حنا صالح
كاتب لبناني
TT

... والمجرم واحد!

الحصانات والإفلات من العقاب... المجرم واحد.
المحاصصة في نهب المال العام... المجرم واحد.
التهجير... والتفجير... المجرم واحد.
هي بعض من الشعارات التي رفعها أهالي ضحايا جريمة تفجير مرفأ بيروت، بعد أقل من 24 ساعة على حملة الأمين العام لـ«حزب الله»، التي استهدفت قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار، وإلصاق تهم «التسييس» و«التواطؤ» به، والضغط المتجدد عليه، فإما أن يتبنى التقرير التقني عن التفجير، أي أن ما حصل «قضاء وقدر» ناجم عن إهمال ارتكبه عمال أثناء «عملية تلحيم»، أو إبعاد الرئيس بيطار عن القضية كما جرى مع سلفه القاضي فادي صوان.
أهمية هذه الشعارات، وفي هذا التوقيت، أن أكثرية كبيرة من اللبنانيين رفضت مقولات كان يتم الترويج لها أواخر الحرب الأهلية، سداها ولحمتها طمس الحقيقة ونسف العدالة ومنع المحاسبة، بالقول إننا كلبنانيين كلنا نتحمل المسؤولية نفسها، كلنا ضحايا وكلنا شركاء في الإجرام، امتداداً لمقولة يتم تردادها: «كما تكونوا يولى عليكم». لكن الناس أهل الضحايا، كما الضحايا الأحياء، وكل المتضررين، رأوا أن المواطنين ضحايا لمجرم واحد، ومنظومة واحدة. وهم في هذا القول عادوا إلى الأيام الأولى لـ«17 تشرين»، يوم رفعت الثورة الشعار الذي تأكدت صدقيته: «كلن يعني كلن»، بما معناه أن المواطنين حددوا بدقة الجهة المسؤولة عن نهبهم وتجويعهم وانتهاك كراماتهم، وقالوا لكل الطبقة السياسية لنا عليكم حقوق وسنحاسبكم.
الأمر الأكيد أن سياسة منظومة الحكم لم تنجح، فالبلد يمر في حالة قطيعة كاملة بين أكثرية ساحقة من جهة، ومن الجهة الأخرى أقلية متجبرة متمسكة بكراسي الحكم تابعة لدويلة «حزب الله» وتحتمي ببندقيته اللاشرعية. وكل الممارسات العنفية التي شهدها لبنان وكانت موضع تقارير منظمات دولية ذات صدقية، لم تنجح لا في التطويع ولا في التدجين، رغم كل ما رافقها من تهويل واتهام وتحريض ضد المحتجين السلميين، إلى تركيب الدعاوى وما رافقها من توقيفات تعسفية. واتسعت القطيعة مع السلطة التابعة كلما كانت تمعن في القمع الوحشي وقد تسببت في إطفاء نور عيون أكثر من 100 من الشبان المحتجين.
حتى اليوم هناك بعض التعادل السلبي. تتخبط منظومة الفساد عاجزة عن مواصلة نهجها وكأن الوضع عادي والأمور ماشية، لكنها في العمق لم تتراجع وتتجاهل وجع الناس. وعلى مدى سنة كاملة كل البحث يدور خارج الهموم الداهمة – الكوارث التي يعيشها الناس، وخارج ما آل إليه وضع لبنان المعزول والمنهوب والمصادر القرار، في إصرارٍ على إدارة الظهر لكل المسؤوليات الملقاة على السلطة، غير العابئة بمن يموت على أبواب المستشفيات أو يُقتل على محطة الوقود، ولا تهتم بالإذلال الجماعي الذي طال أكثرية اللبنانيين. وبالمقابل وجدت قوى التغيير نفسها أمام حائطٍ مسدود، فعجزت عن بلورة القوة الموحدة للمعارضة السياسية، فلم تنجح في تقديم ميزان قوى يظّهر البديل السياسي. ما زال هذا العجز مستمراً، رغم الاستعداد الشعبي والرغبة في التغيير، وقد عبّرت المظاهرة المليونية في الرابع من أغسطس (آب) عن هذا المنحى، عندما جددت الأكثرية الشعبية رفضها لنظام الإذلال المتحكم في الرقاب باسم الطائفة والمذهب.
