د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

التعليم الخاص والديمقراطيّة الاجتماعيّة

أسست الديمقراطية الاجتماعيّة جاذبيتها على ديمقراطية التعليم والحق في التعليم وواجب الدولة في تلبية هذا الحق بشكل مجاني. فالحق في التعليم مجاناً ومن دون استثناء شكَّل بالفعل مضمون الديمقراطية الاجتماعية ومحرك التغيير الاجتماعي، الذي عرفته المجتمعات كافة.
ولكن مع تراجع الاشتراكية وصعود الرأسمالية، وتمكنها من تحقيق انتصارات، على الأقل إلى الآن، فإن مبادئ الديمقراطية الاجتماعية قد تصدّعت بقوة.
سنضرب مثالاً على هذه التصدعات الكثيرة الخطيرة، وأغلب الظن أن التعليم أقوى هذه التصدعات وأكثرها تأثراً.
طبعاً ظاهرة التعليم الخاص عالمية وليست حكراً على بلداننا، كما أن المخاوف التي عبَّرت عنها النخب استناداً إلى دراسات وبحوث لم تشمل مجتمعاتنا فقط. ذلك أن كل مجتمع بنى تصوره للتقدم والتطور بالرّهان على المدرسة العموميّة وديمقراطية التعليم ومجانتيه، باعتبار أن القضاء على الجهل وتنمية العقول بالمعرفة يمثلان شروطاً لا غنى عنها لركوب قطار التنمية.
بالنسبة إلى الفضاء الأوروبي، مثلاً، فإن مسار التعليم العمومي له تاريخ طويل، وعلى الرغم من بروز ظاهرة التعليم الخاص، فإن هذا الأخير لم يضرب التعليم الأوروبي العمومي الذي ظل محافظاً على وظائفه من منطلق كونه مؤسسة أولية للتنشئة الاجتماعية التربوية. بمعنى آخر ظلَّ الحق في التعليم مكسباً قوياً لم تتنازل عنه الدولة ولم تبدِ تراخياً في القيام بواجبها إزاء الحق العام في التعليم، مع مراعاة ما عرفته العملية التربوية من استحقاقات جديدة تُسهل الاستيعاب وتأخذ بعين الاعتبار جانب المعاصرة شكلاً ومضموناً.
إذن لا نستطيع أن نتحدث عن أزمة مدرسة عمومية في البلدان الأوروبية، بقدر ما هناك منافسة بين التعليم العمومي والخاص. ومع ذلك فقد تعالت أصوات حذرت من تأثير التعليم الخاص وتكريسه للطبقية بين التلاميذ والطلبة، وكيف أنّه يمس جوهر فكرة العدالة في التمتع بالظروف نفسها والمضامين نفسها، مهما كان المستوى الاقتصادي للتلميذ. بل إن عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو الاشتراكي الخلفية والمعروف بمناهضته للعولمة والرأسمالية، أعلن أن المدرسة أضحت فضاء للتمايز الاجتماعي.
بالنسبة إلى مجتمعاتنا، فإن الأمر خطير جداً، وأعتقد أنه لا يقارب بالطريقة والوعي نفسهما، حتى وإن كانت الظاهرة التي نطرحها عالمية، وليست خاصة ببلد دون آخر.
ما يجعل الأمر مختلفا عندنا هو أن تاريخ المدرسة العمومية قصير، مقارنة بتاريخ المدرسة العموميّة في أوروبا، ذلك أن تاريخ تجربتنا في التعليم العمومي بدأت مع بناء الدول العربية الحديثة الاستقلال آنذاك، أي أن العمر الفعلي لديمقراطية التعليم ومجانيته لا يتجاوز السبعين عاماً. وهو ما يفيد بأن ثلاثة أجيال على أقصى تقدير استفادت من هذه التجربة، خاصة أن بدايتها كانت قوية وجدية، لأنها مثلت رهاناً حقيقياً للنهوض بمجتمعاتنا التي كانت ترزح في الأمية والجهل.
المشكلة اليوم أن غالبية الدول التي عُرفت بريادتها في مجال التعليم مثل تونس والمغرب ومصر وغيرها، والتي استفادت من إطاراتها والمتخرجين فيها دول عربية وأوروبية كثيرة، هي اليوم تعرف بشكل متفاوت ونسبي أزمة تعليم عمومي.
نعم التعليم العمومي الذي تخرج فيه أحمد زويل ونجيب محفوظ ومحمود المسعدي ومحمد آركون ومحمد عابد الجابري... لم يعد يتمتع بالهيبة والجدوى نفسهما، لأنه تحول من مصدر مشروعية ومصداقية للدولة، إلى عبء اقتصادي ينهك كاهل الميزانيات المنهكة. لذلك فتحت دولنا الباب على مصراعيه للتعليم الخاص وشجعت أصحابه، ولم تكن متشددة في المتابعة ولا صارمة في المقاييس، وتعاملت مع التعليم الخاص كحل لتخفيض تكلفة التعليم ومصاريفه. وإذا ما حاولنا إمعان النظر في الامتيازات التي حاول إظهارها التعليم الخاص في بلداننا، خصوصاً في مرحلتي الابتدائي والثانوي، فسنجد أنه ركز على إيلاء اللغات الأجنبية مكانة مميزة، من خلال إدراجها بشكل مبكر وفي تخصيص مساحات زمنية مهمة في جدول الدراسة. ففي التجربة التونسية مثلا يتميز التعليم الخاص بتعليم اللغة الفرنسية من السنة التحضيرية، إضافة إلى تخصيص عدد الساعات المدرجة للغة العربية نفسه، وتدرّس الإنجليزية من السنة الأولى الابتدائية. لذلك هناك تلميذان اليوم في تونس: تلميذ يدرس في المدرسة العمومية ويبدأ في تعلم اللغة الفرنسية في السنة الثالثة الابتدائية، وآخر ينطلق في دراستها من السنة التحضيرية. وهو ما يعني أن التمايز أصبح خاصية التعليم سواء في تونس أو في كثير غيرها من بلداننا العربيّة.
المشكلة الأكبر أن المضامين في المدرسة العمومية التي تنسحب أيضاً على المدرسة الخاصة، فيها كثير من الحشو بشكل يبني علاقة متوترة بين التلميذ والمعرفة، الشيء الذي جعل المدرسة فضاء، فهي تؤدي وظائف متناقضة، بمعنى أنها تقدم المعرفة، ولكن طريقتها في تقديم المعرفة تنتج ذواتا مضغوطة وغير منشرحة في علاقتها بالمعنى والفكرة.
الخطير جداً هو أنه في اللحظة التي اشتدت فيها الحاجة لوظيفة المدرسة العموميّة في مجتمعاتنا، التي تعرف أزمة متعددة الأبعاد، نجد أن هذه المدرسة بدأت تستقيل من ممارسة أدوارها التأسيسية الأصلية، ويحدث ذلك بتشجيع بعض دولنا للخوصصة في التعليم من دون حذر ورصانة، باعتبار أن تكريس الطبقية بشكل غير مباشر وقبول عدم المساواة في تحصيل بعض المعارف واللغات، إنما يعنيان في مجتمعات بصدد التحول والتغير إذكاء للاحتقان الذي مرده تزايد الشعور بعدم العدالة، أو بما يمس فكرة العدالة في مجال التعليم.