انطلقت في تونس الاجتماعات الأمنية والسياسية التونسية - الليبية الرفيعة المستوى؛ تمهيداً لتنظيم «مؤتمر الحوار السياسي الليبي الأول» الذي سينظم في العاصمة التونسية، في حين أعلنت موفدة الأمم المتحدة بالنيابة ستيفاني وليامز نجاح اجتماعات جنيف بين كبار القادة العسكريين الليبيين ضمن ما عرف بمجموعة «5+5» في تحقيق اتفاق هدنة أمنية شاملة غير مسبوقة.
هذا المؤتمر الأممي الليبي فتح آفاقاً للتسوية السياسية الشاملة والانتعاش الاقتصادي في دور دول الجوار الليبي، إلا أنه كشف في الوقت نفسه عن صراعات جديدة بين الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الأزمة الليبية. وبينما تحركت السلطات في كل من تونس والجزائر والمغرب ومصر دعماً لـ«التسوية السياسية» التي يمكن أن تخدم مصالحها الاقتصادية على المديين القصير والبعيد، تعاقبت تحرًكات العواصم الغربية لمحاولة التأثير في مقررات هذا المؤتمر، المرشح أن يحدد مصير بلد تقدر احتياطه من النفط بأكثر من 20 مليار البراميل، ومن الغاز بعشرات تريليونات من الأمتار المكعبة. فهل يسفر مؤتمر تونس عن الحوار الليبي عن نتائج ملموسة بما يخدم الاستقرار الأمني والمصالح الاقتصادية في ليبيا والدول المجاورة لها، وخاصة في البلدان التي انهار اقتصادها بشكل كبير بعد أزمة «كوفيد - 19» مثل تونس، أم يحصل العكس؟ وهل يساهم الانفراج الأمني والسياسي في ليبيا في إنقاذ دول جوارها من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
تكشف تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين عن ليبيا، بعد زيارات قاموا بها إلى تونس والجزائر والرباط وطرابلس والقاهرة والخرطوم وجنيف، عن وجود «إرادة سياسية لإيقاف الحرب المدمرة التي تعصف بليبيا منذ حرب الإطاحة بحكم معمر القذافي في 2011»، حسب تصريح أدلى به لـ«الشرق الأوسط» الدبلوماسي التونسي السابق في ليبيا والخبير لدى الاتحاد الأوروبي البشير الجويني. لكن الجويني استطرد وحذر من «الإفراط في التفاؤل، ومن تجاهل لعبة المصالح المحلية والعربية والدولية في ليبيا، ومن تعمّق الخلاف حولها بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا وأميركا وروسيا وتركيا...».
الدبلوماسي التونسي ذكّر بكون القمة العربية التي عقدت في تونس مطلع شهر أبريل (نيسان) 2019 بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دعمت «المؤتمر الوطني الجامع» الذي كان مقرراً عقده بجنوب ليبيا يوم 19 من الشهر ذاته. إلا أن الأوضاع العسكرية تفجّرت بعد أيام من مغادرة القادة العرب وأمين عام الأمم المتحدة تونس... وكانت الحرب الشاملة في العاصمة طرابلس ومعظم مدن الغرب الليبي.
من جانبيه، لم يستبعد علي اللافي، الإعلامي التونسي الخبير في الشؤون الليبية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تضرم بعض الجهات مجدداً «فتيل الحرب والاقتتال بالقرب من حقول إنتاج النفط وموانئ تصديرها؛ وهو ما يعني إجهاض أحلام الشعب الليبي وشعوب دول الجوار التي لديها مصالح كبيرة في ليبيا، وتطمع في أن تفوز بجانب من صفقات إعادة البناء ومن فرص إنعاش الحركة التجارية والسياحية معها». وأشار اللافي إلى كون ليبيا كانت توظف قبل حرب الإطاحة بالقذافي في 2011 نحو مليوني عامل عربي، نصفهم من مصر ونصفهم الآخر من تونس وبقية دول الجوار.