كل مراقبة جدية للتطورات اللبنانية المتسارعة، وبينها الاقتتال المستمر على الحصص، والمواقع، والأدوار المستقبلية فيما هم يضيعون الجمهورية، تؤكد أن تصدع نظام المحاصصة الطائفي أعمق بكثير من أن ينجح «حزب الله» في ترميمه، هذا إذا كان يريد ذلك، ولا يدفع البلد إلى التحلل. كل ما يظهر للعيان، أمام الداخل والخارج، يشي بأن هناك برابرة قفزوا إلى السلطة في لحظة مكافأة الخارج لرأس النظام السوري إثر حرب الخليج، فتمادوا في النهب وتهريب الأموال وصولاً إلى القرار الأخطر بنقل الثروة إلى الخارج.
الأمر المثير اليوم، أن التمادي في هذه الممارسات، يبرز ارتياحاً لدى السلطة التي يقف خلفها «حزب الله» كحامٍ لهذه الممارسات، التي تعتبر اللبنانيين شعباً زائداً. وهم رغم خلافاتهم على الأحجام، بدليل ما يجري من قتال على المحاصصة الحكومية، يظهرون اطمئناناً مفاده أن اللبناني في نهاية المطاف يتكيف رغم المآسي، لذلك نراهم توحدوا حول القضية – المفتاح، وهي مصادرة الحقيقة ومنع العدالة والمحاسبة. فرغم الهبّة الشعبية ودلالاتها غير المسبوقة في الرابع من أغسطس، تحت عنوان إسقاط الحصانات وإنهاء زمن الإفلات من العقاب، وجه الرئيس بري الدعوة لجلسة نيابية تعقد اليوم الخميس، للتصويت على طلب وقعته بعض الكتل، بعضها متعارض شكلاً مع الآخرين، لكنهم في مركب واحد، يريد التنصل من الجريمة، والأهم الإفلات من التحقيق القضائي، فيلتقون على تهريب الوزراء السابقين المدعى عليهم بالجناية، بالذهاب إلى فتح تحقيق برلماني موازٍ، تمهيداً لإحالتهم إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهو مجلس وهمي غير موجود.
لقد تجاوزوا كأكثرية نيابية خلافاتهم، وتوحدوا ضد العدالة وضد المحاسبة التي يمثلها اليوم قاضٍ شجاع، تجرأ على المسكوت عنه، فادعى بجرم الجناية بالقتل على كل الطبقة السياسية وذراعها العسكرية والأمنية وبدأ منحى فك الألغاز: كيف وصلت شحنة الموت؟ ومن أمر بالمصادرة والتخزين ولماذا؟ كما قصة الحماية وتغطية عمليات سحب ألفي طن منها، إلى القبول باحتمال حدوث تفجير مروعٍ مدمر للعاصمة... كل ذلك متوقف في بعض جوانبه على استجواب المدعى عليهم. وهو استجواب سيكشف أبعاد سيادة «حزب الله» على الأرصفة والعنابر ومن خلفه دولة الولي الفقيه. ولقد آن الأوان للتأكيد أن اطمئنان المتسلطين في غير مكانه، فمنذ «17 تشرين» وبعد «4 آب»، برزت متغيرات عميقة في سلوك الجماعات اللبنانية، لو توفرت الأداة التنظيمية الكفاحية للبنانيين، لمقاومة احتلال مقنّع، فإن الصورة ستتغير ولن يستمر هذا المشهد.
كمؤشر على هذا التحول الشديد الأهمية، فإلى الشعارات، إن المظاهرة المليونية التي فاقت كل التوقعات، كسرت الترغيب والترهيب والوعيد، وقالت إن زمن التطييف لاستمرار التدجين انتهى. ومن بلدة شويا الحدودية كانت رسالة التجرؤ الأكبر، عندما اعتقل الأهالي مجموعة عسكرية من «حزب الله» وصادروا راجمة صواريخ استخدمت في عملية قصف «لأراضٍ مفتوحة» لتثبيت مقولة: لبنان الساحة (...)، ليعلنوا باسم الجنوب، وباسم أكثرية اللبنانيين، أن لا ديمومة لزمن الاسترهان، وأن لبنان ليس صندوق بريد، ولا مصلحة له بهذا الربط مع الصراع في المنطقة وبملف التفاوض النووي وكل الأجندة الإيرانية، غير عابئين بكل تلك الهالة التي رسمت طيلة عقود حول «المقاومة». كما أن أحداث المدخل الجنوبي لبيروت والمواجهات بين العشائر و«الحزب» معبرة بدورها، رغم عدم وجود رابط مباشر مع الأحداث الأخرى المشار إليها أعلاه.