دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

حقوقي يساري أزاح الحزب الحاكم بعد عقود في السلطة

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».


مقالات ذات صلة

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

حصاد الأسبوع مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع مارك كارني

مارك كارني... زعيم كندا الجديد أمام تحديَي الانتخابات العامة والتعايش مع دونالد ترمب

سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ بدأ فترة ولايته الثانية في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، وضعت كندا في «عين العاصفة». ذلك أن ترمب لم يتردد في اعتبار

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع بولييف

كندا أمام امتحان انتخابي مهم وسط متغيّرات خطرة

> يتولى مارك كارني قيادة الدفة في كندا على أبواب تحديين صعبين، الأول داخلي ويتمثل بالانتخابات الاتحادية العامة المقبلة المقرّرة يوم بعد غد 28 أبريل (نيسان)

حصاد الأسبوع 
نوبوا يؤدي القسم الرئاسي إثر فوزه الكبير والمفاجئ في الإكوادور (أ.ف.ب)

فوز نوبوا يدعم سياسات ترمب في أميركا الجنوبية

بعد حملة انتخابية محمومة وسط اضطرابات أمنية غير مسبوقة، استدعت تكليف الجيش التصدي لعصابات الاتجار بالمخدرات والمنظمات الإجرامية المسلحة، حقق الرئيس الإكوادوري

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل المواليد؛ ما ينبئ بإمكانية الوصول إلى المستهدفات بحلول عام 2030. جاء هذا الاختراق مقترناً بما أعلنه نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، أخيراً، عن «تسجيل أقل معدل نمو سكاني في البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول من 2024 وكذلك عام 2023، في استمرار لانخفاض معدلات الزيادة السكانية على مستوى ربوع البلاد». وهو ما عدَّه وزير الصحة «إنجازاً يعكس نجاح الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق التوازن بين النمو السكاني والتنمية المستدامة».

وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)

تراجع نمو معدل المواليد لا يعني بالضرورة تراجع عدد السكان أو ثباته. وفيما يخص مصر، فإنها لم تصل بعد إلى نسبة التوازن المستهدفة، التي يتساوى فيها معدل المواليد مع معدل الوفيات أو ما يعرف بـ«السكون السكاني».

ووفق ما أعلنه وزير الصحة المصري، الدكتور خالد عبد الغفار، بلغ عدد السكان في أول يناير (كانون الثاني) 2023 نحو 104.4 مليون نسمة، وارتفع إلى 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025؛ ما يعني أن متوسط معدل النمو السنوي خلال تلك الفترة بلغ نحو 1.34 في المائة، مقارنة بمعدل 1.4 في المائة عام 2024، و1.6 في المائة خلال عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك يعكس «تحولاً إيجابياً نتيجة للسياسات السكانية التي تنفذها الدولة».

عدد سكان مصر بلغ عام 1897 نحو 9.7 مليون نسمة، لكنه تزايد تدريجياً حتى أضحت قضية الزيادة السكانية واحدة من القضايا المدرجة على أجندة الدولة المصرية منذ الستينات من القرن الماضي. وبالفعل، أسّس «المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة» عام 1965. وفي منتصف الثمانينات أُسّس «المجلس القومي للسكان». ومن ثم تواصلت الجهود للحد من الزيادة السكانية، وكان الحدث الأبرز عام 1994 استضافة مصر مؤتمراً دولياً عن السكان والتنمية، لتتخذ الجهود منحًى آخر أكثر كثافةً ترافق مع حملات إعلامية بشعارات لافتة من قبيل «قبل ما نزيد مولود نتأكد أن حقه علينا موجود».

مؤشر إيجابي

لعقود طويلة دفعت الزيادة السكانية إلى اختناق المدن المصرية، والتهمت موارد الدولة وجهود التنمية، وسط شكاوى حكومية مستمرة من نقص الموارد الكافية للزيادة السكانية.

وسبق أن حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً من النمو السكاني، وعدّه «أكبر خطر يواجه مصر في تاريخها». وفي سبتمبر (أيلول) 2023، أثناء افتتاحه «المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية»، قال: «يجب أن يتم تنظيم الإنجاب، وإن لم يتم تنظيمه، فإنه يمكن أن يتسبّب في (كارثة) للبلد».

وأشار السيسي إلى مخاطر النمو السكاني على جهود التنمية، فقال في نهاية عام 2022 إن «النمو السكاني سيأكل البلد». وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قال إن «استمرار النمو بالمعدلات الحالية يعرقل جهود التنمية». وما يذكر أنه عام 2017 عدَّ السيسي «الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان البلاد».

الآن يبدو أن التحذيرات والجهود بدأت تؤتي ثمارها. ورأى الدكتور مجدي خالد، المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان وعضو «اللجنة الاستشارية العليا» لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، في انخفاض معدل المواليد «نتاجاً للسياسات التي تضمنتها الاستراتيجية القومية للسكان». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الانخفاض ليس مفاجئاً ولا عشوائياً، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات إثر تدخلات فاعلة تمت خلال السنوات العشر الأخيرة».

