تعصف الأزمة السياسية في واشنطن بدورها القيادي على المسرح الدولي، وسوف يكون من الصعب على الرئيس القادم استعادة ذلك الدور الذي تسنمته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما لم يتخذ خطوات حاسمة وسريعة؛ خصوصاً بعد تفاقم الأزمة باقتحام أنصار الرئيس ترمب لمبنى الكونغرس الأسبوع الماضي، في أسوأ انتهاك للمؤسسات الدستورية منذ عام 1812؛ حين غزت بريطانيا واشنطن وأضرمت النار في البيت الأبيض.
وقد جاءت هذه الأزمة السياسية في أعقاب فشل أميركا في معالجة أزمة «كورونا»، بعد أن أصبحت البؤرة الأكبر للجائحة في العالم، ورفضت الانخراط في الجهود الدولية لمكافحتها.
وقد كتب كثيرون ينعون دور أميركا العالمي، حتى قبل اقتحام مبنى الكونغرس في 6 يناير (كانون الثاني)، مؤكدين أن دورها القيادي قد انتهى إلى غير رجعة، وعليها أن تتنافس مع عدة أقطاب أخرى. وقد يكون ذلك صحيحاً، إلا أنه ما زال لدى بايدن فرصة لاستعادة ذلك الدور؛ خصوصاً في ظل عدم وجود بدائل مقنعة حتى الآن لممارسة ذلك الدور.
طالما اعتمدت المنظمات الدولية وكثير من الدول على دور الولايات المتحدة في معالجة الأزمات الدولية، سياسية كانت أو أمنية أو اقتصادية، نظراً إلى إمكانياتها الاقتصادية والسياسية، وقدرتها على التنسيق والإقناع. ولهذا كان مستغرباً أن الولايات المتحدة كانت شبه غائبة في المواجهة الدولية لأزمة «كورونا» العام الماضي، وهو أمر لم يحدث منذ عقود. ففي أزمة 2008 الاقتصادية، قامت الولايات المتحدة بجهود كبيرة لتنسيق الإجراءات الدولية وإعادة الاقتصاد العالمي إلى مساره الصحيح. أما في أزمة «كورونا» فلم تنسق كثيراً مع الدول والمنظمات الدولية؛ بل دخلت في خلاف علني مع منظمة الصحة العالمية، وقررت الانسحاب من المنظمة. وبعد أن ظهر فشل الولايات المتحدة في التعامل مع الجائحة، لجأت الدول التي كانت تعتمد عليها في الماضي إلى البحث عن مصادر أخرى للمساعدة في مواجهة الوباء. ومن المتوقع أن يركز بايدن بالدرجة الأولى على معالجة التداعيات الداخلية أولاً لهذه الأزمات، ولكنه أكد منذ انتخابه قناعته بالترابط بين الأبعاد الداخلية والخارجية، وعزمه خصوصاً على معالجة الضعف الذي اعترى دور أميركا على مستوى العالم، وأكد ذلك عدد من مستشاريه.
وقد اشتكى الحلفاء الأوروبيون من الخصومات المتكررة مع الرئيس ترمب حول قضايا الدفاع والسياسة الخارجية، ونزعته إلى الحلول الأحادية في رأيهم. وأضافت النزاعات التجارية إلى تبرم أوروبا، حين فرضت أميركا رسوماً على السلع الألمانية والفرنسية، مثلاً، على خلفية النزاع بين شركتي «بوينغ» و«إيرباص»، وامتدت هذه النزعة الحمائية لتشمل فرض رسوم جائرة على صادرات الألمنيوم والصلب من شركائها في الخليج. وساهمت هذه الإجراءات وغيرها في إضعاف قدرة الولايات المتحدة على القيادة العالمية. وبالمثل، شنت أميركا حرباً اقتصادية ضد الصين، من دون اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية أولاً.
وزادت الأزمة الصحية من عزلة أميركا وابتعادها عن المسرح الدولي، وضاعف من ذلك الموسم الانتخابي الطويل؛ خصوصاً بعد خسارة ترمب ورفضه قبول النتيجة. أما اقتحام مبنى الكونغرس من قبل أنصار الرئيس فهو ضربة موجعة لسمعة أميركا الدولية وقدرتها على القيادة.