أيضاً، أورد السفير الليبي السابق بتونس أحمد النقاصة، أن ليبيا كانت الشريك الاقتصادي الأول لتونس قبل ثورات 2011، وأن المبادلات الرسمية وغير الرسمية معها كانت توفر مورد الرزق الأول لملايين التونسيين، خاصة في محافظات الوسط والجنوب.
فرصة للمصانع وللتجار
في اتجاه موازٍ، يعتبر عدد من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين، منهم محسن حسن، وزير التجارة التونسي السابق، أن «الاتفاق السياسي الليبي، تتويج لمحادثات تونس وسويسرا وألمانيا والمغرب ومصر، يمكن أن يكون فرصة لإعادة الحياة للمبادلات التجارية ولاتفاقيات التصدير السابقة بين مئات المصانع التونسية والجزائرية والمصرية مع المؤسسات الليبية ومع بقية الأسواق الأفريقية في دول جنوبي الصحراء». وأورد محسن حسن في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تطبيع الأوضاع في ليبيا قد يساعد تونس على تحقيق نسبة نمو سنوية في الناتج الخام لا تقل عن نقطة كاملة، ويمكن أن يساعد السلطات والأطراف الاقتصادية على تخفيف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة في البلاد. كذلك، أورد محمد المسيليني، وزير التجارة السابق والقيادي في حزب الشعب القومي العربي، أن عشرات الآلاف من صغار التجار والمستثمرين التونسيين يعتمدون على شراكتهم مع ليبيا. بيد أن المسيليني أعرب عن تخوفه من تعثر مسار المصالحة والتسوية السلمية في ليبيا بعد تعاقب حالات غلق المعبرين الحدوديين بين تونس وليبيا في مستوى «رأس الجدير» و«الذهيبة - وازن»، بسبب خلافات بين كبار المهرّبين وقادة بعض المجموعات العسكرية الليبية، والاضطرابات الاجتماعية في الجهات الحدودية من الجانب التونسي.
السودان ودول جنوبي الصحراء
وفي السياق نفسه، قال حكيم بن حمودة، الخبير الاقتصادي لدى الصناديق الأفريقية والدولية والوزير التونسي السابق للاقتصاد والمالية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدراسات التي أجرتها مؤسسات الاتحاد الأفريقي تؤكد أن دول الجوار الليبي، وخاصة تونس والسودان ومصر، تأثرت اقتصادياً سلباً بالحرب الطويلة التي تشهدها ليبيا من 2011». وتوقع بن حمودة أن «تنتعش اقتصاديات هذه الدول والقطاع الخاص فيها في حال نجاح مسار الانفراج السياسي والأمني في ليبيا بعد المؤتمر الأممي في تونس».
أما الدبلوماسي سعيد بحيرة، الكاتب العام السابق لوزارة الخارجية وممثل تونس في «الاتحاد من أجل المتوسط في برشلونة»، فقد نوّه بـ«الصبغة الاستراتيجية للشراكة بين ليبيا وجيرانها، وخاصة مع تونس ومصر والجزائر والمغرب». وذكّر بالمبادرات السياسية التي سبق أن صدرت خلال الأعوام الماضية في تونس، ومن بينها المبادرة الثلاثية التونسية – الجزائرية – المصرية، ومبادرة «دول الجوار الليبي»، وأدت إلى عقد عشرات المؤتمرات والاجتماعات عن ليبيا في تونس ومصر والدول المغاربية.
أيضاً، نوّه سعيد بحيرة بإعادة تعيين سفير لتونس في طرابلس بعد سنوات من الغياب. وأثنى على خصال السفير التونسي الجديد الأسعد العجيلي، الذي كان مكلفاً ملف العلاقات مع ليبيا في الخارجية التونسية، وسبق له أن تابعه عن قرب عندما كان سفيراً لتونس في القاهرة. لكن بحيرة – بدوره - حذّر من «الإفراط في التفاؤل بسيناريو تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس ربطاً بعلاقة بالانفراج السياسي والأمني والعسكري في ليبيا»، واعتبر أن «القوى العظمى، التي تتحكم في المتغيرات الإقليمية والحروب بالوكالة التي تشهدها المنطقة، قد لا تسمح لبعض الدول العربية مثل تونس بأن تلعب دوراً يتجاوز حجمها في ليبيا»، خاصة عند إبرام صفقات إعادة الإعمار.
