لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

رئيس «الفرصة المفاجئة» لمرحلة «انعدام الاستقرار»

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة
TT

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

بعد 10 سنوات من الحكومات الاشتراكية المتعاقبة على البرتغال، التي كانت تعرف خلالها بـ«الحصن اليساري المنيع» في أوروبا، استعاد اليمين المحافظ السلطة في الانتخابات التشريعية التي أجريت أواسط الشهر الماضي بقيادة زعيم «التحالف الديمقراطي» لويس مونتينيغرو، وهو الذي لم يكن يراهن أحد منذ أشهر قليلة على قدرته وحظوظه بالفوز واستعادة السلطة بعدما خسرها حزبه في عام 2015. لقد جاء فوز «التحالف الديمقراطي» على الحزب الاشتراكي بفارق مقعدين فحسب في مجلس النواب، الأمر الذي يجعل حصوله على الغالبية البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة قادرة على الحكم مرهوناً بدعم الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حلّ ثالثاً... وكان المفاجأة الكبرى والفائز الحقيقي في هذه الانتخابات. غير أن مونتينيغرو، الذي كان قد تعهّد إبان الحملة الانتخابية بأنه في حال فوزه «لن يكون في حكومته أي مكان للسياسيين العنصريين أو للسياسات العنصرية»، بقي على وعده وقرّر تشكيل حكومة تدعمها أقلية في البرلمان، مراهناً بذلك على «تفاهم» مع الحزب الاشتراكي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتبنّي عدد من بنود برنامجه الانتخابي، مقابل الامتناع عن دعم أي طرح لسحب الثقة من الحكومة حتى نهاية الولاية التشريعية.

في شهر مايو (أيار) 2022، فاز لويس مونتينيغرو برئاسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرتغالي المحافظ بنسبة زادت على 75 في المائة من الأصوات، ولكن في انتخابات غاب عنها المنافسون من الشخصيات البارزة في الحزب... الذي كان دخل مرحلة أفول طويلة بعد انتقاله إلى المعارضة.

والحقيقة أن جميع الاستطلاعات التي أجريت منذ انتخاب مونتينيغرو زعيماً للحزب - الذي كان له الدور الأساسي في المشهد السياسي البرتغالي منذ سقوط الديكتاتورية - لم تكن تسجّل له أي صعود في شعبيته أو أي حظوظ في قيادة حزبه إلى الفوز مجدداً بالانتخابات التشريعية التي كانت تبدو بعيدة نظراً للغالبية المطلقة التي كان يتمتع بها الزعيم الاشتراكي ورئيس الحكومة السابق أنطونيو كوستا في البرلمان. وإلى جانب ذلك، كان ثمّة إجماع بين المعلّقين السياسيين على أن الرجل ليس الشخص المناسب لقيادة الحزب نحو استعادة موقعه، بينما كانت تروج الإشاعات داخل حزبه حول إبدال زعامة جديدة به حال فشله في تحقيق نتائج مُرضية في الانتخابات الأوروبية المقررة مطالع يونيو (حزيران).

وبالفعل، أسماء بديلة كثيرة كانت متداولة في أوساط الحزب الذي شهد أكثر من محاولة للانشقاق أو التمرد، كان مونتينيغرو يجهد على الدوام لإخمادها معتمداً استراتيجية الحذر على الجبهة الداخلية. ولقد نجح أخيراً في التوفيق بين التيارات المتناحرة، كما تبيّن خلال الحملة الانتخابية من مشاركة رؤساء الحكومات السابقين في المهرجانات التي دعا إليها مونتينيغرو... عندما سارع فور إعلان فوزه في الانتخابات إلى استحضار هذه «الروح التوافقية» لمواجهة التحدي الكبير الذي ينتظره.

كيف لا... وليس بمقدوره إلا تشكيل «حكومة أقلية» لا تضمن تلقائياً غالبية أصوات البرلمان، لا سيما، بعدما أصرّ على الإيفاء بتعهده وإبقاء الباب موصداً أمام اليمين المتطرف، مؤكداً: «بالطبع سأبقى على وعدي من أجل حزبي وبلدي والديمقراطية».

الفرصة المفاجئة

عندما أعلن رئيس الوزراء السابق الاشتراكي أنطونيو كوستا استقالته في الخريف الماضي، إثر فضيحة الفساد التي طالت بعض معاونيه، علماً بأنه لم يكن ضالعاً فيها، وكان يتمتع بغالبية برلمانية كبيرة، لم يكن وارداً في حسابات زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي أن تجد البرتغال نفسها مقدمة على انتخابات تشريعية لم يكن جاهزاً لها.

إلا أن ما أعطاه دفعاً معنوياً كبيراً في عزّ حملة الانتخابات التشريعية، كانت الانتخابات المسبقة التي أجريت خلال فبراير (شباط) الماضي في أرخبيل الآزور (في المحيط الأطلسي) الذاتي الحكم. إذ سقطت الحكومة المحلية التي كان يرأسها حزب «شيغا» اليميني المتطرف، وفاز بالانتخابات «التحالف الديمقراطي» الذي كان مونتينيغرو قد نجح في نسجه لخوض الانتخابات التشريعية.

