لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

رئيس «الفرصة المفاجئة» لمرحلة «انعدام الاستقرار»

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة
TT

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

بعد 10 سنوات من الحكومات الاشتراكية المتعاقبة على البرتغال، التي كانت تعرف خلالها بـ«الحصن اليساري المنيع» في أوروبا، استعاد اليمين المحافظ السلطة في الانتخابات التشريعية التي أجريت أواسط الشهر الماضي بقيادة زعيم «التحالف الديمقراطي» لويس مونتينيغرو، وهو الذي لم يكن يراهن أحد منذ أشهر قليلة على قدرته وحظوظه بالفوز واستعادة السلطة بعدما خسرها حزبه في عام 2015. لقد جاء فوز «التحالف الديمقراطي» على الحزب الاشتراكي بفارق مقعدين فحسب في مجلس النواب، الأمر الذي يجعل حصوله على الغالبية البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة قادرة على الحكم مرهوناً بدعم الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حلّ ثالثاً... وكان المفاجأة الكبرى والفائز الحقيقي في هذه الانتخابات. غير أن مونتينيغرو، الذي كان قد تعهّد إبان الحملة الانتخابية بأنه في حال فوزه «لن يكون في حكومته أي مكان للسياسيين العنصريين أو للسياسات العنصرية»، بقي على وعده وقرّر تشكيل حكومة تدعمها أقلية في البرلمان، مراهناً بذلك على «تفاهم» مع الحزب الاشتراكي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتبنّي عدد من بنود برنامجه الانتخابي، مقابل الامتناع عن دعم أي طرح لسحب الثقة من الحكومة حتى نهاية الولاية التشريعية.

في شهر مايو (أيار) 2022، فاز لويس مونتينيغرو برئاسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرتغالي المحافظ بنسبة زادت على 75 في المائة من الأصوات، ولكن في انتخابات غاب عنها المنافسون من الشخصيات البارزة في الحزب... الذي كان دخل مرحلة أفول طويلة بعد انتقاله إلى المعارضة.

والحقيقة أن جميع الاستطلاعات التي أجريت منذ انتخاب مونتينيغرو زعيماً للحزب - الذي كان له الدور الأساسي في المشهد السياسي البرتغالي منذ سقوط الديكتاتورية - لم تكن تسجّل له أي صعود في شعبيته أو أي حظوظ في قيادة حزبه إلى الفوز مجدداً بالانتخابات التشريعية التي كانت تبدو بعيدة نظراً للغالبية المطلقة التي كان يتمتع بها الزعيم الاشتراكي ورئيس الحكومة السابق أنطونيو كوستا في البرلمان. وإلى جانب ذلك، كان ثمّة إجماع بين المعلّقين السياسيين على أن الرجل ليس الشخص المناسب لقيادة الحزب نحو استعادة موقعه، بينما كانت تروج الإشاعات داخل حزبه حول إبدال زعامة جديدة به حال فشله في تحقيق نتائج مُرضية في الانتخابات الأوروبية المقررة مطالع يونيو (حزيران).

وبالفعل، أسماء بديلة كثيرة كانت متداولة في أوساط الحزب الذي شهد أكثر من محاولة للانشقاق أو التمرد، كان مونتينيغرو يجهد على الدوام لإخمادها معتمداً استراتيجية الحذر على الجبهة الداخلية. ولقد نجح أخيراً في التوفيق بين التيارات المتناحرة، كما تبيّن خلال الحملة الانتخابية من مشاركة رؤساء الحكومات السابقين في المهرجانات التي دعا إليها مونتينيغرو... عندما سارع فور إعلان فوزه في الانتخابات إلى استحضار هذه «الروح التوافقية» لمواجهة التحدي الكبير الذي ينتظره.