فماذا يمكن لبايدن أن يقوم به لاستعادة المكانة والقيادة الدولية للولايات المتحدة؛ خصوصاً في منطقة الخليج العربي؟
على الرغم من القصور الذي وضحته في تعامل إدارة ترمب مع العالم الخارجي، فإنها حققت عدداً من النجاحات المهمة التي غطى عليها انشغال الإعلام بالأزمات الأخرى التي فشلت في مواجهتها.
سأتطرق إلى ثلاثة أمثلة من النجاح خلال السنة الماضية، وسيكون من المفيد لإدارة بايدن الاستفادة منها والبناء عليها.
المثال الأول: استعادة الاستقرار في أسواق النفط، حين نجح ترمب في شهر أبريل (نيسان) 2020 في الوساطة بين روسيا ومنظمة «أوبك»، والتوصل إلى اتفاق بينهما ساعد على استقرار الأسواق وأسعار البترول. وكان مدفوعاً بطبيعة الحال بمصالح منتجي النفط الأميركيين، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للبترول في العالم. ويمكن لبايدن أن يقوم بهذا الدور الإيجابي إذا اختل التوازن مرة أخرى في أسواق النفط وتدهورت الأسعار.
المثال الثاني: دعم الاستقرار الاقتصادي في عدد من الدول التي عانت من تداعيات «كورونا». فقد لعبت أميركا دوراً مهماً، وإن كان أقل من دورها خلال أزمة 2008، حين عملت مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومع مجموعة العشرين أثناء رئاسة المملكة العربية السعودية للمجموعة. فقام «الاحتياطي الفيدرالي» بضخ مليارات الدولارات لزيادة السيولة، وجعلها في متناول العديد من البنوك المركزية في دول عدة تضررت من الجائحة، مما خفف من التقلبات في أسعار الصرف والأسواق المالية.
ولكي تحافظ أميركا على قيادتها المالية، يتعين على الإدارة الجديدة تقوية القواعد الأساسية للاقتصاد الأميركي نفسه، والتي تعرضت للاهتزاز، مما أدى إلى ارتفاع كبير في معدل البطالة والعجز التجاري وعجز الميزانية، وانخفاض في الإنتاج. ومن دون إعادة بناء الاقتصاد، سيكون من الصعب على أميركا ممارسة دورها القيادي مرة أخرى.
المثال الثالث والأبرز: هو دور الولايات المتحدة في الخليج الذي لم يتأثر كثيراً بالأزمات الداخلية في أميركا؛ بل على العكس قامت بتعزيز وجودها العسكري، وبالتالي قوة الردع ضد إيران بعد أن تمادت الأخيرة في هجماتها على ناقلات النفط، والتحرش بالقوات الأميركية في مياه الخليج، وتهريب الأسلحة إلى الميليشيات الحوثية وغيرها. فمنذ بداية عهد ترمب قامت أميركا بتحدي الاستفزازات الإيرانية في الخليج، فتراجعت طهران. ومع أن أميركا لم ترد مباشرة على هجوم إيران على المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية في سبتمبر (أيلول) 2019، فإنها قامت في يناير 2020 بتصفية قاسم سليماني الذي كان مسؤولاً مباشراً عن تنفيذ سياسات طهران في الخليج، ولم تتمكن إيران من الرد بقوة. وانسحبت أميركا من الاتفاق النووي بعد أن وصفته بأنه غير كافٍ لمواجهة تصرفات إيران. وتمكنت من إقناع معظم الأطراف الأخرى بالحاجة إلى توسعة نطاق أي مفاوضات مستقبلية لتشمل برنامج الصواريخ الإيراني وأنشطتها التي تزعزع استقرار المنطقة، ودعمت مشاركة دول المنطقة في تلك المفاوضات.
ويظهر أن إدارة بايدن القادمة تعتزم البناء على تلك الإنجازات ومعالجة أوجه القصور فيها. ففي لقاء مع «سي إن إن» الأسبوع الماضي، قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، إن برنامج الصواريخ الإيرانية «يجب أن يكون على الطاولة» إذا عادت الولايات المتحدة إلى تلك المفاوضات. ووافق على الحاجة إلى توسعة المشاركة فيها لتشمل دول الجوار مع اتساع نطاق المفاوضات.
وإذا استطاعت الإدارة الجديدة تكرار مثل هذه الإنجازات في مناطق أخرى من العالم، فقد تتمكن أميركا من استعادة دورها القيادي مرة أخرى.
7:47 دقيقة
TT
كيف يستعيد بايدن دور أميركا العالمي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة