هل يمكن أن تحصل مفاجأة تعيد خلط أوراق سباق الرئاسة الأميركية، أقله لدى الديمقراطيين؟ سؤال تصاعدت احتمالاته أخيراً مع البروز المفاجئ لأسهم المرشح المغمور بيت بوتيجيج، رئيس بلدية مدينة ساوث باند في ولاية إنديانا، قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات التمهيدية في ولايتي آيوا ونيوهامبشير. إذ منحت استطلاعات الرأي بوتيجيج (37 سنة) في هاتين الولايتين تقدّماً لافتاً إلى جانب متصدِّرَي السباق في الحزب الديمقراطي، وهم جو بايدن وبيرني ساندرز وإليزابيت وارين.
هذا التقدم قد يكون من الصعب تجاهله، إذا ما تمكن بوتيجيج من الاحتفاظ بزخم حملته الانتخابية في المراحل المتقدمة من السباق. ونشير إلى أن هذا المرشح لفت الأنظار، ليس بسبب مظهره أو تمرّده، بل لنجاحه في جمع التبرّعات، الذي كان إنجازاً مذهلاً لشخص لم يشغل منصباً سياسياً أعلى من رئيس بلدية مدينة يربو عدد سكانها بقليل عن 100 ألف نسمة.
اسمه بيتر «بيت» بول مونتغمري بوتيجيج من مواليد 19 يناير (كانون الثاني) 1982، وهو سياسي أميركي يعد أول شخص مثلي الجنس يسعى للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية. وكان بوتيجيج قد أطلق حملته في 14 أبريل (نيسان) 2019، واكتسب قوة دفع كبيرة في منتصف عام 2019 عندما شارك في العديد من المناقشات في قاعات البلديات والمنتديات. وفي بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اعتبره العديد من وسائل الإعلام واحداً من أربعة مرشحين ديمقراطيين «من العيار الثقيل».
- بطاقة شخصية
ولد بيت بوتيجيج، المتحدر من أصل مالطي - ويعني اسم عائلته «أبو دجاج» -، في ساوث باند بإنديانا. وهو الابن الوحيد لجوزيف بوتيجيج وجنيفر آن مونتغمري. والده من مواليد بلدة همرون في مالطا، وكان قد درس اللاهوت، ليغدو كاهناً يسوعياً قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة، ويبدأ في ممارسة التعليم كأستاذ للأدب في «جامعة نوتردايم» العريقة في ساوث باند لمدة 29 سنة. وتلقى ابنه بيت تعليمه الجامعي في اثنتين من أشهر جامعات العالم وأرقاها، وهما «هارفارد» الأميركية و«أوكسفورد» البريكانية (بموجب «منحة رودز»).
بين عامي 2009 و2017، شغل بوتيجيج منصب ضابط استخبارات بحرية في احتياطي البحرية بالولايات المتحدة، برتبة ملازم. وفي عام 2014، خدم في أفغانستان لمدة 7 أشهر وحصل على ميدالية الثناء المشترك للخدمة وجائزة وحدة الاستحقاق المشتركة. ومن 2007 إلى 2010 عمل مستشاراً في شركة الاستشارات الإدارية الشهيرة «ماكينزي وشركاه».
- في المعترك السياسي
شغل بوتيجيج منصب رئيس بلدية ساوث باند من يناير 2012 إلى يناير 2020. ونشط في الحملات السياسية للمرشحين الديمقراطيين. كذلك هُزِم في انتخابات 2010 لمنصب وكيل الخزانة في إنديانا قبل انتخابه عمدة لساوث باند في العام التالي، ليغدو أصغر عمدة لمدينة يزيد عدد سكانها عن 100 ألف مواطن. وفي عام 2015، اعترف علناً بمثليته، وفي وقت لاحق من ذلك العام أعيد انتخابه بأكثر من 80 في المائة من الأصوات. وفي عام 2017، ترشّح لمنصب رئيس اللجنة الوطنية في الحزب الديمقراطي لكنه فشل.
