للمرة الأولى منذ تأسيس حزب «الخضر» البيئي في ألمانيا قبل 41 سنة، يعلن هذا الحزب مرشحاً له لمنصب المستشارية. وللمرة الأولى، يصعب فعلاً تخيل الحكومة المقبلة في ألمانيا من دون أن يكون حزب «الخضر» شريكاً أساسياً فيها، إن لم يكن هو من يقودها.
الحزب اختار لهذا المنصب ترشيح آنالينا بيربوك (40 سنة) التي تشغل منصب الزعيم المشترك للحزب إلى جانب روبرت هابيك (51 سنة) منذ عام 2018. ومع أن بيربوك لم تكن معروفة كثيراً حتى انتخابها لقيادة الحزب بشكل مشترك، ولطالما اعتبرت حظوظها أقل من هابيك للحصول على ترشيح الحزب لمنصب المستشار، فإنها نجحت في الحصول على الترشيح. وليس هذا فحسب، بل باتت بيربوك الآن تشكل رمزاً للتجديد والشباب في الانتخابات المقبلة المقررة خلال سبتمبر (أيلول) المقبل في ألمانيا. وهذا، بالأخص لدى مقارنتها بالمرشحين الآخرين لمنصب المستشارية، وهما الرجلان «الستّينيان» أرمين لاشيت (60 سنة) مرشح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) وحاكم ولاية شمال الراين ووستفاليا، وأولاف شولتز (62 سنة) وزير المالية ومرشح الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي).
ولكن منذ حصول بيربوك على ترشيح حزبها في أبريل (نيسان) الماضي، وسط تغطية إيجابية واسعة من الصحافة الألمانية، بدأت تظهر تحديات متكرّرة أمامها تضعها خفّفت تألقها، إلى درجة باتت تقلق الحزب البيئي من أن تؤثر على شعبيته وتمنعه من الوصول للسلطة التي باتت في متناول اليد.
غالباً ما تشاهد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وهي غارقة في محادثة خاصة هادئة مع آنالينا بيربوك، عادة في إحدى زوايا قاعات البوندستاغ (مجلس النواب في البرلمان الألماني) قبيل انطلاق جلسات النقاش. فالمستشارة التي حكمت ألمانيا لمدة 16 سنة، إلا أنها فشلت في أن توصل مرشحتها المفضلة آنغريته كرامب كارنباور إلى الحكم لخلافتها، تبدو أحياناً وكأنها تمسك بيد بيربوك، المرأة الوحيدة الآن في السباق لخلافتها، تمهيداً لتسليمها الشعلة. ولا شك، في أن العلاقة الشخصية بين المستشارة وزعيمة «الخضر» الشابة لافتة. ورغم أن ميركل لا تقول ما يظهر تأييدها علانية للسيدة التي ترأس حزباً منافساً، من الواضح أنها تكنّ لها احتراماً خاصاً.
الواقع أن السيدتين تتشاركان الكثير من المزايا. ومع أن بيربوك ترأس حزباً ولد عام 1980 من مجموعة من اليساريين المهتمين بحماية البيئة والمنادين بالسلام، فإن الحزب شهد تغيّرات لافتة عديدة منذ ذلك الحين قرّبته في بعض السياسات من مواقف الديمقراطيين المسيحيين التي تغيّرت بدورها في عهد ميركل. إذ بينما تحوّل حزب «الخضر» إلى قوة أكثر «واقعية» في سياساتها اليومية رغم استمرار حمله راية البيئة، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي اتجه يساراً ليغدو أقرب إلى حزب وسطي منه إلى تنظيم يميني محافظ، وهو حتماً اليوم أقرب إلى «الخضر» في سياسته البيئية التي تبنّاها وطبقها إبّان عهود ميركل الأربعة.