كيف لا... وليس بمقدوره إلا تشكيل «حكومة أقلية» لا تضمن تلقائياً غالبية أصوات البرلمان، لا سيما، بعدما أصرّ على الإيفاء بتعهده وإبقاء الباب موصداً أمام اليمين المتطرف، مؤكداً: «بالطبع سأبقى على وعدي من أجل حزبي وبلدي والديمقراطية».

الفرصة المفاجئة

عندما أعلن رئيس الوزراء السابق الاشتراكي أنطونيو كوستا استقالته في الخريف الماضي، إثر فضيحة الفساد التي طالت بعض معاونيه، علماً بأنه لم يكن ضالعاً فيها، وكان يتمتع بغالبية برلمانية كبيرة، لم يكن وارداً في حسابات زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي أن تجد البرتغال نفسها مقدمة على انتخابات تشريعية لم يكن جاهزاً لها.

إلا أن ما أعطاه دفعاً معنوياً كبيراً في عزّ حملة الانتخابات التشريعية، كانت الانتخابات المسبقة التي أجريت خلال فبراير (شباط) الماضي في أرخبيل الآزور (في المحيط الأطلسي) الذاتي الحكم. إذ سقطت الحكومة المحلية التي كان يرأسها حزب «شيغا» اليميني المتطرف، وفاز بالانتخابات «التحالف الديمقراطي» الذي كان مونتينيغرو قد نجح في نسجه لخوض الانتخابات التشريعية.

وإلى جانب ذلك، كان مونتينيغرو قد بدأ بعد أشهر من فوزه بزعامة الحزب الديمقراطي الاجتماعي حملة وطنية واسعة لتلميع صورته وترويج أفكاره ضمن برنامج استمر سنتين، أمضى خلالهما أسبوعاً كاملاً في كل مقاطعة من مقاطعات البلاد، وكان يلتقي خلالها بالمواطنين ويستمع إلى همومهم ويتحاور معهم. وطوال هذه الفترة، كان يشدد في لقاءاته على أمرين أساسيين: رفضه تشكيل حكومة ما لم يكن حزبه الأول في الانتخابات، ورفض السماح لليمين المتطرف بدخول الحكومة.

ومن ثم، عندما انطلقت الحملة الانتخابية كانت الاستطلاعات تشير إلى تعادل بين الحزب الاشتراكي و«التحالف الديمقراطي»، وفي نهايتها كانت كفّة الاشتراكيين راجحة بعد المناظرة التلفزيونية بين مونتينيغرو والمرشح الاشتراكي بيدرو سانتوس التي عدّت وسائل الإعلام أن هذا الأخير كان الفائز فيها.

والواقع أن معظم الانتقادات التي كان يتعرّض لها مونتينيغرو منذ توليه زعامة «التحالف الديمقراطي»، كانت تركّز على قلة خبرته في السياسة والحكم، وتقلّبه في المواقف التي يتخذها من قضايا استراتيجية بالنسبة للبلاد، وتراجعه عن بعض القرارات التي كان حزبه قد توافق عليها مع الاشتراكيين.

من هو مونتينيغرو؟

منذ شبابه الأول، كان لويس مونتينيغرو يرافق والديه إلى مهرجانات الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان لسنوات يحتل صدارة المشهد السياسي البرتغالي بعد سقوط الديكتاتورية اليمينية. ثم انتسب إلى تنظيم شبيبة الحزب عشية دخوله كلية الحقوق في جامعة أوبورتو، قبل أن يصبح عضو مجلس بلدية مسقط رأسه، مدينة إسبينيو الصغيرة، بعد تخرجه بأشهر... وهو ما زال في الثالثة والعشرين من عمره.