وبينما اتفق مقرّر المجلس القومي للسكان السابق، الدكتور عاطف الشيتاني، مع هذا الرأي، فإنه رأى خلال حوار مع «الشرق الأوسط» تراجع معدل المواليد إشارة جيدة وثمرة لجهود مستمرة منذ الستينات، وأردف: «هناك حقائق عدة لا بد من التعامل معها في هذا المجال في إطار خطة استراتيجية لمواجهة الأزمة بنهاية عام 2030».

وأوضح الشيتاني أن «الدولة تسعى للوصول لمرحلة التوازن السكاني، أي زيادة سكانية صفر، بتساوي معدل الوفيات ومعدل المواليد»، مشيراً إلى أن معدل المواليد حالياً يقترب من مليونين سنوياً، في حين يبلغ معدل الوفيات 600 ألف سنوياً.

وفي يناير الماضي، أعلن «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» في مصر أنه «للمرة الأولى منذ عام 2007 لم تتجاوز أعداد المواليد حاجز المليونين»، لافتاً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2024 بلغ مليوناً و968 ألف مولود، مقارنة بمليونين و45 ألف مولود عام 2023، في حين بلغ عدد الوفيات 610 آلاف شخص خلال عام 2024، مقارنة بـ583 ألفاً خلال عام 2023.

هذا، وساهمت الحملات المستمرة في انخفاض معدل المواليد سنوياً، قبل أن يعود للارتفاع عام 2014؛ ما دفع إلى تكثيف الجهود مرة أخرى، وفق الشيتاني الذي يرى أن «حركة السكان وسلوكهم الإنجابي لا يمكن تعديلهما في يوم وليلة، فهما مؤشران ثقيلان يحتاجان إلى عقود من الجهد».

وعقب أحداث عام 2011 في مصر، قفز معدل المواليد عام 2012 إلى نحو 32 مولوداً لكل ألف مواطن، وشهد عام 2014 أكبر معدل للمواليد 2014، وبلغ مليونين و720 ألف مولود، قبل أن يعاود الرقم الانخفاض تدريجياً في الأعوام التالية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحذر مطلوب

مع هذا، ورغم أن انخفاض معدل المواليد مؤشر إيجابي، يطالب الشيتاني بالحذر في التعامل مع الأرقام ربع السنوية، وانتظار البيانات الرسمية لنهاية العام، لا سيما وأن معدل المواليد موسمي وربما يزيد في فصل الصيف. ويشرح: «هناك مؤشرات أخرى لا بد من وضعها في الحسبان، من بينها معدل الإنجاب. والدولة تسعى لمعدل إنجاب بمتوسط طفلين لكل سيدة بحلول 2028، في حين يصل المعدل الحالي إلى 2.8 طفل لكل سيدة».

ويلفت الشيتاني إلى نتائج المسح السكاني الصحي لعام 2021، التي أظهرت أن معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة لا يتجاوز 67 في المائة، في حين المستهدف 74 في المائة، وذلك مع أن 20 في المائة من المواليد خلال السنوات الخمس السابقة للمسح الصحي كانوا «غير مخطط لهم». وهذا – وفق الشيتاني – يعني أن «هناك نقصاً في المعلومات، ثم إن الوصول لوسائل تنظيم الأسرة يتطلب جهوداً مكثفة في هذا الإطار».

في سياق موازٍ، بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية لإنهاء الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر، التي أطلقها «معهد التخطيط القومي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» في أبريل (نيسان) 2024، تحتاج برامج تنظيم الأسرة إلى استثمار إجمالي قدره 11.1 مليار جنيه (الدولار يساوي 50.9 جنيه في البنوك المصرية)؛ وذلك لتقليل الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر لتصل إلى 8.6 في المائة بحلول 2030 وتجنب مليون و400 حالة حمل غير مرغوب فيها.

هذا، ويهدف «البرنامج القومي لتنظيم الأسرة» إلى «تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة للأسر المستفيدة من برنامج (تكافُل) من خلال رفع وعي الأسر المستهدفة وتطوير عيادات تنظيم الأسرة بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وتقديم خدمات ووسائل تنظيم الأسرة بالمدن والقرى على مستوى الجمهورية، خصوصاً المناطق النائية والمحرومة، ضمن مبادرة رئيس الجمهورية (حياة كريمة) لرفع معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة وخفض معدلات الزيادة السكانية».

ويضاف إلى هذا «توقيع الكشف الطبي، وصرف وسائل تنظيم الأسرة وبخاصة الوسائل الطويلة المفعول، والأدوية بالمجان عن طريق اختصاصيي تنظيم الأسرة والنساء والتوليد في العيادات الثابتة والمتنقلة، والمراكز الحضرية، والمستشفيات العامة والمركزية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة»، بحسب موقع الرئاسة المصرية.

من جهة أخرى، رغم المؤشرات الإيجابية، يؤكد المدير السابق لـ«صندوق الأمم المتحدة للسكان» أن «تحقيق المستهدفات يتطلب المزيد من الجهد ودراسة الأسباب التي دفعت إلى انخفاض معدل المواليد في محافظات معينة في حين يرتفع في أخرى، ومحاولة تكرار التجربة». وللعلم، سجلت محافظة بورسعيد (بشمال مصر) أدنى معدل نمو سكاني في البلاد بنسبة 0.61 في المائة؛ ما يجعلها أول محافظة تحقق «شبه سكون سكاني».

