«أشباح رابعة العدوية» تطارد العمال وترعب الحراس

شهر بعد إنهاء اعتصام «الإخوان».. السكان يهجرون العمارات المجاورة للميدان

«أشباح رابعة العدوية» تطارد العمال وترعب الحراس
TT

«أشباح رابعة العدوية» تطارد العمال وترعب الحراس

«أشباح رابعة العدوية» تطارد العمال وترعب الحراس

«رابعة العدوية».. هي تلك العابدة الناسكة الشهيرة في التاريخ العربي التي يحمل اسمها ميدان مصري كان مجرد ميدان عادي من الميادين الرئيسية في حي مدينة نصر القاهري حتى صار أشهر الميادين المصرية، وربما الأشهر في العالم بعد ما شهده من اعتصامات وأحداث ساخنة في محيط مسجد رابعة المنسوب إليه الميدان الشهير.
لقد تحول ميدان رابعة العدوية إلى رمز شهير ومثير وجدانيا في حياة كل المصريين باختلاف أطيافهم السياسية؛ فهو بالنسبة لجماعة الإخوان ومؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي رمز للصمود والتضحية، بينما يعني للخصوم السياسيين لجماعة الإخوان رمزا للتحرر من قبضة «الإخوان المسلمين» والقضاء على حكمهم يوم قامت الجهات الأمنية بفض اعتصام رابعة العدوية بعد استمراره قرابة أربعين يوما على مساحات شاسعة في كل الشوارع المحيطة بالمسجد.
المشهد الأول في سيناريو بروز «رابعة العدوية» كان يوم الثامن والعشرين من يونيو (حزيران) الماضي، حينما دعت جبهة تجرد الإسلامية إلى الاعتصام في الميدان لمواجهة حملة تمرد المناهضة للرئيس مرسي آنذاك، ليأتي المشهد الأخير دمويا يوم فض الاعتصام الذي خلف وراءه مئات القتلى وآلاف الجرحى والمصابين من مختلف الأطراف.
وما بين المشهدين الأول والأخير تفاصيل كثيرة سيظل الخلاف كبيرا حولها، أما المثير في الأمر فهو ذلك الجانب الإنساني في المسألة وما أصاب سكان المنطقة من مشاعر متباينة تجاه ميدان رابعة العدوية، ورغم اختلافها كانت مشاعر القتامة والانقباض من المكان هي السمة المشتركة بينهم.
بعد مرور شهر على أحداث رابعة العدوية كان المشهد مهيبا وأنا أتفحص أطلال المكان وما تبقى من أشلاء خشبية وحجرية من أنقاض مسجد رابعة التي خلفتها عمليات الترميم والإصلاح التي تتم حاليا بالمنطقة؛ فقد بدا المكان كئيبا موحشا خاليا من الناس إلا من عمال الترميم وإصلاح الطرق المحيطة بالميدان.
لم يكن من السهل بالنسبة لي العثور على سيارة أجرة خاصة (تاكسي) لتوصيلي للميدان أو حتى لأقرب منطقة منه، وكان اللافت للنظر أنني كلما استوقفت تاكسي رفض سائقه التوجه إلى هناك وهو يقول: «رابعة إيه يا ست.. إيه اللي يودينا هناك!!».
لم أفهم السبب حتى عثرت على تاكسي وافق سائقه بعد عناء وأخبرني والحسرة والحزن يكسوان وجهه أن سبب إحجام زملائه هو الهرب من المضايقات الأمنية والبعد عن القلق!
عندما اقتربنا من ميدان رابعة بدأ السائق يشرح لي خريطة تواجد المعتصمين في الميدان قبل فضه: «فهنا كان المستشفي الميداني، وهناك كانت المنصة، وعلى الجانب الآخر كانت توجد الخيام.. واكتشفت أن سائقي كان أحد المعتصمين في رابعة لفترة من الفترات خلال شهر رمضان»!
نزلت من السيارة وأنا أشعر برائحة الموت تفوح من بين ركام الحفر الملقى على الأرض حول المسجد.
كان أول ما لفت نظري نافورة ميدان رابعة العدوية الشهيرة التي اختفت خلف الأغطية بسبب أعمال الصيانة لإصلاح ما أصابها من تدمير خلال الأحداث. تجولت بنظري في أرجاء الميدان من كافة الشوارع المؤدية إليه بحثا عن محلات أو أكشاك بيع أو حتى بوابين (حراس عمارات) فلم أجد شيئا، ولما سألت العمال أخبروني أنه تمت إزالة كافة الأكشاك الموجودة. ولم يكن موجودا سوى كشك توزيع خاص بـ«مؤسسة الأهرام للصحافة والنشر» وكان مغلقا، وطبعا كان من الصعب تصويره لاقترابه من منطقة عسكرية تابعة للشؤون المعنوية بالقوات المسلحة.