وإلى جانب ذلك، كان مونتينيغرو قد بدأ بعد أشهر من فوزه بزعامة الحزب الديمقراطي الاجتماعي حملة وطنية واسعة لتلميع صورته وترويج أفكاره ضمن برنامج استمر سنتين، أمضى خلالهما أسبوعاً كاملاً في كل مقاطعة من مقاطعات البلاد، وكان يلتقي خلالها بالمواطنين ويستمع إلى همومهم ويتحاور معهم. وطوال هذه الفترة، كان يشدد في لقاءاته على أمرين أساسيين: رفضه تشكيل حكومة ما لم يكن حزبه الأول في الانتخابات، ورفض السماح لليمين المتطرف بدخول الحكومة.

ومن ثم، عندما انطلقت الحملة الانتخابية كانت الاستطلاعات تشير إلى تعادل بين الحزب الاشتراكي و«التحالف الديمقراطي»، وفي نهايتها كانت كفّة الاشتراكيين راجحة بعد المناظرة التلفزيونية بين مونتينيغرو والمرشح الاشتراكي بيدرو سانتوس التي عدّت وسائل الإعلام أن هذا الأخير كان الفائز فيها.

والواقع أن معظم الانتقادات التي كان يتعرّض لها مونتينيغرو منذ توليه زعامة «التحالف الديمقراطي»، كانت تركّز على قلة خبرته في السياسة والحكم، وتقلّبه في المواقف التي يتخذها من قضايا استراتيجية بالنسبة للبلاد، وتراجعه عن بعض القرارات التي كان حزبه قد توافق عليها مع الاشتراكيين.

من هو مونتينيغرو؟

منذ شبابه الأول، كان لويس مونتينيغرو يرافق والديه إلى مهرجانات الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان لسنوات يحتل صدارة المشهد السياسي البرتغالي بعد سقوط الديكتاتورية اليمينية. ثم انتسب إلى تنظيم شبيبة الحزب عشية دخوله كلية الحقوق في جامعة أوبورتو، قبل أن يصبح عضو مجلس بلدية مسقط رأسه، مدينة إسبينيو الصغيرة، بعد تخرجه بأشهر... وهو ما زال في الثالثة والعشرين من عمره.

وخلال تلك الفترة، بنى له منزلاً من 6 طوابق أثيرت حوله تساؤلات كثيرة، كما أثير جدل أيضاً حول العقود التي أبرمها مكتبه مع المجالس البلدية التي كان يحكمها الحزب الديمقراطي الاجتماعي، عندما كان هو رئيساً لكتلته البرلمانية خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2017. في هذه الفترة، شهدت البرتغال سلسلة طويلة من الاحتجاجات الاجتماعية الصاخبة ضد السياسة التقشفية التي فرضتها الحكومة التي كان يرأسها زعيم حزبه، باسوس كويلو، امتثالاً لشروط المؤسسات المالية الدولية... مقابل منح البرتغال مساعدة مقدارها 80 مليار دولار لمنع انهيار النظام المصرفي والنهوض من الأزمة. ويومذاك قال مونتينيغرو جملته الشهيرة: «حياة الناس ليست أفضل... لكن البلاد أفضل بكثير!»، التي استحضرها خصومه خلال الحملة الانتخابية للتحذير من القرارات التي قد يتخذها في حال وصوله إلى رئاسة الحكومة.تشكيله الحكومة الحالية

وبعد 5 أيام من تكليف مونتينيغرو، عاد الرئيس المكلّف إلى القصر الجمهوري ليسلّم الرئيس مارسيلو دي سوسا قائمة بأعضاء حكومته المؤلفة من 17 عضواً، منهم 7 نساء. وتضم تشكيلة الحكومة الجديدة عدداً من الأسماء البارزة في حزبه، على رأسها باولو رانجيل نائب رئيس الحزب الذي سيتولّى حقيبة «الخارجية»، وخواكيم ميراندا الناطق بلسان كتلة الحزب البرلمانية الذي سيتولى حقيبة «المال»، وميغيل بينتو النجم الصاعد في الحزب الذي سيتولى حقيبة «البُنى التحتية والإسكان» ويشرف على عدد من القرارات الأساسية في برنامج الحكومة، مثل خصخصة شركة الخطوط الجوية الوطنية، وتحديد موقع مطار العاصمة الجديد الموضوع منذ عقود على لائحة الانتظار، وكذلك إعادة هيكلة شبكة الخطوط الحديدية.

إلا أن السهولة الظاهرة التي رافقت تشكيل الحكومة بهذه السرعة لا تخفي الصعوبة التي تنتظر رئيسها في ظل استناده إلى أقلية في البرلمان، مع العلم أن أندريه فنتورا، زعيم حزب «شيغا» اليميني المتطرف، تعهّد بإسقاط الحكومة في أول فرصة تتاح له، لا سيما بعدما أوصد رئيس الوزراء الجديد بابها في وجهه، وبعد الاتفاق الذي توصل إليه الحزب الاشتراكي والحزب الديمقراطي الاجتماعي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتهميش «شيغا».

