعيم النقابي العاشوري منذ إضرابات 1978). وكذلك الطيب الورايري الكاتب العام لنقابة الكهرباء والغاز.
بعدها شغل نور الدين الطبوبي مسؤوليات كثيرة، بينها عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل في جهة العاصمة، التي كانت تضم بمفردها نحو 100 ألف عضو، وكانت فعلياً تتحكم في سير العمل والإضرابات والمفاوضات مع كبريات الشركات الاقتصادية ومع الحكومة. ولقد أسهم وصول الطبوبي إلى هذا الموقع، الذي يتميز بثقله الانتخابي والسياسي الكبير، بتقريبه أكثر من زعماء النقابة «العاشوريين» عبد السلام جراد وعلي رمضان وعبد النور المداحي ورشيد النجار وحلفائهم من «اليسار المعتدل» مثل محمد الطرابلسي وحسين العباسي.
ومن ثم، عمل الطبوبي أميناً عاماً مساعداً للمكتب الجهوي بتونس. وعندما قرر الأمين العام لاتحاد الشغل عبد السلام جراد عام 2009 «تجميد» النقابي الكبير توفيق التواتي من منصب الكتابة العامة، فإنه أسند هذا المنصب إلى الطبوبي. وبعد سنتين، انتخب الطبوبي عضواً في المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد، مستفيداً من قرار انسحاب أغلب أعضاء القيادة المتخلية بحجة أنهم أمضوا 10 سنوات فيها. وكان بين المنسحبين القيادي النقابي المخضرم علي رمضان، فخلفه في مسؤولية «النظام الداخلي» وهي أهم موقع بعد موقع الأمين العام.
وجاء مؤتمر عام 2017، الذي كان فيه على غالبية القياديين الانسحاب، بينهم الأمين العام حسين العباسي (وهو شيوعي سابق أمضى 10 سنوات في القيادة). وخلال المؤتمر، انتخب الطبوبي أميناً عاماً جديداً إثر فوز قائمة «الوحدة النقابية» التي ترأسها بجميع مقاعد المكتب الجديد.
التوازن الصعب
لقد نجح نور الدين الطبوبي منذ توليه القيادة النقابية في تحقيق قدر لافت من التوازن في علاقاته بمختلف التوجهات الفكرية والسياسية العاملة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، ما جعل منه أحد آخر «الزعماء الكاريزميين» في أقوى نقابة عمال تونسية وعربية، إلا أن مصيره ومصير غيره من «القادة النقابيين والسياسيين» في تونس يظل رهين تطورات المشهد السياسي والأوضاع الأمنية والاجتماعية الاقتصادية... ولا سيما بعد «زلزال 25 يوليو» الماضي الذي أطاح بالحكومة والبرلمان، ويوشك أن يطيح بمزيد من الرؤوس والمؤسسات.