عبد القادر حسانين مسؤول العلاقات العامة في أحد الأبراج الموجودة في محيط الميدان قال: «المحلات كلها مغلقة، والناس بيوتها اتخربت بسبب الخسائر التي حدثت للكبير والصغير في المكان، فالأكشاك الصغيرة كلها دمرت، وحتى المول الشهير الموجود هنا خلف جامع رابعة تعرض لتلفيات كبيرة وما زال مغلقا، وقد سمعت أنه مغلق بسبب اكتشاف الأمن لأسلحة كثيرة في دورات مياهه». وقال عبد القادر: «هناك عائلات كثيرة هجرت المباني السكنية الموجودة في ميدان رابعة ويعرضون شققهم فيها للبيع».
وهو ما أكده عبد التواب، بواب إحدى البنايات الذي رفض ذكر اسمه كاملا، وقال: «رأينا ما يشيب له الولدان في أحداث رابعة، فقد كانت الجثث تحيط بنا من كل جانب، وقد تعرض كثير من البوابين زملائي في المكان للقتل يوم فض الاعتصام، وهناك بناية تحت الإنشاء قريبة من ميدان رابعة كان (الإخوان) يحملون جثثهم إليها، وأعتقد أنها ملئت عن آخرها بالجثث، وأشك إن كان مالكها يستطيع تأجير شققها أو بيعها، فلن يشتريها أحد بعد ما انتشر بين الناس من أنها أصبحت مسكونة.. اللهم احفظنا!».
لم يكن أمامي إلا أن أقترب من عمال البناء الذين يرممون المسجد والذين كانوا الوحيدين في المكان، وسألت أحدهم عن عمله، فبدا قلقا وهو يقول لي: «إننا نعاني هنا من مخاوف كثيرة بسبب ما شهده المكان من قتل وقتلى، فالرعب يسيطر علينا، وما زال أمامنا وقت طويل للانتهاء من العمل في هذا المكان الموحش». وقال زميل له كان يقف بجانبه يدعى محمد: «سينتهي العمل في المسجد خلال شهر تقريبا، وسيجري افتتاحه قبيل عيد الأضحى، لكن مشكلتنا مما نراه من أشياء غريبة ونلاحظه داخل المسجد وفي محيطه، فعلى سبيل المثال شعرنا بمن يحاول الإمساك بنا وتقييدنا بقوة ونحن نرفع الركام والبقايا من أرض المسجد وكأن هناك من يمنعنا بالقوة ولا نراه!».
كانت المفاجأة أنه في ظل هذا المناخ فإن المستشفى الخيري التابع لمسجد رابعة يعمل بشكل طبيعي ويستقبل مرضاه يوميا، وعندما سألنا إبراهيم عبد الفتاح المدير الإداري بالمستشفى أكد أنه يعمل بصورة طبيعية حتى في أثناء الاعتصامات، وأنه مفتوح حاليا ولكن الإقبال عليه ضعيف. وقال إنه لم يتوقف إلا يوم فض الاعتصام فقط، مؤكدا أنه لم يتأثر بأي شيء لأنه ليس له علاقة بما كان يحدث في الميدان، وأن المعتصمين كانوا يقيمون أكثر من مستشفى ميداني على امتداد شارع النصر الرئيسي المؤدي للميدان.. وهو الشارع الذي يشهد آثارا كبيرة لأحداث رابعة العدوية.
أما يوسف، حارس الأمن في مدخل المستشفى الخيري التابع لمسجد رابعة العدوية، فقد أشار إلى آثار طلقة رصاص في حديد مدخل المستشفى خلال أحداث فض الاعتصام، وقال: «لقد كنت موجودا في ذاك اليوم وفوجئت بقنابل الغاز الكثيف، أعقبها ضرب نار وحرائق، ووصلت الأمور لذروة خطورتها عصر ذلك اليوم الذي جرى فيه كل الموجودين». وبادرني يوسف متسائلا: «تديني كم سنة؟!». فقلت له: «24 سنة». فضحك قائلا: «أنا عمري 18 سنة فقط، جئت من أقصى ريف مصر بمحافظة الغربية بحثا عن عمل ولقمة عيش وشاء قدري أن أكون حارسا لهذا المكان المخيف والذي تضطرني الظروف للنوم فيه أيضا مجبرا، ولذلك شبت قبل الأوان وكبرت سنوات فوق عمري بسبب ما أشاهده أثناء الدوام الليلي، وعلى سبيل المثال قضيت أمس ليلة مرعبة بعد عمل 24 ساعة متواصلة، حيث كنت أجلس على الكرسي بينما سمعت أصواتا صاخبة تصرخ، وبعدها سمعت أصواتا أخرى لوقع أقدام تمشي مسرعة على الأرض، وعندما نظرت لم أجد أحدا فأصابني الخوف الشديد، فالمكان مهجور تماما بعد غلق المستشفى ومغادرة جميع الموظفين، ولا توجد إضاءة كافية، مما يثير مشاعر الرعب أكثر، ومع ذلك لم أجد بدا من أن أدخل إلى المستشفى وأغلق بابها جيدا علي وأستسلم متعبا للنوم على أصوات صراخ الأرواح الهائمة وخطواتهم المسرعة».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!