خلافات فرنسا وإيطاليا وتركيا
في هذه الأثناء، حذر عدد من الخبراء العسكريين والاقتصاديين التونسيين، مثل الجنرال محمد المؤدب، المدير العام السابق للأمن العسكري وللقمارق (الجمارك) في تونس، من «سيناريو انحياز تونس إلى أحد أطراف النزاع الليبي أو إلى إحدى الدول التي ثبت تدخلها المباشر في الحرب الليبية عسكرياً ومادياً، ومن بينها تركيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة وإيطاليا، وبعض الدول العربية». وناشد الجنرال محمد المؤدب في تصريح لـ«الشرق الأوسط» المسؤولين التونسيين والقيادات العربية «التزام الحياد التام مستقبلاً في النزاع الليبي خدمة لمصالحهم ودعماً لجهود صناع القرار في ليبيا من أجل وقف الحرب والانتصار على كل الميليشيات المسلحة المحلية والأجنبية».
لكن، في هذه الأثناء، وعلى الرغم من «التصريحات المتفائلة بالتسوية السياسية» الصادرة عن الموفدة الأممية ستيفاني وليامز وعن السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند، بعد زيارات الأخير إلى كل من باريس والقاهرة وأنقرة، فإن بعض المراقبين يتعاملون بحذر مع تصريحات قيادات دول أخرى فاعلة في ليبيا، بينها فرنسا وروسيا وإيطاليا وتركيا. إذ أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن «مبادرة فرنسية» جديدة لإعادة تجميع قيادات من كل دول الجوار الليبي، بما فيها السودان وتشاد والنيجر. والسؤال الذي يُطرح هنا هو: هل سيتعلق الأمر بمجهود تكميلي لمسار الحوار السياسي الأممي الذي ينظم في تونس وأعلنت عنه ستيفاني وليامز بعد مشاورات مع الرئيس التونسي قيس سعيّد في قصر قرطاج... أم بمسار بديل ومشروع موازٍ؟
وهل سوف تقدم المبادرة الفرنسية «مشروعاً جديداً للتسوية» تحسباً لفشل مؤتمر تونس، أم تكون مجرد تحرك للضغط وضمان مصالح باريس والشركات الفرنسية في ليبيا في مرحلة إعادة الإعمار؟
كذلك... هل لن يشوش تحرك باريس بقوة عشية انطلاق اجتماعات تونس عن ليبيا على التحركات التي قام بها أخيراً في المنطقة وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان مايك بومبيو ومارك إسبر، والقائد العام لقوات «أفريكوم» الجنرال ستيفان تاونسند، والسفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند؟
المنذر بن عيّاد، الخبير التونسي في العلاقات الأميركية - العربية، لم يستبعد في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تسعى بعض العواصم الإقليمية والأوروبية إلى «تمديد الأزمة»، وإلى «تأجيل موعد الاتفاق السياسي الليبي - الليبي» إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. كذلك، لم يستبعد بن عيّاد «تأجيل» التسوية السياسية في ليبيا إلى ما بعد تحقيق توافقات واضحة في بقية «بؤر التوتر والنزاعات الإقليمية»... وبينها الخلافات الأميركية - الروسية والتركية - اليونانية والفرنسية والإسرائيلية حول مستقبل شرق المتوسط وتوزيع حقول الغاز والنفط التي اكتشفت فيه..