في المقابل، يمثل إقليم الوجه القبلي (صعيد مصر) أكبر نسبة مواليد؛ إذ بلغت 45 في المائة، مع أنه يشكل 39 في المائة من تعداد السكان، «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بداية العام الحالي. وبيّن «الجهاز» أن محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية والغربية والسويس كانت أقل المحافظات من حيث معدل المواليد لعامي 2024 و2023.

بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)

المرأة هي البطل

على الجانب الآخر صرّح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، لـ«الشرق الأوسط» بأن التراجع في معدلات المواليد «مرتبط بتغيرات مجتمعية تتعلق بزيادة مستوى التعليم، ونسب عمل المرأة، وتراجع سن الزواج، إضافة إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية... وصحيح أن الدولة وضعت سياسات وخططاً ونظَّمت حملات إعلامية ووفرت وسائل تنظيم الأسرة، لكن العامل الفاعل والبطل في إحداث تغيير كان المرأة وزيادة وعيها العلمي والاقتصادي والمجتمعي».

ما سبق عوامل لم ينكرها المتخصصون في السكان، لكن الشيتاني وخالد يعتقدان أن إثبات دور العوامل المجتمعية من تعليم وأوضاع اقتصادية يحتاج إلى دراسات. وأكدا أن الحقائق تقول إن هناك سياسات حكومية لمكافحة الزيادة السكانية، وهناك تراجع في معدل المواليد بالأرقام، أي عوامل أخرى تحتاج لدراسة».

وكانت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة لتنمية الأسرة والمشرفة على «المجلس القومي للسكان»، قد أكدت في تصريحات صحافية أخيراً أن «التراجع الحالي في معدل النمو السكاني جاء نتيجة لتحوّل ثقافي مستقر، وليس تأثيراً ظرفياً ناتجاً من ظروف اقتصادية».

حقائق

الفن والإعلام شاركا في المحاولات الحكومية للتوعية

> وسط تحذيرات متكررة من مخاطر الزيادة السكانية في مصر، وتزامناً مع جهود وسياسات حكومية لخفض معدل الولادات، لعب الإعلام دوراً مهماً، عبر حملات إعلانية وأعمال درامية ناقشت الظاهرة، وحاولت التحذير من مخاطرها، بعضها حفر طريقه في ذاكرة المصريين. وكانت أغنية «حسنين ومحمدين... زينة الشباب الاتنين» التي أدتها الفنانة فاطمة عيد في الثمانينات واحدة من أبرز الحملات الإعلامية في هذا الإطار، عبر التركيز على الفرق بين رجلين أحدهما أنجب 7 أطفال والآخر اكتفى بطفلين. أيضاً قدمت فاطمة عيد في الفترة نفسها إعلان «الست شلبية»، وهو إعلان رسوم متحرّكة يحث النساء على التوجه إلى عيادات تنظيم الأسرة. واعتمدت الحملات الإعلانية على نجوم الفن، وشاركت الفنانة كريمة مختار في إعلانات عدة لتوعية المرأة بأهمية تنظيم الأسرة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات. وتوالت بعد ذلك الحملات الإعلانية، التي ركّز بعضها على الرجل ودوره، كالحملة التي شارك فيها الفنان المصري أحمد ماهر ورفعت شعار «الراجل مش بس بكلمته... الراجل برعايته لبيته وأسرته». أو حملات ركزت على المرأة مثل «بالخلفة الكتير... يتهد حيلك وجوزك يروح لغيرك». وأخرى حاولت التأكيد على أهمية الصحة معتمدة شعار «مش بالكترة بنات وبنين... لاء بالصحة وبالتنظيم». وأخرى للترويج لوسائل تنظيم الأسرة «اسأل... استشير». ولم يقتصر الأمر على الإعلانات، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وربما من أشهر تلك الأعمال فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين 1977، وفيلم «الحفيد» بطولة عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار 1974. وتناولت بعض الأفلام تأثير زيادة الإنجاب على الأوضاع الاقتصادية، مثل فيلم «لا تسألني من أنا»، بطولة شادية عام 1984، وفيه باعت البطلة إحدى بناتها لتنفق على باقي أسرتها. وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي حاولت طرح القضية من زوايا عدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما حظيت بعض الأعمال الفنية سواء إعلانات أو دراما بإعجاب الجمهور، فإن أخرى لم تلق استحساناً، مثل إعلان «أبو شنب» عام 2019، الذي جسّد فيه الفنان المصري أكرم حسني شخصية صعيدية بصبغة كوميدية، في إطار حملة توعوية أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الزيادة السكانية تحت عنوان «2 كفاية» واختارت لها شعار «السند مش في العدد». إذ أثارت الحملة يومذاك انتقادات عدّة، وعدّها البعض تشويهاً لمنطقة الصعيد (جنوب مصر).