من ناحية أخرى، بعدما كانت فكرة تحالف «الخضر» مع حزب يميني وسطي بعيدة المنال، قبل بضع سنوات، فهي باتت واقعاً لا مفر منه. وهذه التجربة «التحالفية» جرّبها «الخضر» منذ سنوات في السياسة المحلية بولاية بادن – فورتمبيرغ، حيث يقود حكومة الولاية مع الديمقراطيين المسيحيين بنجاح منذ عام 2011. وللعلم، في الماضي، عندما شارك «الخضر» في الحكومة الاتحادية (الفيدرالية) للمرة الأولى عام 1998 وبقي في السلطة حتى العام 2005 عندما تسلمت ميركل الحكم، كان يشارك في ائتلاف يقوده آنذاك الاشتراكيون برئاسة المستشار غيرهارد شرودر.
ولكن حتى آنذاك، بدت السلطة وكأنها غيّرت حزب «الخضر» وجعلت سياسته أقرب إلى الواقع منها إلى المثالية الحالمة الذي كانت عليه أفكاره عند تأسيسه. ولعل من أكثر اللحظات دلالة في رمزيتها إلى بدء «تحوّل» منهجية الحزب، كان عام 1999 عندما تعرّض وزير الخارجية يوشكا فيشر (القيادي في حزب «الخضر») آنذاك إلى هجوم بالطلاء من قبل أحد أنصار الحزب الرافضين للتدخل العسكري في كوسوفو الذي كان فيشر – كوزير للخارجية – قد وافق عليه على الرغم من رفض «الخضر» المبدئي للحروب والتزامهم بالسلام.
بدايات الواقعية السياسية
كان واضحاً آنذاك أن فجوة الانقسام داخل حزب «الخضر» أخذت تتسع بين «الواقعيين» و«المتطرفين المثاليين». وهي فجوة لم تتقلص منذ ذلك الحين رغم الصمت المخيّم على أجنحة الحزب منذ انتخاب بيربوك وهابيك لمنصب الزعامة مشتركة للحزب عام 2018 وبدء صعود الخضر في استطلاعات الرأي، واقترابه من دخول السلطة مجدداً.
هذه المرة، قد يدخل «الخضر» فردوس السلطة مجدّداً، ولكن على الأرجح في ائتلاف مع الديمقراطيين المسيحيين لا الاشتراكيين الذين انهارت نسبة التأييد الشعبي لهم إلى مستويات قياسية؛ إذ إنها لا تزيد اليوم وفق استطلاعات الرأي على الـ14 في المائة. ومع أن حزب «الخضر» في ألمانيا لطالما أقرب في سياساته إلى اليسار من اليمين، فإن تحالفاً مع اليمين ما عاد مستبعداً اليوم، وبخاصة، في ظل اتجاه الحزبين «الخضر» والاتحاد الديمقراطي المسيحي، نحو ساحة الوسط، وباتا على توافق في العديد من السياسات، ولا سيما، البيئية منها التي تعد الركيزة الأساسية لتفكير «الخضر».
أما عن آنالينا بيربوك، فإنها كانت ولا تزال من المساهمين في تحويل «الخضر» إلى حزب أكثر واقعية يعتمد أحيانا سياسات خارجية أكثر صرامة حتى من الديمقراطيين المسيحيين، خاصة، فيما يتعلق بالصين وروسيا. وهي منذ انتخابها زعيمة للحزب، تصعّد بيربوك لهجتها تجاه بكين وموسكو متعهدة بأخذ مواقف أشد صرامة منهما في حال دخلت السلطة.
الموقف من الصين وروسيا
بيربوك تصف الصين بأنها دولة «ذات نظام استبدادي»، وتدعو للوقوف بوجهها خاصة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان وما تعتبره سوء معاملتها لأقلية الويغور المسلمة. وتذهب بعيدا في دعواتها لمواجهة بكين في هذا الملف، مشددة أنه على أوروبا ألا تستورد «بضائع تنتجها العمالة الإجبارية». وبخلاف سياسة حكومة ميركل الحالية، تقول زعيمة «الخضر» أيضاً بأنها ستدعم «الحد من التعاون» مع التكنولوجيا الآتية من الصين، مثل «هواوي»؛ خوفاً من عمليات تجسّس للشركات الصينية لصالح سلطات بكين. أضف إلى ذلك، بينما تقر بيربوك بأن الصين كدولة «أكبر من أن نقطع العلاقات معها»، فهي تؤكد على «ضرورة محافظة الدول الديمقراطية على قيمها» في التعامل مع بكين.