وخلال تلك الفترة، بنى له منزلاً من 6 طوابق أثيرت حوله تساؤلات كثيرة، كما أثير جدل أيضاً حول العقود التي أبرمها مكتبه مع المجالس البلدية التي كان يحكمها الحزب الديمقراطي الاجتماعي، عندما كان هو رئيساً لكتلته البرلمانية خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2017. في هذه الفترة، شهدت البرتغال سلسلة طويلة من الاحتجاجات الاجتماعية الصاخبة ضد السياسة التقشفية التي فرضتها الحكومة التي كان يرأسها زعيم حزبه، باسوس كويلو، امتثالاً لشروط المؤسسات المالية الدولية... مقابل منح البرتغال مساعدة مقدارها 80 مليار دولار لمنع انهيار النظام المصرفي والنهوض من الأزمة. ويومذاك قال مونتينيغرو جملته الشهيرة: «حياة الناس ليست أفضل... لكن البلاد أفضل بكثير!»، التي استحضرها خصومه خلال الحملة الانتخابية للتحذير من القرارات التي قد يتخذها في حال وصوله إلى رئاسة الحكومة.تشكيله الحكومة الحالية

وبعد 5 أيام من تكليف مونتينيغرو، عاد الرئيس المكلّف إلى القصر الجمهوري ليسلّم الرئيس مارسيلو دي سوسا قائمة بأعضاء حكومته المؤلفة من 17 عضواً، منهم 7 نساء. وتضم تشكيلة الحكومة الجديدة عدداً من الأسماء البارزة في حزبه، على رأسها باولو رانجيل نائب رئيس الحزب الذي سيتولّى حقيبة «الخارجية»، وخواكيم ميراندا الناطق بلسان كتلة الحزب البرلمانية الذي سيتولى حقيبة «المال»، وميغيل بينتو النجم الصاعد في الحزب الذي سيتولى حقيبة «البُنى التحتية والإسكان» ويشرف على عدد من القرارات الأساسية في برنامج الحكومة، مثل خصخصة شركة الخطوط الجوية الوطنية، وتحديد موقع مطار العاصمة الجديد الموضوع منذ عقود على لائحة الانتظار، وكذلك إعادة هيكلة شبكة الخطوط الحديدية.

إلا أن السهولة الظاهرة التي رافقت تشكيل الحكومة بهذه السرعة لا تخفي الصعوبة التي تنتظر رئيسها في ظل استناده إلى أقلية في البرلمان، مع العلم أن أندريه فنتورا، زعيم حزب «شيغا» اليميني المتطرف، تعهّد بإسقاط الحكومة في أول فرصة تتاح له، لا سيما بعدما أوصد رئيس الوزراء الجديد بابها في وجهه، وبعد الاتفاق الذي توصل إليه الحزب الاشتراكي والحزب الديمقراطي الاجتماعي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتهميش «شيغا».

ومن المتوقع هذا؛ أن يزداد منسوب الخصومة بين مونتينيغرو والزعيم المتطرف فنتورا، الذي نال أكثر من مليون صوت. ويذكر أن فنتورا عازم على انتزاع تمثيل مقاطعة جزيرة ماديرا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات المُسبقة، المقرر أن تُجرى في أواخر الشهر المقبل. وكان رئيس الجمهورية قد قرّر حل البرلمان المحلي للمقاطعة، إثر الأزمة السياسية التي نشأت عن ضلوع رئيس الحكومة المحلية في فضيحة فساد، إلى جانب عدد من المسؤولين التابعين للحزب الذي يتزعمه مونتينيغرو.

وللعلم، من أبرز ملامح النزاع المتصاعد بين فنتورا ورئيس الوزراء الجديد أن الأول طالب بعد صدور نتائج الانتخابات بالدخول في حكومة مونتينيغرو، لكن هذا الأخير لم يصرّ فقط على موقفه الرافض، بل اختار التفاوض مع الاشتراكيين على بعض التعديلات في الموازنة العامة الخاصة بتحسين أجور المعلمين وأفراد الأجهزة الأمنية والقطاع الصحي الذين يطالبون منذ أشهر برفع رواتبهم بعد الفائض في موازنة العام الماضي الذي بلغ 1.2 في المائة من إجمالي الناتج القومي.