بالنسبة للشرق الأوسط، سبق لبوتيجيج القول إن الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 في أعقاب هجمات «11 سبتمبر (أيلول) 2001» له ما يبرّره. إلا أنه يدعم الآن سحب القوات الأميركية من المنطقة، مع الحفاظ على وجود مستمر لأجهزة الاستخبارات. وهو رغم التزامه بتأييد إسرائيل، فإنه يفضل حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ويعارض ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وكذلك دعوات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتطبيق القانون الإسرائيلي في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. ومن جانب آخر، أعرب عن استمرار تمسكه بالعمل مع المملكة العربية السعودية لصالح الشعب الأميركي، ودعم إنهاء حرب اليمن. كذلك انتقد قرار ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، التي يقول منتقدون إنها أعطت تركيا الضوء الأخضر لشن هجومها العسكري على الأكراد السوريين.
- مواقفه السياسية الداخلية
أما في الشأن الداخلي، فلقد دعم بوتيجيج تحقيقات مجلس النواب الأميركي لإقالة الرئيس دونالد ترمب، قائلاً: «لقد أوضح أنه يستحق أن يتم عزله». لكنه قال أيضاً إنه سيكون هناك «الكثير من الفوائد» إذا ما هُزم ترمب في عام 2020 مع أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يسعون لتجديد انتخابه بدلاً من عزله من منصبه. وخلال الحملة الرئاسي الحالية، فإنه بنى استراتيجيته على فكرة «التغيير بين الأجيال»، وسرعان ما بدأ صعوده يثير الخوف، ليس فقط في صفوف «الحرس القديم» في الحزب الديمقراطي، بل، خصوصاً، في تيار اليسار الراديكالي.
إذ أثار المرشح الشاب غضب أعضاء مجلس شيوخ حاليين محنكين وحكام ولايات حاليين وسابقين، لأن الناخبين يتوقون إلى قيادة من خارج واشنطن ومن جيل الشباب، حسب صحيفة «ذا هيل».
واليوم، التيار اليساري يعتبره خصماً كبيراً يمكن أن يهدد حظوظه في استقطاب الفئات الشابة، التي تميل بطبعها نحو الوجوه الشابة، رغم انحيازها الطبيعي نحو التجديد والتمرد على التقاليد. ومع أن حملته لم تركز حتى الساعة على استقطاب الفئات الشابة، (حل بوتيجيج في آخر استطلاع بولاية آيوا ثالثاً متخلفاً بمسافة عن بيرني ساندرز وإليزابيث وارين لدى جيل الشباب بين 18 و29 سنة)، كما هو معهود من مرشح يفترض أن يعتبر التقرّب من جيل الشباب أولوية له، كما فعل جون كنيدي وبيل كلينتون. لكن إعلان بوتيجيج أنه ترشح لاستكمال مسيرة الرئيس السابق باراك أوباما، قرع جرس إنذار لدى يساريي الحزب الديمقراطي.
- حملة مالية ناجحة
المقلق الآن بالنسبة إلى منافسيه أنه على الرغم من تمكن ساندرز من الاحتفاظ بالمرتبة الأولى لناحية جمع التبرّعات، مع تحقيقه نحو 34.5 مليون دولار خلال الربع الأخير من العام الماضي، جمع بوتيجيج نحو 25 مليون دولار. وبذا تقدّم على نائب الرئيس السابق جو بايدن الذي جمع نحو 23 مليوناً، وهو ما وضعه في الصفوف الأولى بين المرشحين الديمقراطيين، ويمكّنه من تمويل كبير لحملته الانتخابية مع اقتراب الانتخابات التمهيدية.