حقيقة الأمر، أن كل السيناريوهات واردة؛ لأن المعركة تمسّ بلداً عضواً في «منظمة الدول المصدرة للنفط» عدد سكانه 6 ملايين نسمة... وتقدر بعض الدراسات أن أكثر من ثلاثة أرباع ثرواته الباطنية لم يقع الكشف عنها بعد أو لم يبدأ استغلالها.
«حقول النفط المشتركة»
على صعيد متصل، يتطلع خبراء ومسؤولون سياسيون في تونس والجزائر ومصر وبقية دول الجوار الليبي إلى أن يؤدي الانفراج السياسي والأمني في ليبيا إلى إعادة تفعيل مشاريع شراكة اقتصادية عملاقة بين ليبيا وجيرانها، بما في ذلك في قطاع المحروقات والغاز الصخري أو ما يسمى بـ«غاز الشيست».
ولقد أثبتت الدراسات المشتركة قبل ثورات 2011، أن حدود ليبيا مع جيرانها، وخاصة مع مصر شرقاً ومع تونس والجزائر غرباً مناطق غنية جداً بحقول المحروقات غير المستغلة وبـ«صحارٍ تزخر بالغاز الصخري الذي قد يجعل من ليبيا خامس أكبر دولة منتجة له في العالم». وتجدر الإشارة إلى أنه سبق أن اتفقت القيادة الليبية في عهد معمر القذافي، مراراً، مع نظيراتها في تونس والجزائر ومصر على الاستغلال المشترك لبعض الثروات الباطنية، براً وبحراً، من بينها حقل «البوري» في السواحل التونسية - الليبية. كذلك اتفقت على إنشاء «مناطق اقتصادية حرة مشتركة» في المحافظات الحدودية تركز فيها مصانع ومؤسسات تجارية وزراعية وتنموية.
وعلى الرغم من تعثر تنفيذ بعض القرارات السابقة، فإن اقتصاديات الكثير من المدن في الجنوب التونسي، مثل تطاوين وبن قردان ومدنين وجربة وقابس وصفاقس، تعتمد على المبادلات مع ليبيا، وأصبحت تحتضن «أسواقاً مشتركة» عملاقة يؤمها سنوياً ملايين الجزائريين والسياح الأوروبيين والمواطنين.
أيضاً ناقشت سلطات تونس والجزائر وليبيا قبل 2011 الاستغلال المشترك للمحروقات داخل نطاق منطقة غدامس الحدودية، الذي يمتد في مساحات شاسعة حسب الدراسات الجيولوجية في الصحراء التي تربط بين البلدان الثلاثة. وسبق لشركات نفط وغاز عربية وأوروبية وأميركية أن دخلت في سباق للفوز بصفقات التنقيب والإنتاج في «المثلث الحدودي الليبي – التونسي - الجزائري» في غدامس، إلا أن كل تلك الصفقات تعثرت وتسببت في خلافات مع القذافي ومستشاريه، وأجهضت بعد سقوطه.
ومن جهتها، سبق لـ«صوناتراك»، مؤسسة النفط والغاز العملاقة في الجزائر، أن أبرمت اتفاقات مع الجانب الليبي قبل 2011 بهدف أن يستغل البلدان معاً ثروات حقلي «الوفاء» الليبي و«الرار» الجزائري، بيد أن الاضطرابات الأمنية وإغلاق حقل «الوفاء» الليبي بعد 2011 أثر سلباً على قدرات الإنتاج حقل «الرار» في محافظة إيليزي.
ومعلومٌ، أنه سبق لليبيا وتونس والجزائر ومصر أن دخلت منذ 40 سنة في نزاعات حول بعض حقول النفط والغاز الموجودة بالقرب من الحدود البرية أو في عرض البحر. وبلغ الأمر حد التلويح بالحرب مراراً بين ليبيا وكل من مصر وتونس. وأيضاً، لجأت الحكومتان التونسية والليبية إلى التقاضي في آخر عهد الرئيس الحبيب بورقيبة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بسبب خلافات حول آبار نفط في حدودهما البحرية وبالقرب من «الجرف القاري».