مع هذا، أعلن الزعيم الاشتراكي الجديد بيدرو سانتوس، أنه لن يترك لحزب «شيغا» التفرّد وحده بالمعارضة، إذ سيصوّت ضد مشروع موازنة العام المقبل، الأمر الذي سيضع حكومة «التحالف الديمقراطي» أمام أول اختبار عسير في البرلمان حول ديمومتها. ولذا، دعا مونتينيغرو في تصريحاته الأولى، بعد تسلمه مهامه رئيساً للحكومة الجديدة، «جميع الأطياف السياسية إلى تعزيز الحوار». وأعرب عن إدراكه صعوبة مهمته؛ إذ لا يضمن سوى 80 صوتاً من أصل 230 في البرلمان. لكنه شدد على أن حكومته عازمة على إنهاء الولاية التشريعية، بقوله: «في هذه المرحلة التي تعجز الدولة عن تلبية الخدمات الأساسية للمواطنين في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان، ليس مسموحاً أن تتحول السياسة إلى عقبة... بدلاً من أن تكون هي الحل لكل هذه المشاكل». ومن ثم، طالب المعارضة بأن تتحلّى بالتواضع والروح الوطنية والقدرة على الحوار، وتوجّه إلى الحزب الاشتراكي قائلاً إن «عليه الاختيار بين المعارضة الديمقراطية أو التعطيل الديمقراطي»، في حين تجاهل كلياً منافسه اليميني المتطرف «شيغا».

مرحلة سمتها «انعدام الاستقرار»

من ناحية أخرى، يدرك لويس مونتينيغرو، رئيس الحكومة الجديد، أنه يدشّن مرحلة سمتها الرئيسية انعدام الاستقرار السياسي والصراع المستميت بين الأحزاب البرتغالية، لاستعادة مواقعها أو ترسيخ صعودها. ومن شأن هذا الواقع أن يفتح الباب واسعاً على كل الاحتمالات في برلمان اضطر للتصويت 4 مرات هذا الأسبوع، قبل أن ينتخب رئيساً جديداً له.

مونتينيغرو يفهم جيداً أنه في ظل المعادلة البرلمانية الراهنة سيضطر للجوء إلى المراسيم، وتحاشي المثول أمام مجلس النواب إلا في حالات الضرورة القصوى خشية المفاجآت التي قد تؤدي إلى سقوط حكومته. ولكن في المقابل، لعلّ مصدر الاطمئنان الوحيد بالنسبة له ولحظوظ حكومته بالاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، هو الأسلوب السياسي الراسخ منذ سنين في البرتغال، يقوم على احترام المؤسسات والكياسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية، خلافاً لما هو شائع في بلدان الجوار مثل إسبانيا وإيطاليا، أو حتى اليونان.

لقد أظهرت الأحزاب البرتغالية غير مرة خلال السنوات الماضية، التزامها هذا الأسلوب الراقي، الذي ربما يعود إلى النظام الجمهوري الراسخ منذ ما يزيد على مائة سنة من غير أن يشكّك أحد في صلاحه. ولا شك في أن الأجواء التي تمّت فيها عملية التسلم والتسليم بين الحزبين الاشتراكي والديمقراطي الاجتماعي... وما رافقها من تفاهمات وتصريحات هادئة، تشهد على هذه الروح التوافقية التي لا يشذّ عنها سوى حزب «شيغا» اليميني المتطرف.


مقالات ذات صلة

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حصاد الأسبوع حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة

يوهان فاديفول... وزير خارجية ألمانيا الجديد سياسي محنك وله اهتمامات عسكرية

بعد مرور 60 سنة على تولي آخر قيادي ينتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في ألمانيا منصب وزير الخارجية، تعود هذه الوزارة إلى الحزب مع تعيين يوهان

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع براندت (غيتي)

ألمع وزراء الخارجية الألمان بعد الحرب العالمية الثانية

تعاقب على منصب وزير الخارجية في ألمانيا العديد من الشخصيات اللامعة منذ إعادة توحيد الألمانيتين الغربية والشرقية بعد انتهاء «الحرب الباردة» وسقوط «جدار برلين».

