السفراء الروس والمشاعر والمصالح

إن ما دفعني لكتابة هذا المقال، التفكير في الحالات الاستثنائية التي يضع أنفسهم فيها سفراء القوى الأجنبية في دول الشرق الأوسط. الحديث هنا لا يدور عن أحداث مأساوية، مثل الاغتيال الغادر للسفير الروسي لدى تركيا، أندريه كارلوف، أو مقتل السفير الأميركي لدى ليبيا، كريستوفر ستيفنز، ولا حتى عن الأخطار التي تتربص برؤساء وموظفي البعثات الدبلوماسية أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، وإنما عن الحالات الدنيوية، بما في ذلك تلك التي تثير التساؤل عن المدى الذي يمكن فيه للدبلوماسيين رفيعي المستوى إطلاق العنان لعواطفهم ومشاعرهم أثناء عملهم.
في 19 مارس (آذار) 1966، كتب أليكسي شيبورين، رئيس قسم دول الشرق الأوسط بوزارة خارجية الاتحاد السوفياتي حينها، في مذكرة سرية لقيادته، أن السفير السوفياتي لدى إسرائيل ديمتري تشوفاخين، «الذي تكرر ظهوره في الفترة الأخيرة في منظمات إسرائيلية مختلفة، لا يأخذ دائماً في الاعتبار خصوصيات الوضع في الشرق الأوسط، خصوصاً الصراع العربي - الإسرائيلي، وكذلك طبيعة العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والدول العربية».
واعتبر رئيس القسم أنه بات من المناسب «لفت انتباه تشوفاخين إلى ضرورة إبداء الحذر الخاص والمرونة الأكبر في خطاباته حول الوضع في الشرق الأوسط وسياستنا في هذه المنطقة، ونصحه بالتمعن في اختيار الجمهور الذي يتحدث أمامه».
فما هو سبب هذا الامتعاض؟ في 12 مارس، أبلغ السفير السوفياتي في بغداد، موسكو، عن ظهور سلسلة من المقالات في الصحافة العراقية تحت عناوين «تصريح غريب للسفير السوفياتي»، و«موسكو تريد اتفاقاً بين العرب وإسرائيل»... وهكذا دواليك. أفادت الأنباء بأن شوفاخين صرح، أثناء حديثه خلال مأدبة غداء في منظمة «المؤتمر اليهودي» في تل أبيب، بأن «بلاده تريد إنهاء سباق التسلح في الشرق الأوسط، والتوصل إلى اتفاق بين العرب وإسرائيل حتى يتسنى لشعوب هذه المنطقة رفع مستوى معيشتهم». في الوقت نفسه، ذكرت وكالة «تاس» للأنباء أيضاً أنه في صحيفة «المنار» العراقية الصادرة بتاريخ 12 مارس، ظهرت مقالتان تحت عنوانين تضمنا تعابير قوية مثل «تصريح استفزازي للسفير السوفياتي» و«تغييرات خطيرة في سياسة موسكو تجاه القضية الفلسطينية»، أشارتا في محتواهما إلى الاستغراب من أن السفير يقدر عالياً نشاطات «العصابات الإسرائيلية».
اضطر بعدها تشوفاخين لتبرير موقفه. أكد أنه كان حينها يتحدث فقط عن اقتراح موسكو إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، التي من شأنها أن تساعد في تخفيف التوترات في المنطقة، وأن تصبح «الخطوة الأولى نحو إنهاء سباق التسلح».
بالتوازي مع هذه الأحداث تقريباً، أعلن السكرتير الأول لسفارة الجمهورية العربية المتحدة في موسكو، في 7 مارس، في مقابلة مع مستشار قسم الشرق الأوسط، فيليكس فيدوتوف، أن مستشار سفارة الاتحاد السوفياتي في إسرائيل، إيفان ديديوليا، قال لمراسل صحيفة «جويش كرونيكل»، إنه سيكون سعيداً إذا انتصرت «روح طشقند» (حيث كانت هناك مصالحة تاريخية بين زعيمي الهند وباكستان) في العلاقات بين العرب واليهود، وأن «الاتحاد السوفياتي سيكون مستعداً للوساطة بين الدول العربية وإسرائيل إذا طلب الجانبان ذلك». اضطر فيدوتوف أن يوضح للدبلوماسي المصري أن موقف موسكو الداعم للعرب لم يتغير، وأنها لا تتحمل أي مسؤولية عن تلفيقات الصحافة المعادية لصداقتها مع العرب، ولم يتم التخطيط للوساطة. وهكذا تمت تسوية الحادث.