ومن المتوقع هذا؛ أن يزداد منسوب الخصومة بين مونتينيغرو والزعيم المتطرف فنتورا، الذي نال أكثر من مليون صوت. ويذكر أن فنتورا عازم على انتزاع تمثيل مقاطعة جزيرة ماديرا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات المُسبقة، المقرر أن تُجرى في أواخر الشهر المقبل. وكان رئيس الجمهورية قد قرّر حل البرلمان المحلي للمقاطعة، إثر الأزمة السياسية التي نشأت عن ضلوع رئيس الحكومة المحلية في فضيحة فساد، إلى جانب عدد من المسؤولين التابعين للحزب الذي يتزعمه مونتينيغرو.

وللعلم، من أبرز ملامح النزاع المتصاعد بين فنتورا ورئيس الوزراء الجديد أن الأول طالب بعد صدور نتائج الانتخابات بالدخول في حكومة مونتينيغرو، لكن هذا الأخير لم يصرّ فقط على موقفه الرافض، بل اختار التفاوض مع الاشتراكيين على بعض التعديلات في الموازنة العامة الخاصة بتحسين أجور المعلمين وأفراد الأجهزة الأمنية والقطاع الصحي الذين يطالبون منذ أشهر برفع رواتبهم بعد الفائض في موازنة العام الماضي الذي بلغ 1.2 في المائة من إجمالي الناتج القومي.

مع هذا، أعلن الزعيم الاشتراكي الجديد بيدرو سانتوس، أنه لن يترك لحزب «شيغا» التفرّد وحده بالمعارضة، إذ سيصوّت ضد مشروع موازنة العام المقبل، الأمر الذي سيضع حكومة «التحالف الديمقراطي» أمام أول اختبار عسير في البرلمان حول ديمومتها. ولذا، دعا مونتينيغرو في تصريحاته الأولى، بعد تسلمه مهامه رئيساً للحكومة الجديدة، «جميع الأطياف السياسية إلى تعزيز الحوار». وأعرب عن إدراكه صعوبة مهمته؛ إذ لا يضمن سوى 80 صوتاً من أصل 230 في البرلمان. لكنه شدد على أن حكومته عازمة على إنهاء الولاية التشريعية، بقوله: «في هذه المرحلة التي تعجز الدولة عن تلبية الخدمات الأساسية للمواطنين في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان، ليس مسموحاً أن تتحول السياسة إلى عقبة... بدلاً من أن تكون هي الحل لكل هذه المشاكل». ومن ثم، طالب المعارضة بأن تتحلّى بالتواضع والروح الوطنية والقدرة على الحوار، وتوجّه إلى الحزب الاشتراكي قائلاً إن «عليه الاختيار بين المعارضة الديمقراطية أو التعطيل الديمقراطي»، في حين تجاهل كلياً منافسه اليميني المتطرف «شيغا».

مرحلة سمتها «انعدام الاستقرار»

من ناحية أخرى، يدرك لويس مونتينيغرو، رئيس الحكومة الجديد، أنه يدشّن مرحلة سمتها الرئيسية انعدام الاستقرار السياسي والصراع المستميت بين الأحزاب البرتغالية، لاستعادة مواقعها أو ترسيخ صعودها. ومن شأن هذا الواقع أن يفتح الباب واسعاً على كل الاحتمالات في برلمان اضطر للتصويت 4 مرات هذا الأسبوع، قبل أن ينتخب رئيساً جديداً له.

مونتينيغرو يفهم جيداً أنه في ظل المعادلة البرلمانية الراهنة سيضطر للجوء إلى المراسيم، وتحاشي المثول أمام مجلس النواب إلا في حالات الضرورة القصوى خشية المفاجآت التي قد تؤدي إلى سقوط حكومته. ولكن في المقابل، لعلّ مصدر الاطمئنان الوحيد بالنسبة له ولحظوظ حكومته بالاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، هو الأسلوب السياسي الراسخ منذ سنين في البرتغال، يقوم على احترام المؤسسات والكياسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية، خلافاً لما هو شائع في بلدان الجوار مثل إسبانيا وإيطاليا، أو حتى اليونان.

لقد أظهرت الأحزاب البرتغالية غير مرة خلال السنوات الماضية، التزامها هذا الأسلوب الراقي، الذي ربما يعود إلى النظام الجمهوري الراسخ منذ ما يزيد على مائة سنة من غير أن يشكّك أحد في صلاحه. ولا شك في أن الأجواء التي تمّت فيها عملية التسلم والتسليم بين الحزبين الاشتراكي والديمقراطي الاجتماعي... وما رافقها من تفاهمات وتصريحات هادئة، تشهد على هذه الروح التوافقية التي لا يشذّ عنها سوى حزب «شيغا» اليميني المتطرف.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».