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع أحد المقترعين يدلي بصوتته خلال الجولة الأولى من الانتخابات في جبل لبنان (آ ف ب)

الانتخابات البلدية في لبنان... اختبار للنفوذ السياسي بغطاء محلي

على الرغم من الطابع الإنمائي والخدماتي المحلي للانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، فإنها شكلت «ساحةً سياسية» بامتياز تتواجه فيها القوى والأحزاب السياسية على

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع تظاهرة لناشطي الحركة الإسلامية ومناصريها (رويترز)

الأردن... جدلية العلاقة بين «الإخوان» والسلطة

بعد سنوات وعقود من «الصمت الرسمي» على تجاوزات «جماعة الإخوان المسلمين»، نفد صبر السلطات الأردنية أمام «اختراق» مهمٍّ نفذه أتباع ومنتمون للجماعة تستهدف «زعزعة»

محمد خير الرواشدة (عمّان)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
TT

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث، حول تداعيات التغيير الذي أحدثه ترمب في علاقات واشنطن بكل من موسكو وكييف وبروكسل. بايدن اعتبر ضغوط إدارة ترمب على أوكرانيا للتنازل عن أراضٍ لروسيا «استرضاءً عصرياً»، في تلميح إلى سياسة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين، الذي فشل في أواخر الثلاثينات في استرضاء مطالب الزعيم النازي أدولف هتلر لتجنب حرب شاملة في أوروبا. ومع ذلك، حُمّل الرئيس الأميركي السابق والعديد من القادة الأوروبيين، مسؤولية التقصير في دعم كييف، ومحاولة استرضاء روسيا، رغم المعرفة المسبقة بمواقفه خلال السنوات الثلاث من الحرب، التي كانت تشير بشكل واضح إلى أنه سيقوم، ليس فقط بالتقرب من الرئيس الروسي، بل وزيادة الشقاق مع الحلفاء الأطلسيين في «ناتو».

بدلاً من السماح لها بتحقيق النصر، يقول محللون، إن أوكرانيا تلقت معدات من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، كانت كافية فقط لاستنزاف روسيا. ولخّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2022 القيود الاستراتيجية على أوكرانيا؛ ما أجبرها في نهاية المطاف على القتال بيد واحدة خلف ظهرها، قائلاً: «علينا ألّا نُذلّ روسيا لكي نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر القنوات الدبلوماسية». وحقاً، خشي العديد من القادة والجنرالات من أنه في حال هزيمة روسيا، ستتبعها فوضى داخل الاتحاد الروسي، وسيفقد الرئيس فلاديمير بوتين سلطته. وكان هؤلاء يخشون ما يسميه العسكريون «نجاحاً كارثياً»، بحسب صحيفة «الإندبندنت». كذلك أعرب كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية عن آرائهم بشأن أخطار انهيار الاتحاد الروسي، بالقول إنهم كانوا يخشون انتصاراً أوكرانياً ساحقاً لأن الاتحاد الروسي «إمبراطورية متماسكة بالخوف».

تحوّل التركيز

في الآونة الأخيرة، ورغم تغيير ميزان القوة لمصلحة موسكو، تحدثت معلومات استخباراتية جديدة راجعها مسؤولون أميركيون وغربيون، عن أن بوتين ربما أعاد ترتيب أهدافه المباشرة في حرب أوكرانيا، مع التركيز على ترسيخ السيطرة على الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية وتعزيز الاقتصاد الروسي المتعثر. وفي حين يتناقض هذا التحول مع تقييمات سابقة أشارت إلى أن بوتين يعتقد أن الحرب تسير لصالحه؛ ما يدعم قتالاً مطولاً ضد أوكرانيا الضعيفة، بهدف الاستيلاء على البلاد بأكملها في النهاية أثار هذا التحوّل في نهج بوتين إلى احتمال أن يكون الآن أكثر ميلاً إلى التفكير في فكرة اتفاق سلام. ووفق مصادر أميركية، لعب هذا التحول دوراً في اعتقاد الرئيس ترمب بأن بوتين ربما بات أكثر استعداداً للتفاوض مما كان عليه في الماضي.