وحسب حملته، تلقى بوتيجيج حتى الآن أكثر من مليوني تبرّع من أكثر من 733 ألف شخص منذ دخوله السباق، بينهم 326 ألف شخص تبرّعوا له في الربع الأخير من عام 2019، متجاوزاً في ذلك ساندرز الذي تبرع له 300 ألف شخص في المدة نفسها. ومع جمعه نحو 76 مليون دولار عام 2019، يثبت بوتيجيج أنه قوة غير متوقعة في جمع الأموال، رغم أنه لم يكن شخصية معروفة. ومقابل تعرضه للانتقادات، بسبب مغازلة المانحين الأثرياء، أشادت حملته الانتخابية بأنه «مدعوم بالطاقة الشعبية من جميع الولايات الخمسين، وبأن متوسط قيمة التبرعات التي حصل عليها في الربع الأخير من العام الماضي بلغ 34 دولاراً». ودافع بوتيجيج عن قبوله التبرّعات من كبار المانحين، بالقول «إن هزيمة ترمب لا يمكن أن تتحقّق إذا خضنا المعركة وإحدى يدينا مكبلة».
مدير حملته مايك شموهل قال في مذكرة يوم الأربعاء، إن بوتيجيج «عزز نفسه كمرشح رئاسي رفيع المستوى». وأضاف أنه فعل ذلك «ليس من خلال الاستفادة من قائمة جمع الأموال أو الحساب المصرفي لعضو مجلس الشيوخ، أو شخص كان قد خاض انتخابات للرئاسة من قبل»، في إشارة إلى كل من ساندرز ووارين. إلا أنه على الرغم من أن قوته المالية كانت واضحة منذ عدة أشهر، ومن تحسّن وضعه في السباق الرئاسي بعد الاستطلاعات التي أجرت في آيوا أخيراً، فهو لا يزال يواجه أسئلة مهمة حول قدرته على توسيع قاعدة دعمه بما يتجاوز الناخبين البيض.
- كسب الأقلية اللاتينية
في هذا السياق، عمدت حملة بوتيجيج إلى ترجمة العديد من أنشطتها ومنشوراتها إلى الإسبانية، وتوزيعها حتى في احتفالات التجنيس مستهدفة الناخبين اللاتينيين. ويبحث المرشحون الديمقراطيون راهناً، وكذلك الرئيس ترمب، عن طرق جديدة لاستغلال الأحداث، وبث الرسائل باللغة الإسبانية لاستمالة ما يقرب من 32 مليون ناخب لاتيني مؤهل، وهي الأقلية المرشحة للتفوق على الناخبين السود كأكبر كتلة تصويت للأقليات في الولايات المتحدة خلال العام المقبل.
فقد بلغ عدد اللاتينيين الذين صوتوا في انتخابات مجلس النواب عام 2018، 11.7 مليون ناخب، أي ضعف ما يقرب من 6.8 مليون صوتوا عام 2014، التي اعتبرها مركز «بيو للأبحاث» أنها أكبر زيادة فردية على الإطلاق بين انتخابات منتصف المدة وأخرى. ولم تكتف حملة بوتيجيج بالتركيز على ساحة المعركة المبكرة في الولايات التي تعيش فيها أقلية لاتينية كبيرة كولاية نيفادا، بل أيضاً على المناطق الريفية في آيوا ونيوهامبشير، حيث تقول إنه يجري تجاهل الناخبين اللاتينيين.
- اليساريون يناصبونه العداء
هذه المعطيات والأرقام والتقدم الذي تحققه حملة بوتيجيج، أفقدت يساريي الحزب الديمقراطي الصواب، مع إحساسهم بأن فرصة «القبض» على الحزب، قد تضيع مع مرشح يحمل العديد من نقاط القوة، ليس أقلها مثليته، التي قد تلقى على الأقل تأييداً؛ خصوصاً في الولايات ذات الكتل السكانية الكبرى والأكثر ليبرالية، ككاليفورنيا ونيويورك وفلوريدا. فقد أعلن بوتيجيج تأييده لتعديل قانون الحقوق المدنية من خلال قانون المساواة الفيدرالي، بحيث يحصل المثليون على حماية فيدرالية غير تمييزية. كما يعارض الحظر المفروض على مشاركة المتحولين جنسياً في الخدمة العسكرية الذي فرضه ترمب.