أيضاً، تتبنى زعيمة «الخضر» موقفاً أكثر تشدداً بعد من روسيا، وتذهب إلى حد معارضة مشروع أنابيب غار «نورد ستريم 2» الذي ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر البحر وقد شارف على الاكتمال. والمعروف، أن الحكومة الحالية تتمسك بالمشروع، وميركل نفسها دافعت عنه مراراً في وجه الانتقادات الأوروبية والأميركية التي تخشى تأثيراً روسياً متصاعداً على برلين في حال أكمل المشروع الذي يتعرّض أصلاً لعقوبات أميركية. وعلى الرغم من أن بيربوك قد تغيّر إذا وصلت إلى السلطة موقفها من المشروع، الذي كلف ألمانيا مليارات اليوروات حتى الآن وشارف على الاكتمال، فإنها تروّج راهنا لسياسة أكثر صرامة مع موسكو في مجالات أخرى أيضاً. وهي تقول بأن «زيادة الضغوط» على روسيا بعد تحركاتها الأخيرة في أوكرانيا «يجب أن تكون أولوية في السياسة الخارجية لألمانيا».
مقاربة بيربوك هذه، الداعية لصرامة أكثر مع روسيا، عرّضتها لحملة تشويه وتجريح شخصي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يديرها على ما يبدو الكرملين. وبالفعل، اتهم تشيم أوزدمير، الخبير في السياسة الخارجية في حزب «الخضر»، موسكو بإدارة هذه الحملة، وقال لصحف ألمانية: «بهدف منع حزب الخضر من دخول السلطة، ليست هناك وسيلة خارج متناول الكرملين، وكل ما بوسعي فعله الآن أن أنصح جميع الذين يؤمنون بالديمقراطية ألا يشاركوا في حملة بوتين القذرة. البرلمان الألماني سيُنتخَب في ألمانيا وليس في موسكو أو أنقرة أو بكين».
اليمين المتطرف يكرهها
وفي سياق متصل، تواجه بيربوك حملة تشويه كانت قد بدأت أصلاً من الداخل الألماني، وبالذات، من حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف الذي يروّج لعلاقات أقرب مع موسكو. ومن ثم، تحوّلت زعيمة «الخضر» كذلك إلى هدف للمؤمنين بـ«نظريات المؤامرة» والرافضين للاعتراف بخطورة فيروس «كوفيد - 19». وأخيراً، نقلت وسائل إعلام ألمانية عن خبراء أمنيين أن موسكو تستغل الشرخ الداخلي لزيادة الانقسام والتأليب ضد بيربوك.
كذلك، اتسع الشرخ حول زعيمة «الخضر» وازدادت حدة الانتقادات الموجهة إليها بعدما تسرّب بأنها استفادت من دفعة مالية مقدارها 1500 يورو من حزبها، في قانون خاص يسمح بدفع المبلغ لموظفين أثناء الجائحة من دون إخضاعه للضرائب. ومع أن المبلغ ضئيل، فإنه أحدث ضجة حول «صدقية» بيربوك، وبخاصة، أن القصة انفجرت في موازاة قصة أخرى تتعلق بمبلغ مالي آخر مقداره 25 ألف يورو، قالت بيربوك إنها «نسيت» التصريح عنه للبرلمان في السنوات الثلاث الماضية. وشنت الصحف الألمانية التي كانت لغاية الآن في صف بيربوك، حملة عليها واتهمتها بقلة الشفافية، متسائلة عما يقول ذلك عن أسلوبها في الحكم. وتجدر الإشارة إلى أن القانون الألماني يجبر النواب على التصريح بكامل مصادر دخلهم للإبقاء على الشفافية وللتأكد من أنهم لا يقبضون أموالاً من أشخاص أو شركات من أجل الترويج لسياسات معينة.