مع ذلك، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين حذرين بشأن نيات بوتين الحقيقية. ومع أنهم يشيرون إلى أن تأكيدات بوتين المستمرة بأنه يسعى للسلام، و«عروضه» المتقطعة لوقف إطلاق نار جزئي - رغم المقترحات الأميركية المواتية له التي تدعو كييف إلى التنازل عن معظم الأراضي التي استولت عليها روسيا – يعتقد هؤلاء أنه حتى لو قبل بوتين مثل هذا الاتفاق، فقد يكون قبوله إجراءً مؤقتاً، للعودة إلى التصعيد بمجرد استئناف الحرب.

أيضاً، بعدما وضعت الضغوط المستمرة من إدارة ترمب، وتهديدات نائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو بوقف «الوساطة» الأميركية، وفرض عقوبات إضافية - ناهيك من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها روسيا - بوتين في موقف صعب محتمل، يقول مسؤول استخبارات غربي كبير: «أعتقد أنه ربما يفكر في هدف معقول على المدى القريب». ومع توقيع الولايات المتحدة اتفاقية المعادن مع أوكرانيا، سُلط الضوء أيضاً على إمكانية استثمارات مماثلة مع روسيا بعد الحرب، في المباحثات التي وصفتها واشنطن بأنها فرصة «تاريخية».

بل، ولقد أشار المسؤول أيضاً إلى أن السؤال الرئيس هو ما الذي ترغب واشنطن في تقديمه لجعل اتفاق السلام جذاباً بما يكفي لبوتين لإيقاف الحرب، والتي قد يستأنفها لاحقاً بمجرد تحقيق نصر مؤقت. وهنا، يقول مايكل روبين، الباحث في معهد «أميركان انتربرايز» في حوار مع «الشرق الأوسط» إن تلك التهديدات لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب، الذي بدا أنه يتخلى عن أي احتمال لحل سريع، ويُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام.

بوتين متمسك بأهدافه البعيدة

من جهة ثانية، تغير الأهداف المباشرة قد لا يغير تمسك بوتين بطموحات طويلة الأجل لتوسيع نفوذ روسيا الإقليمي في أوكرانيا. وقد يكون استعداده «للتوافق» مع واشنطن في الوقت الحالي تكتيكاً لتحسين العلاقات مع واشنطن، في انتظار فرصة مواتية أكثر لتحقيق أهدافه القصوى.

ووفق مسؤول أوروبي كبير «هناك العديد من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية التي ستواصل روسيا استخدامها»، مضيفاً أن أهداف روسيا النهائية «ربما لم تتبدل رغم هذا التغيير التكتيكي». كذلك، أعرب العديد من المشرّعين الأميركيين عن مخاوفهم من أن بوتين قد يستخدم مباحثات السلام استراتيجيةً لكسب المزيد من النفوذ بدلاً من السعي الجاد لإنهاء الحرب، وهو ما قد يكون عزّز من مخاوف الكرملين من أن تكون تلك التهديدات حقيقية.

فقد أعلن السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة «ساحقة» على روسيا. ويسعى مشروع القانون هذا إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، ما لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة؛ بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.

بايدن وبنس يحذّران ترمب

ومع رفض أوكرانيا عرض بوتين الأخير بوقف إطلاق نار قصير خلال احتفالاته بيوم «النصر على النازية» ووصفه بـ«محاولة أخرى للتلاعب»، عدّه البعض «أقل من الحقيقة». وقال الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، «إم آي 6» السير أليكس يونغر، إن الرئيس الروسي عازم على الاستيلاء على أكثر من مجرد أوكرانيا. وهو ما يتوافق مع آراء كل من جو بايدن، ونائب ترمب السابق مايك بنس.