وحقاً، شنت مجلات راديكالية ومنابر يسارية عدة ضده حملة شرسة، واصفة إياه بأنه «جمهوري متخف». فصعوده المفاجئ يرعبهم، خصوصاً الجيل الشاب منهم من الذين فازوا أخيراً في مقاعد بمجلس النواب في انتخابات 2018، أمثال أليكساندريا كورتيز. ورغم تفضيلهم لساندرز، فإن كرههم لبوتيجيج يفوق اعتراضهم على كل من بايدن ووارين. ولتفسير ذلك جمعت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» قائمة من التفاسير المحتملة على «تويتر»، بما في ذلك أن اليسار قد يعتبره خائناً لجيله أو انتهازياً صارخاً أو ممثلاً عن فئة احترافية مظلمة وغير موثوقة. كما أجرت مجلة «أتلانتيك» أيضاً استطلاعاً خلص في النهاية إلى أن المزيد من عهد باراك أوباما الذي وعد به بوتيجيج قد يكون أمراً لا يمكن هضمه من التقدميين. لكن هذه التفاسير لا تزال عامة جداً، ولا تفسر غضب اليساريين من منافس رئاسي يحتل حتى الآن المركز الرابع. فآيديولوجيته لا تختلف عن السيناتورة إيمي كلوبوشار ومايكل بينيتس، وكلاهما من المعتدلين سياسياً أكثر من بوتيجيج، الذي دعا من بين أمور أخرى، إلى رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً، وإدخال خيار الرعاية الصحية العامة، وتوسيع حجم المحكمة العليا وإلغاء الكلية الانتخابية.
- تخوف من استقطابه الشباب
من ناحية ثانية، اليساريون يعتقدون أن الشباب يقفون إلى جانبهم، مستندين إلى استطلاع أخير لـ«كينيباك» عن شعبية ساندرز بين من هم تحت سن الثلاثين. وقال كل من النائبين جو كراولي وأليكساندريا كورتيز: «نحن لا نمثل فقط حملتنا ولكن حركتنا». وعبر ممثلو جناح ما يعرف بـ«الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون» المعبؤون «عمّا يجب أن يكون عليه الحزب الديمقراطي»، في رسالة إلى صحيفة «نيويورك تايمز». وكتب وليد شهيد المتحدث باسم «ديمقراطيو العدالة» الموالية لكورتيز، في تغريدة على «تويتر»، «إن الصراع هو بين الأجيال»، مقتبساً جملة الزعيم اليساري الإيطالي الراحل أنطونيو غرامشي الشهيرة: «أميركا القديمة تموت، أميركا الجديدة تكافح من أجل الولادة. الآن هو وقت الوحوش».
لذلك ما يثير قلق تلك المجموعات اليسارية الشابة التي تؤمن بأن أمامها فرصة جدية لخوض معركة رئاسية ناجحة، أن صعود بوتيجيج قد يهددها. فهو فضلاً عن كونه أحد المحاربين القدامى، وفخوراً بمسيحيته، ومستشاراً سابقاً لشركة «ماكينزي» الشهيرة، يعتقد البعض أن أسلوبه في إحداث الصدمات الشخصية أقرب إلى ميت رومني من ساندرز أو حتى كورتيز. في نظر اليساريين الشباب الراديكاليين، فإن بوتيجيج ليس مجرد عدو آيديولوجي، بل هو أسوأ من ذلك.
ومما يثير قلق اليساريين أن معظم الناخبين غير راديكاليين بشكل حازم. لهذا السبب، وعلى الرغم من تشكيكه في برامج مثل «الرعاية الصحية للجميع والتعليم الجامعي المجاني»، فإن بوتيجيج ليس في منافسة مباشرة مع ساندرز. فهو يتنافس على الناخبين مع وارين، حيث أنصارها الليبراليون عرضة أكثر لتكنوقراطيته. وإذا نجح اليساريون في تشويه سمعة بوتيجيج وإضعافه، فإن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي تعزيز حظوظ وارين، أقرب منافسي ساندرز.