ووسط هذا الغبار المتصاعد، لم يساعد وضع بيربوك في وجه موجة الانتقادات والتساؤلات المشككة حول «ازدواج المعايير» عندها، تصريحاتها حول ضرورة رفع أشعار تذاكر الطائرات القصيرة المدى... إذ راح يتساءل المنتقدون عن عدد الرحلات القصيرة المدى التي يركبها أعضاء حزب «الخضر»، بينما هم يعظون بالعكس.
تعريف بـ«الوجه الجديد»
رغم كل ما سبق، ما زالت آنالينا بيربوك قادرة على تقديم نفسها على أنها «وجه جديد» في السياسة الألمانية، وتشكّل تغييراً عن الوجوه القديمة التقليدية. وفي حين يتنقد معارضوها قلة خبرتها في الحكم - ولا سيما، في السياسة الخارجية - فإنها تدافع عن ذلك بالقول إن كونها أمّا لطفلين صغيرين اضطرت إلى البقاء معهما في المنزل أيام الإغلاق بسبب الجائحة، يقرّبها من الناس، ويجعلها تفهم مشاكلهم أكثر... وهو ما يعني أن التجربة تجعلها – في رأيها – جاهزة للمشاركة في السلطة.
ولدت آنالينا بيربوك في مزرعة بالقرب من مدينة هانوفر، عاصمة ولاية سكسونيا السفلى، ونشأت في منزل لوالدين متحرّرين كانا غالباً ما يشاركان بصحبة أولادهما في مظاهرات رافضة للحرب والانتشار النووي، وداعية للسلام. وبعدما أنهت دراستها الثانوية، التحقت بيربوك بجامعة هامبورغ، حيث تخصصت بالعلوم السياسية والقانون العام، ثم انتقلت بعد التخرّج إلى العاصمة البريطانية لندن عام 2004، حيث درست القانون الدولي وحصلت على شهادة الماجستير من «مدرسة لندن للاقتصاد» LSE المرموقة. وهي تعيش اليوم مع زوجها دانيال هولفلايش، وهو مستشار سياسي في حزب «الخضر»، وولديها، في مدينة بوتسدام القريبة من برلين.
بيربوك كانت تطمح لأن تصبح صحافية. وبالفعل، عملت لفترة أثناء فترة الدراسة مع صحيفة «هانوفرشيه ألغماينه تسايتونغ» المحلية، إلا أنها انتقلت لاحقاً إلى العمل السياسي بعد انضمامها إلى حزب «الخضر» عند إكمال دراستها عام 2005. وعام 2008 انتُخبت عضواً في المجلس التنفيذي لحزب «الخضر» في ولاية براندنبرغ (عاصمتها بوتسدام)، وأصبحت خلال العام نفسه ناطقة حزبية باسم الحزب للشؤون الأوروبية، وكذلك عملت مستشارة في شؤون السياسات الخارجية والأمنية لكتلة حزب «الخضر» النيابية.
دخلت بيربوك مجلس النواب في البرلمان الاتحادي عام 2013، بعدما كانت قد فشلت في الحصول على ترشيح حزبها على لائحته في انتخابات العام 2009. وبعد دخولها البرلمان، أصبحت بيربوك الناطقة باسم حزبها في شؤون السياسات المناخية. وعام 2017، حافظت على مقعدها في الانتخابات العامة الفائتة، ثم انتخبت زعيمة مشتركة للحزب في العام التالي 2018. وأخيراً، يوم 19 أبريل من العام الحالي، نجحت بيربوك في الحصول على تأييد حزبها للترشح لمنصب المستشارية، لتغدو أول سياسي من حزب «الخضر» يترشح لهذا المنصب الرفيع، وثاني امرأة بعد ميركل.