بايدن سبق له القول إن بوتين يؤمن بأن «أوكرانيا جزء من روسيا»، وإن «أي شخص يظن أنه سيتوقف» إذا جرى التنازل عن بعض الأراضي بوصفه جزءاً من اتفاق سلام «هو ببساطة أحمق». وأضاف: «لا أفهم كيف يظن الناس أنه إذا سمحنا لديكتاتور بلطجي بأن يقرر الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي ليست ملكه، فإن ذلك سيُرضيه. لا أفهم ذلك تماماً». وتابع معرباً عن قلقه: «أوروبا ستفقد ثقتها بأميركا وقيادتها»، و«إن قادة القارة يتساءلون، حسناً، ماذا نفعل الآن؟ هل يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ هل ستكون موجودة؟».

بدوره، أعرب بنس عن خيبة أمله من تراجع دعم الرئيس ترمب لكييف، وذكر أن الرئيس الروسي قد يضع ديمقراطيات أوروبية أخرى «نصب عينيه». وأضاف: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا». وتابع: «حقيقة أننا الآن نتابع منذ قرابة شهرين اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه أوكرانيا، واستمرار روسيا في المماطلة وتقديم الأعذار، إنما يؤكدان هذه النقطة». واستطرد: «أعتقد أن الدعم المتذبذب الذي أبدته الإدارة (لأوكرانيا) خلال الأشهر القليلة الماضية قد شجع روسيا... والأمر لا يقتصر عليّ أنا شخصياً. أعتقد حقاً أنه إذا اجتاح أوكرانيا، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يعبر الحدود، حيث سيضطر رجالنا ونساؤنا العسكريون إلى محاربته».

مايك بنس: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا»

اتفاقية المعادن لا تضمن أمن كييف

في أي حال، ورغم مناورات البيت الأبيض الكثيرة، انقضت الأيام المائة الأولى من إدارة ترمب الثانية من دون بصيص أمل في انتهاء القتال قريباً. وعلى الرغم من تعهد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وتوقيع واشنطن اتفاقية مع كييف تمنح الولايات المتحدة حصة من الإيرادات المستقبلية من احتياطيات أوكرانيا المعدنية، فإنه قد يقرر الانسحاب من البلاد كلياً إذا لم يحصل على تسوية سلمية يصبو إليها. وهنا يؤكد مايكل روبين لـ«الشرق الأوسط»، أن اتفاقية المعادن وحدها «لا تكفي لضمان ألا يغيّر ترمب رأيه مجدداً... ولكن بما أنه ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب».

من جهتها، تقول إيفانا سترادنر، الباحثة في الشأن الروسي في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» لـ«الشرق الأوسط»، إن «صفقة المعادن خطوة في الاتجاه الصحيح، والآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الكرملين، الذي سيلجأ إلى آلته الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كقوة إمبريالية شريرة».

وبالفعل، توصلت إدارة ترمب إلى اتفاق منفصل مع أوكرانيا، أُعلن عنه في 30 أبريل (نيسان)، لمنح الولايات المتحدة حصة في مواردها المعدنية. ولكن مع أن الاتفاق يهدف إلى الإشارة إلى استثمار الولايات المتحدة في مستقبل أوكرانيا، فهو يبدو غير مرتبط إلى حد كبير بالمسألة الأكثر إلحاحاً لها والمتمثلة في حاضرها الذي مزقته الحرب.