أعتقد أن تشوفاخين اتخذ بعض الخطوات مع مراعاة تعليمات موسكو، ظناً منه أنها ستساهم في إنجاح مهمته، والبعض الآخر اتخذه، مع مراعاة الحذر، بمبادرة خاصة منه. أشار بعض المراقبين المحليين إلى أن السفير كان على ما يبدو متعاطفاً مع إسرائيل. يُزعم أن تشوفاخين وفقاً لمذكرات السياسيين الإسرائيليين، انفجر في البكاء عند مغادرته مكتب وزارة الخارجية الإسرائيلية حين زارها لإخطار القيادة رسمياً بقطع موسكو للعلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب بعد «حرب الأيام الستة» عام 1967، لكن من الصعب تصديق ذلك، لأنه ليس من قبيل المصادفة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ليفي إشكول، وصف تشوفاخين بأنه رجل متعجرف وقاس. «لقد كان مزعجاً: وكان دائماً، حتى في أشد درجات الحرارة، يرتدي بدلة من ثلاث قطع ويعطي انطباعاً بأنه بيروقراطي حقيقي، وبيروقراطي متغطرس غير مبال». وتتذكر عقيلة رئيس الوزراء مريام إشكول: «ربما لم يكن كذلك، لكنه تصرف ببساطة وفقاً لتعليمات سلطات موسكو.. لقد ترك انطباعاً سلبياً للغاية لدى الجميع. المسكين لم يكن محبوباً».
بشكل عام، غالباً ما يظهر لدى السفراء شعور بالتعاطف أو الكراهية تجاه البلد المضيف، وهو نادراً ما يؤثر على حالة العلاقات بين البلدان التي يمثلونها وتلك التي يعملون فيها. عند تنفيذهم لتعليمات قيادتهم، ليس لديهم الحق في إظهار مشاعرهم، ولكن في بعض الأحيان يحدث ذلك، وغالباً ما ينتهي بفضيحة أو حتى إعلانهم «أشخاصاً غير مرغوب فيهم» أو طردهم. البعض منهم، بعد تقاعده، يصب ما لديه من امتعاض ومشاعر متراكمة في مذكراتهم.
تم في العام الماضي في موسكو نشرُ مذكرات الدبلوماسي الروسي الشهير المتوفى مؤخراً، المستعرب فاسيلي كولوتوشا، الذي شغل في أوائل التسعينات منصب رئيس إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة خارجية الاتحاد السوفياتي من ثم روسيا، تحت عنوان «من دون ختم السرية أو حكايات مترجم قديم». يتحدث فيها السفير، الذي عمل طوال حياته في دول المنطقة، بصراحة، عن تقلبات الخدمة في مجال السياسة الخارجية، وعن لقاءاته العديدة مع كبار رجال الدولة والشخصيات السياسية في الدول العربية، بمن فيهم رؤساؤها. يشاطر القراء انطباعاته بصدق عن قادة دول المنطقة الذين عمل معهم مترجماً شاباً، أثناء المفاوضات بينهم وبين القادة السوفيات، ومن ثم خلال عمله في سفارات بلاده.
من الصعب للغاية الحفاظ على الموضوعية والحياد في مثل هذه المذكرات، وهو أمر سيئ، لأن العديد من أولئك الذين يقيّمهم في مذكراته لا يزالون يعملون في مجال السياسة. مثل هذه الحالة، تنطبق على لبنان، حيث عمل كولوتشا سفيراً ضمن الفترة 1986 – 1990، عندما قرأت هذا الكتاب المثير للاهتمام، شعرت بالدهشة من المكان الذي شغلته مشاعره القوية التي لم يتمكن من كبتها دائماً في عمله المهني، بما في ذلك عندما أظهر «رعونة لا تُغتفر» في عام 1990، وكاد يعرض حياته المهنية للخطر، عندما أطلق العنان لمشاعره.
أتذكر في الختام قصة أخرى. كما هو معلوم، في 19 مارس 2011، مباشرة بعد بدء عمليات «الناتو» في ليبيا، تم فصل السفير الروسي في هذا البلد فلاديمير تشاموف، من منصبه، مع حرمانه من جميع المكافآت والألقاب والرتب، لكنه تُرك يعمل في وزارة الخارجية. في 24 مارس، في مقابلة مع صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس»، قال إن استقالته نتجت عن حقيقة أنه «لم يمثل بشكل كاف مصالح روسيا في الصراع الليبي». رغم موقفه المعلن من الأحداث الليبية، فقد التزم الانضباط، وأنا أؤكد ذلك، ولم يعلق على قرارات الرئيس، الذي كان آنذاك دميتري ميدفيديف.
لكن في الوقت نفسه، تم تسريب معلومات للصحافة مفادها أنه في برقية أرسلها إلى موسكو (تم لاحقاً دحض هذه المعلومات من قبل تشاموف، لأنه على أي حال هذه البرقيات تحمل صفة سرية للغاية)، أعرب السفير فيها عن رأي مفاده أنه لن يكون مربحاً لروسيا فقدان شريك مثل ليبيا، وموقف موسكو المحايد أثناء التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 «يمكن أن يُعتبر إلى حد ما خيانة لمصالح روسيا». في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، عين الرئيس فلاديمير بوتين، تشاموف، سفيراً لروسيا لدى موريتانيا، حيث خدم لمدة ست سنوات ونصف السنة، ولم يترك منصبه إلا في فبراير (شباط) من العام الحالي.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»