لم يُنشر النص النهائي للاتفاقية بعد، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا. وبصفته القائد الأعلى، يمكن لترمب تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا بشكل مفاجئ ودراماتيكي. وحتى مع سعيه لتحقيق مكاسب اقتصادية من أوكرانيا، قد تُقلّص الولايات المتحدة أو تُوقف الدعم العسكري والاستخباري، كما جرى بعد المشادة الكبيرة التي جرت أمام عدسات التلفزيون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال مارس (آذار) الماضي. وما زاد من قوة الشكوك، تأكيد زيلينسكي أخيراً أن ترمب رفض طلباً بقيمة 15 مليار دولار لشراء 10 أنظمة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي.

 

هدف بوتين النهائي تقويض الغرب وإظهار الناتو «نمراً من ورق»

سبق أن حذر مسؤولو الاستخبارات الأميركية من أن أولوية فلاديمير بوتين القصوى لا تزال هي السيطرة الروسية الكاملة على أوكرانيا، وأن أي مفاوضات قد تتلاعب بها روسيا لإطالة أمد الصراع. ولا تزال مسألة الحدود الإقليمية موضع خلاف، لا سيما فيما يتعلق بالأقاليم الخمسة التي تَعدّها روسيا معقلاً لها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ولقد أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أوكرانيا قد لا تستعيد غالبية الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا، ما أثار مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين من أن تؤدي اقتراحاته إلى اعتراف واشنطن بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا. وفيما يتمحور النقاش الآن حول كيفية الموازنة بين التنازلات الإقليمية وضمان عدم استئناف روسيا لهجومها بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، يعتقد المسؤولون الأميركيون أن أوكرانيا تتوسل بشكل متزايد للحصول على مساعدات وضمانات أمنية، لا سيما مع تقدم مفاوضات السلام. أيضاً يقول تقرير في مجلة «فورين أفيرز»، إنه على الرغم من أن روسيا ستظلّ تُكافح لكسب الحرب بشكل كامل، لكنها لن تُضطر للقلق بشأن خسارتها أيضاً. إذ قد تُواصل استراتيجيتها القائمة على تدمير البنية التحتية المدنية لأوكرانيا وإرهاب الأوكرانيين لدفعهم إلى مغادرة البلاد. وبينما تمتلك كييف القوى البشرية والموارد والدعم اللازم للحفاظ على السيادة في معظم أنحاء البلاد، قد تتقدم القوات الروسية ببطء وتُحقّق مكاسب إقليمية، مُنجزةً بذلك هدف بوتين المتمثل في إخضاع أربع مناطق من أوكرانيا لسيطرته الكاملة. مع هذا، يرى التقرير أنه لا يوجد لدى روسيا مسار حقيقي للمضي قدماً في أوكرانيا. فخسائرها في الأرواح لن تتوقف حتى ولو تخلت واشنطن عن أوكرانيا، وستظل الحرب خطأً استراتيجياً لروسيا. غير أن التخلي الأميركي سيثقل كاهل أوروبا بشكل كبير، ويشكك في التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين، ومن المرجح أن يولد توترات متصاعدة بين أوروبا وروسيا. وهنا تقول الباحثة سترادنر لـ«الشرق الأوسط»، إن بوتين غير مهتم بالمفاوضات الصادقة، «هو ليس بحاجة إلى وقف إطلاق النار، لكسب المزيد من الوقت، وإعادة تموضع جيشه، ومواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة مجد روسيا وإظهارها قوة عظمى. إن هدفه النهائي إخضاع أوكرانيا وإظهار أن ناتو مجرد نمر من ورق في دول البلطيق وتقويض الاتحاد الأوروبي». وبالفعل، أعلن بوتين عن العمل على «تقويض الغرب» من خلال الهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات التي تُثير شكوكاً عالمية في عصر «ما بعد الحقيقة». كما أن تشكيك ترمب بالعلاقات مع «ناتو»، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتسببه في اضطرابات اقتصادية من جراء حرب الرسوم التجارية التي يشنها على معظم دول العالم، كلها عوامل قد تساعد سيد الكرملين على مواصلة سياسة المماطلة حتى تحقيق أهدافه.